أثارت تصريحات العضو البارز في حزب كوادر البناء (إصلاحي معتدل) حسين مرعشي حول اعتقاده بوجوب إجراء انتخابات رئاسية مبكرة قبل أيار/مايو 2005 ردود أفعال مختلفة أبرزها من تمثّلات الجناحين الرئيسيين (اليمين واليسار) ورغم اعتبار عضو اللجنة المركزية لكوادر البناء علي هاشمي تصريحات مرعشي بأنها " تُمثل رأياً شخصياً " وأن الحزب " لم يطرح مثل هذا الموضوع " إلاّ أن أهمية تلك التصريحات تأتي بُعيد جلاء الملامح الرئيسية لتشكيلة المجلس النيابي السابع واللاعبين الأساسيين فيه، كما أنها تأتي في ظل فوران من الجدل السياسي الواسع واللقاءات والزيارات المكوكية بين مختلف التيارات حول من سيخلف الرئيس خاتمي في أيار / مايو 2005 وهي انتخابات لها من الأهمية ما يُوازي ظروف المرحلة الداخلية والخارجية، فعلى المستوى الداخلي تنبع أهميتها من قياسها بالأحداث التي مرّت بها الجمهورية الإسلامية منذ تسلم السيد محمد خاتمي رئاسة الجمهورية في الثالث والعشرين من مايو 1997 وحتى الآن وهي مرحلة مُفعمة بالأحداث والوقائع أهمها تبلور تيار الثاني من خرداد وصعوده شعبياً عقب انتخابات الرئاسة السابعة ومن ثم بداية السقوط لأجندته وشعاراته إبّان فترة نيابة المجلس السادس بعد بروز انشقاق بين جبهة المشاركة (إصلاحي متطرف) وحزب كوادر البناء (إصلاحي معتدل) حول ترشّح الشيخ هاشمي رفسنجاني لانتخابات عام 2000 البرلمانية، ثم ازدادت رقعة الفتق بين الفرقاء قبيل انتخابات المجلس النيابي السابع الأخيرة وما أعقبها من تشتت في المواقف والتصريحات، يُضاف إلى كل ذلك أن مرحلة الحركة الإصلاحية (الجدلية) التي استمرت لأكثر من سبع سنوات أفرزت مفاهيم ومواقف سياسية جديدة وتحالفات من نوع " اتحاد المشتركات " وليس التماهي التنظيمي والغائي، فلم تكن الأحزاب التي كانت تُؤيد الاقتصاد المُؤمم وتعارض سياسات تحرير الاقتصاد (اليسار الديني مثالاً) تنتهج نفس النهج بل أصبحت هي الراعية لشعارات الخصخصة، لذلك فإن الوصف الذي أطلقه المرشح المستقل في الانتخابات الأخيرة علي شكوهي هو أفضل توصيف لما يجري " إن القوى السياسية المكونة هي بمثابة أعضاء محفل سلطوي واحد تراصوا إلى جوار بعضهم البعض تحت أي ظروف ويدعمون بعضهم البعض في المنافسة مع الجماعات الأخرى " .
كما أنه وفي هذه المرحلة ظهرت أزمة تعديل قانون الصحافة (أغسطس 2000) والمحادثات السرية مع الولايات المتحدة الأمريكية التي قام بها إصلاحيون متطرفون في سفارات واشنطن بأوربا، وكذلك تقديم اللائحتين الخاصتين بتوسيع صلاحيات رئيس الجمهورية والإشراف البرلماني على هيئة الإذاعة والتلفزيون وكافة الأجهزة والمؤسسات التابعة لإشراف الولي الفقيه، وتدخل الأخير في أكثر من أزمة وحلحلتها، وأخيراً أزمة أهليّة المترشحين لانتخابات المجلس النيابي السابع في العشرين من فبراير المنصرف وما أعقبها من إفرازات وتطورات مهمّة على الساحة الإيرانية أهمها عودة المحافظين بخطاب سياسي واقتصادي جديد، وكذا بروز ظاهرة المستقلين الصاعدين بفضل ظروف الأحزاب السياسية الناشئة في القمة والمقصورة على العاصمة والمدن الكبرى فقط .
أما على المستوى الخارجي فإن العلاقات الخارجية لطهران تسير بوتيرة هادئة وبقدرة جيدة على تحجيم واحتواء المشاكل المتتالية خصوصاً أن السياسية الإيرانية الخارجية لا تقوم على عامل متغير واحد بل هي حصيلة مجموعة من المتغيرات الوطنية والإقليمية والدولية، باستثناء أزمة الملف النووي مع الوكالة الدولية والولايات المتحدة الأمريكية التي أعلنت مؤخراً بأنها ستفرض 13 عقوبة على إيران لمنعها من الحصول على تقنية نووية .
ملف انتخابات الرئاسة التاسعة
مع قرب انتهاء ولاية الشيخ هاشمي رفسنجاني مطلع العام 1997 وإجهاض دعوة عطاء الله مهاجراني وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي الداعية إلى إجراء تعديل في الدستور ليتمكن الشيخ الرئيس من إعادة ترشّحه لدورة ثالثة بدأت طلائع لموجات سياسية وحزبية شابة في الظهور بقوة فارضة نفسها بخطاب متناغم مع نزعة الشاب وحالة الفُتوّة الضاربة في المجتمع الإيراني، كان معظمها وليد مراجعات غائرة في القشرة الصلبة لبعض الأحزاب الشائخة التي تبلورت في العقد الأول للثورة وما قبله، والبعض الآخر كان اجتراراً لكيانات سياسية بدأت في الاصطفاف من جديد بعد ارهاصات سياسية متلاحقة، وكانت هذه الجماعات المتناثرة تسعى نحو بعضها البعض للتكتل في جبهة واحدة عُرِفَت فيما بعد بـ "جبهة الثاني من خرداد " وبعد إخفاق هذه الجماعات في إقناع الدكتور حسن حبيبي (مساعد رئيس الجمهورية في عهد رفسنجاني لمدة ثمانية أعوام) توجهت أنظارهم نحو المهندس مير حسين الموسوي رئيس الوزارة السابق في حكومة الإمام الخامنئي عندما كان رئيساً للجمهورية (أكتوبر 1981 – يوليو 1989) إلاّ أن انسحاب المهندس موسوي قبل شهر من موعد بدء الحملة الانتخابية قد أربك الساحة السياسية إلى الحد الذي عرّض الطلائع السياسية الجديدة الصاعدة إلى أول اختبار حقيقي في خياراتها وشخوصها ومدى قدرتها على التعاطي مع مفاجئات الساحة الإيرانية، إلاّ أن إعلان حجة الإسلام السيد محمد روح الله خاتمي عن نيته للترشح بدفوع من مُجمّع علماء الدين المناضلين (روحانيون مبارز) وبتشجيع ومباركة من المرشد الأعلى قد رَتـَقَ الفتق الذي كاد أن يتسع، فتداعت جموع الطلائع السياسية الجديدة التي ُعرِفَت فيما بعد بجبهة الثاني من خرداد نحو تأييد السيد خاتمي، وكانت مُحصلة الانتخابات هو فوز السيد خاتمي على نظرائه من المترشحين وهم علي أكبر ناطق نوري رئيس البرلمان السابق ومحمدي ري شهري وزير الاستخبارات ومحكمة رجال الدين السابق والسيد رضا زادة إي مساعد رئيس السلطة القضائية إبّان رئاسة آية الله يزدي، وكانت نسبة الفوز مُذهلة حيث وصلت إلى ( 83.49 % ) وهو ما مهّد الطريق لجبهة الثاني من خرداد لأن تهيمن على المجلس النيابي السادس في فبراير من العام 2000 .
ورغم حداثة التشكّل الإصلاحي وصيرورته كجبهة حاضنة لأطياف الطلائع الجديدة من اليسار واليمين إلاّ الحوادث المتكررة والمُتماسة مع الخيارات الخاصة لمكوناته جعلت من فرصة التحالفات الاستراتيجية أمر مُحال بل تحولت في بعض المراحل إلى تحالفات موسمية وفي أحيان أخرى مماحكات تُنذر بمكروه، لذا فالمتابع لحركة الساحة السياسية في الجمهورية الإسلامية يرى بأن مواقف بعض التيارات الإصلاحية لم يكن بنفس حدة المتطرفين من جبهة المشاركة بل وأن البعض منهم آثر تحييد موقفه والسكوت، خصوصاً بعد أن ضمنوا تأييد مجلس صيانة الدستور لأهلية منتسبيهم كما حصل لحزب كوادر البناء، وحتى مُجمّع علماء الدين المناضلين روحانيون وهو أقرب حلقة إصلاحية لنواة السلطة الدينية قد خفّف من حدة انتقاده للمجلس الرقابي في تلك الفترة بعد أن أعيد تأييد عدد من كوادرها في الفرز الثاني، لذا فإن الشكل الحالي للساحة السياسية الإيرانية هو كالتالي :
بعد غربلة الساحة الإيرانية من بعض العناصر صار من المتوقع أن تلتقي ثلاثة اتجاهات في حلف غير مُعلن وغير مُحدد المسار، فبالإضافة إلى عقلاء الجناحين (اليمين واليسار) يبقى اتجاه ثالث بدأ يشق طريقه بهدوء نحو مواقع السلطة، وهو تيار المستقلين الذي يقوده عملياً بعض الشخصيات التي حافظت على علاقاتها الداخلية وجعلت بينها وبين الأحزاب العاملة مسافة ما تقيها شبهة التحزب، ومن أبرز أؤلئك الأمين العام لمجمع تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي وهو قائد قوات حرس الثورة الإسلامية السابق أما الثاني فهو حجة الإسلام طه الهاشمي ممثل الولي الفقيه في حوزة قم ومالك امتياز صحيفة انتخاب، والغريب أن الكثير من الأحزاب التي صرّحت بأنها لن تُعلن قوائم عن انتخابية خاصة بها في الانتخابات التشريعية الأخيرة لجأت إلى تقديم مرشحيها على هيئة مرشحين مستقلين لكسر أي حواجز نفسية أو فئوية لدى الناخب الإيراني الذي يبدو بأنه ملّ من حالة المشاحنات بين الأحزاب، وفي الأخبار المتداولة يُقال بأن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية قد يقف ضمنياً وذوقياً مع التوجهات المستقلة البعيدة عن المغامرات السياسية .
وفي عملية استشراف أوليّة يُمكن الوقوف على أبرز الشخصيات (من التيار المحافظ من يمينه حتى يساره) المُرشحة للانتخابات الرئاسية المُقبلة وهم الدكتور علي أكبر ولايتي وزير الخارجية السابق طيلة أربعة عشر عاماً وهو مطمح اليمين المعتدل، وأجزاء من المستقلين والدكتور حسن روحاني الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الذي اكتسب شهرة غير عادية بفضل إدارته النوعية للملف النووي الإيراني، والدكتور غلام علي حداد عادل الحائز على أعلى الأصوات في الانتخابات التشريعية السابعة وأحمد توكلي الذي دخل في أكثر من معركة منافسة لانتخابات رئاسية سابقة ولم يُحالفه الحظ، والدكتور علي لاريجاني رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون وأحد القريبين من المرشد ومن دوائر سياسية نافذة، إلاّ أن حركة الترشيحات الداخلية للمجلس النيابي السابع الذي سيبدأ أعماله في مايو القادم ستُحدد مصير توكلي وحدّاد بالنسبة للانتخابات الرئاسية القادمة، فالأخيرين يُواجهان ضغوط متزايدة من جهتين محافظتين الأولى تتمثل في جمعية المؤتلفة والرابطة الإسلامية للمهندسين وجمعية أنصار خط الإمام والقائد الداعين إلى تقديم محمد رضا باهنر لرئاسة المجلس السابع، والجهة الأخرى هي المتمثلة في روحانيت مبارز ورابطة مُدرسي الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة وبالذات من الشيخ محمد المؤمن الذي طلب من حداد سحب ترشحه من رئاسة المجلس لفسح الطريق أمام رئاسة رجل دين للدورة السابعة أمثال الدكتور أحمد أحمدي ومحمد رضا فاكر وموسى قرباني، وعند حسم هذا الجدل الواسع في الوسط المحافظ سيُحدد ذلك المدى الذي سيلعب فيه توكلي وحداد بالنسبة لانتخابات 2005 الرئاسية
كما أن الملاحظ في الساحة الإيرانية الحالية هو إحجام التيار الإصلاحي عن طرح بعض الأسماء التي يُمكن أن يدعمها وذلك خوفاً منه على احتراقها في هذه المرحلة قبل أن يستفيد منها، خصوصاً وأنه يعتبر هذه المرحلة جولة قد حُسِمَت لصالح غريمه المحافظ، ورغم ذلك فإن المؤشرات تقول بأن هذا التيار قد يلجأ إلى الإعلان عن خياراته الانتخابية قبل فترة قريبة من موعد ماراثون الانتخابات الرئاسية كما فعلها من قبل مع السيد خاتمي، إلاّ أن المفاجآت واعتمال الساحة الإيرانية لا زالت مفتوحة للكثير من المستجدات غير المتوقعة .
التعليقات (0)