1) كيف تضيع الموهبة من بين يدي صاحبها، كم يبكي كثير من الناس على مواهبهم التي ماتت وقد كانت نبتة خضراء صغيرة فلم يتعاهدوها بالسقي والرعاية، كم تتحسر على موهوب تراه مبدعا فيما يقدمه ولكن موهبته تضمحل يوما بعد يوم بإهمال منه أو بإعانته للآخرين على تبديدها حتى تتصرم وتتلاشى شيئا فشيئا وتنتهي وكأن لم تكن موجودة أبدا.
2) الموهوب حين يجد نفسه يرتقي في سلم الإبداع هل له أن يتركها لتتطلاطمها أمواج الاستهلاك، حتى تغرق ويخسر الناس مبدعا كان بإمكانه أن يقدم الكثير، إن آفة الإبداع تكمن في الاستهلاك القاتل وهو السم البطيء للموهبة حيث يترك الموهوب إبداعه رهين طلبات الآخرين الذين يريدون ويريدون، ويريدون، من غير أن يسمحوا للمبدع بلحظة تأمل وتفكر أو لحظة استزادة وتثقّف أو تثاقف وترو، من غير أن يسمحوا له حتى أن يبري دواته، فيظل حبيس إشاراتهم لا يعمل إلا من خلالها، فتراه وهذه حاله قد تبرمج ببرامجهم، ونسي موهبته وانحاز إلى الرؤى التي تتقاذفه وكأنه في بحر لجي عميق لا قرار له، ولا يستطيع النجاة منه، وتكون الموهبة هي الطوق الذي يلتف حول رقبته ويجره به الآخرون لخدمتهم بينما بإمكانه أن يجعل من موهبته طوقا آخر لا لجره وإنما لنجاته من استغلال الآخرين إذا تبنى ذاته وأخلص لموهبته.
3) الموهوب حين يسلم نفسه لهذه الآفة آفة الاستهلاك فإنه ينسى موهبته ويذوب في مشاريع الآخرين ويتبنى رؤى غير رؤاه ويصبح مجرد آلة طيعة للخدمة أو ترسا بسيطا في آلاتهم، فيرونه سائرا في نفس رؤاهم فيجعلونه مجرد مركب صغير يمتطونه للوصول إلى مآربهم، هكذا إذا لم تتبن موهبتك مشروعا فإن الآخرين سيضمونك إلى مشاريعهم، هكذا إذا لم تبرمج نفسك وطاقتك لخدمة موهبتك فإن الآخرين سيبرمجونك ضمن مشاريعهم وخططهم، وسيذهب كل سعيك هباء من بين يديك ويقدم في سبيل غير سبيلك الذي تريد، وليس لك أن تتفاجأ بعد أيام وسنيين من الكدح والتعب على لا شيء سوى أثار لا تعتد بها ولا تستطيع أن تقدمها في قالب واحد فأما أن تكون شتاتا لا جامع له أو أنها ذهبت في المصب الذي أريد لها وليس لك الحق منها في شيء فهي ما عادت ملكك وإنما ملك لمن برمجك من أجلها ولمن وضعها جزء من مشروعه.
4) وقد ينجر الموهوب للاستهلاك بطريق آخر حيث ينسى موهبته ويذوب في مشاريع الآخرين ولكن هذه المرة بشكل أكثر سلبية إذ يرونه يسير خارج إطار رؤاهم فيشغلونه بمعاركهم وينشغل هو بمنازعاتهم وتمنعاته من الانضواء في مشاريعهم، مدعيا لنفسه التميز والأصالة والمحافظة على النقاء والطهارة، محافظا على موقعه "في محلك سر" رافضا أي مس يدنس موقعه مقاوما كل لبس يشوه الحقيقة المتخيلة التي لا تتألق إلا في ذهنه، فينشغل عن موهبته بردود الفعل التي وإن قدمت ما قدمت في الدفاع والمماحكة والحجاج فإنها تظل تمثل صدى لصوت غير صوته وموهبة غير موهبته وإبداع غير إبداعه ومشروع غير مشروعه، بل يسير كل ما يقدمه في سبيل تسويق مشاريع الآخرين، من خلال عملية التداول المفتعلة التي يختلقها وينشغل بها، وكأن لم يكن لديه مشروع يحتاج منه إلى تبني أو موهبة تحتاج إلى صقل وإبداع يحتاج إلى ممارسة مستمرة حتى يستمكن من أدواته ويضع اسمه في مصاف المبدعين الآخرين.
5) وليت شعري ما أكثر مواقع العمل والمؤسسات التي تستهلك المبدع في تروسها وتلوكه بين أسنانها فتعتصره حتى لا يتبقى فيه شيء من الموهبة، وكم هي المناسبات الرسمية والأهلية التي تستفزز جهود المبدع لينطلق في رحابها فيتوه في صحاريها ويضيع ويضيّع موهبته ويتلاشى من بين يديه ألقها ويذهب كل شيء ولا يلقى حتى نفسه.
6) وكم هم المبدعون الذين تمت برمجتهم بحسب المناسبات فلا يستطيع أحدهم أن يبدع إلا في إطار المناسبة، فتراه لا يجد جده إلا إذا اقتربت منه المناسبة قاب قوسين أو أدنى حينها فقط تلتمع لديه الأفكار وتنطلق فيه روح الحماسة الإبداعية، بينما المبدع الحقيقي من لا يحبس نفسه على المناسبة فينطلق ويصدح بموهبته في كل آن ويختبر قدراته في كل حين ويتبنى نفسه كموهوب إلى أن يصل إلى حد الاحتراف فينال قصب السبق فيما سخر نفسه من أجله.
7) ليس المعنى الذي أردت أن أوحي به أن ينقطع الإنسان عن مجموعه البشري وأهله وناسه وزمانه ومكانه والممارسات التي لا يجد لها الجد إلا في الدفقة المناسباتية، ليس ما أردت أن ينقطع الإنسان عن كل ذلك لينضم في سلك نخبة تجترح القطيعة الاجتماعية والزمانية والمكانية أسلوبا للرقي والتقدم وتعتبر كل ما سواها وهدة وتخلفا ودنوا وإنما أردت أن ينطلق المبدع في مشروعه ويتبنى موهبته، أن ينطلق من همه ويرتقي بمجموعه البشري فيعيش أحلامه وأحلامهم ويحلق بهم ومعهم ويجعل من المناسبات ومن المشاريع ومن الآخرين فرصا مواتية له ولهم لا ليستغل فيها أحد الطرفين الآخر وإنما فرصا لنجاحه ونجاحهم، فرصا ليجرب فيها موهبته ليستمكن إبداعه بشكل أكبر ويتقن أدواته ويمتلكها بمهارة وبقوة وحذق متميز فلا يستسلم للآفات الاستهلاكية القاسية القاتلة، وليجعل من كل كبوة فرصة جميلة للانطلاق والنجاح والإنجاز.
وليكن حماسه الأول والأخير ليس الآخرين ولا مشاريعهم ولا المناسبات وإنما حماسه الأول والأخير هو الإنجاز والإنجاز حتى يتكامل مشروعه شيئا فشيئا وتكبر النبتة الصغيرة وتزداد اخضرارا يوما بعد يوما فيصبح الموهوب مبدعا متمكنا من أدواته ويضع أسمه علما بارزا في المجال الذي وهبه والإبداع الذي تميز فيه.
التعليقات (0)