المقدمة:
ورد في الحديث (رحم الله امرأً عرف من أين وفي أين وإلى أين) إنطلاقاً من هذا الحديث كان علينا أن نقف قليلاً لنُقيّم هذه المسيرة الطويلة في الموكب،وينبغي التوقف بين فترة وأخرى أيضاً وذلك من أجل أن نرفع مستوى الأداء وكي لا يكون الأداءُ سائراً إلى الطريق غير المعلوم النتيجة، ومن مفاصل الموكب المهمة ،المستهل لما يحمل من موقعية مهمة ولما فيه من إثارات ومعاني تحتاج للتمحيص.
إطلالة بعيدة
مُنذُ الصغر وألسنتنا متشبثةٌ بترديد تلك الهوّاسات القديمة
ضربتك يا علي لكبر
هزّت أركان أمية
جدّك حيدر الكرار
والسلالة الهاشمية
كان التعلق بهذا الترديد في الواقع مرتبطاً بذلك التفاعل الملتهب من أصوات الجمهور وكانت الهوّاسات ولا زالت لا تتجاوز البيتين، ولكنها مسطرة في معانٍ مُكثّفة وتحمل شحنات من الحماس الذي يعرف كُتّاب هذه الهوّاسات أين مواقع إثارته .
وكانت على أنها تستهلك طاقة المُعزي طول الطريق إلا أنها كانت تحيطه بالحماس المُتجدد مع التكرار ،ومن هناك عرفنا أنَّ لتكرار الكلمات خلف الرادود أثراً نفسياً يبقى مُتعلقاً بشغاف نفسه حتى وإن لم يشعر به فذلك الأثر هو الذي يُعيده للموكب مرة أخرى وهو الذي يبقي معاني الرسالة المُتوخّاة من إحياء المناسبات عالقة بذاكرته لا تبارحه ،فهو وإن انتهى الموكب إلا أنّ ذاكرته مشغولة بالمحفوظات تبقيه على مُحاذاة لمبادئ الرسالة وتفاصيل المأساة المؤلمة.
تنوع ألحان في حنجرة
عندما يمتلئ الفضاء بصوتٍ واحد في لفظ واحد ولحنٍ واحد ويعبّق الأنحاء برائحة الشجى أو يتحفها بعنفوان الحماسة الولائية لأهل البيت (ع) ،هناك تعرف أنّ المستهل هو الأب الأول للقصيدة وهو الرائد الأول والأخير فيها ، هناك تعرف قدرة الرادود على قيادة مشاعر جماهيره وبعث كلماته في حناجرهم حسب ما تقتضيه القصيدة فتارة يعلو بهم بلحن الحماس يبعث طوفان التفاعل الوجداني وتارة ينخفض بهم بلحن يجرجر الحرقة في حناجرهم ويستدرّ الدموع من محاجر عيونهم ، كل هذا يصنعه المستهل من خلال حناجرهم وما أجمل بالمستهل لو كان جامعاً لهذين الغرضين فاسمع مثلاً:
زينبٌ تدعو أباها علي حيدر
يا صاحب الكوثر
هذا حسين شهيد
تندبُ الآل ومن ماتَ قتيلاً
في أيام عاشور
من ظلم يزيد
المعاني التي يحملها المستهل تتضمّن الشكوى والولاء والرثاء والنُدبة وإنكار الظلم ولم يضرّه طوله فكان انشودةً رائعة لا تملها الحناجر.
ركائز المستهل
لا تكتمل ركائز المستهل حتى يتآزر الشاعر والرادود في إبراز قدراتهما لانتاجه فالمستهل يعتمد على ركيزة أولى وهو النص الجميل البسيط المفهوم المعتمد على جمالية المعنى وكلما كان المعنى مبتكراً جديداً كان تفاعل النفوس معه أقوى وكان أدعى للحفظ والتعلق بترديده .
وتكمن البساطة في عُذوبة الكلمات وسلاسة انزلاقها من أفواه المُعزين وجمال المستهل يمكنك أن تلمسه من القوة المنبعثة من حناجر المُرددين ومن الضروري جدّاً أن يفهم ويستوعب الجمهور مفردات وتراكيب المستهل فأن تكون بعض الكلمات غامضة أو بعض الصِيَغ صعبة الدلالة فذلك يُجهض دور المستهل .
وأمّا الركيزة الثانية فهي عذوبة ورقة اللحن , فلا بد للمستهل أن يكون لحنه سهل التعاطي من قبل حناجر الجماهير ولا بد أن يكون اللحن منسجماً مع النص وأن يوافق أحاسيسه ،فإن كانت رثائية فلا بُد من لحن شجي حزين وإن كانت حماسية فلا بُد من لحن يبعث القوة والعنفوان وهكذا باقي المعاني.
المأثورات
للمأثورات أثرٌ بالغٌ في التمكن من النفوس كألآيات والأحاديث والكلمات المأثورة والأشعار المشهورة فكلما كان المستهل متضمناً لهذه النصوص إستطاع أن ينفذ إلى النفوس بأسرع ما يُمكن وسهل حفظه سيّما إذا برع الرادود في إدراجه في لحن رائق مناسب يجعل الكلمات تتدفّق بعفوية سيما وأن تلحين هذه النصوص ليس بالسهل ولا يتمكن منه كل ملحن أو رادود.
وباعتقادي في هذه الحالة على الرادود أن يجتنب أي تغيير في النص ولو بشيئٍ بسيط فذلك يخلق تشوشاً في أصل النص ولو بشيئٍ بسيط وقد ينشأ منه حِفْظاً خاطئاً يعود بالسلب على المعتقد أو المفاهيم ،وتنبغي الإشارة إلى صعوبة إنشاء هذه المستهلات لكونها نثراً تلبس في عباءة اللحن المتوجب دخوله في الإيقاع والوزن ،ولكن المواكب مليئة بهذا الفن من المستهلات وفي ألحان جميلة جداً.
أبناء المستهل
وإذا جازَ لنا أن نُسمي المستهل بأب القصيدة والذي من روحه ينبغي أن تنتج القصيدة وأن تكون امتداداً له وانطلاقاً من نافذة فتحها يكون التحليق في جو اللحن والكلمة وإذا جاز ذلك فهناكَ أيضاً أبناءٌ لهذا المستهل، وأستطيع أن أسمي الجوابات الثابتة في الفقرات والكسرات ذات المعاني المميزة والأبيات التي يتفاعل معها الجمهوربأبناء المستهل ..لماذا ؟ لكون هذه الأجزاء من القصيدة تحمل معها نفس الخصائص والصفات المطلوبة في المستهل فهذه الأبيات ذات معاني أخَّاذة وجميلة ولحنها يدفع المُعزين لترديدها لمرّات وهذه هي نفس الخصائص التي يتوجّب تواجدها في المستهل، ولا بأس من التوازن في وضع هذه الأساليب في القصيدة بطريقة مدروسة فهي تُنعش القصيدة وتكسر رتابة اللطم سيّما في الفقرات الطويلة.
العناية بالمستهل نصاً ولحناً
سؤالنا الآن ما هي المساحة التي يستحوذ عليها المستهل من ذهن الشاعر والرادود؟ باعتقادي أنّ المستهل ينبغي أن يأخذ نصف الجهد من الشاعر وأن يكون هو الأول إنشاء وكتابة كي يصبح التأسيس عليه منتظماً ولا بُد أن يُعطى كل الأهمية تركيباً وسبكاً وتنظيماً.
أمّا اللحن فهو لا يقل أهمية عن النص فيحتاج لعناية خاصة في صب النص في قالبٍ لحني مناسب، أمّا عن المساحة المعطاة للمستهل من وقت الموكب فلا يُمكنُنا أن نستهين بهما كما هو حاصل في المراحل الأخيرة من عمر الموكب، فبعد عملية الإنطلاق بالموكب يُكرر المستهل لثلاث أو أربع مرات ثم يكرر في باقي الطريق ثلاث أو أربع مرات كذلك ونفس الوتيرة بالنسبة لمواكب داخل المأتم، هذه الظاهرة باتت تُهدد بقتل كثير من الروابط الموكبية وقطعها، وهي تحتاج لمعالجةٍ ميدانيةٍ ببحث الظاهرة وسُبل علاجها.
ختاما...
في الختام يبقى المستهل بوابة واسعة يدخل منها للقصيدة الموكبية ولا ينبغي الاستهانة بها والمرور بها مرورا غير ملتفت ويجدر بالمستهل أن ينال حظا وافرا من التمحيص والدراسة...ففيه جوانب كثيرة لا بد من الاعتناء بها واستقصاءها فالمستهل يؤثر في الجمهور سلبا وايجابا ويشحن العاطفة بالدفقات المؤثرة ....وكل كلمة فيه لابد أن توضع بمقدار وحساب ...كذلك إيقاع اللحن في دواخل النفوس له أثره...الأفعال في المستهل لها أثرها والأسماء لها موقعيتها والجمل تبقى لسنوات حتى تصبح نشيدا مألوفا وصورا جميلة تأنس الروح باستعادتها....ولربما أصبحت أمثالا لا يستغنى عنها ....عليه ينبغي علينا أن نعمل لاستعادة الألق المفقود لمستهل القصيدة الموكبية وأرى هذا يتمثل في بعض من هذه النقاط :
العمل على صناعة المستهل أولا
الإكثار من مرات التكرار للمستهل
جمالية لحن المستهل تحتاج لعناية خاصة
مقترحات لتقوية واقع المستهل
• ابتكار الوسائل المُحفزة لحفظ المُستهل قبل الموكب.
• الإتفاق على لحن ونص موحّد لمستهل في أكثر من موقع.
• استفتاء الجمهور في أفضل المستهلات لإيجاد نقاط القوة فيها.
• البحث عن الوسائل المُحفزة لحفظ المستهل وبقائه.
• تغيير وسائل تأدية المستهل إلقاءً وترديداً بعد دراستها.
عبدالشهيد الثور -13يوليو 2017م
التعليقات (0)