شارك هذا الموضوع

موقوفة مُتقين

في الأسبوع الرابع من شهر سبتمبر المنصرف قُيـِّضَ لي أن أزور الجمهورية الإسلامية الإيرانية بمدنها الحيوية الثلاث طهران العاصمة ومدينتي قم ومشهد المقدستين، كانت الزيارة نوعية وحافلة جداً، وزاد من أهميتها ونوعيتها زيارتي لموقوفة مُتقين وهي عبارة عن مدرسة تؤوي أيتاماً من الجنسين ممن فقدوا كِلا الوالدين بناها أحد المُحسنين قبل ثمانين عاماً، وهي الآن تابعة لمنظمة الأوقاف والشؤون الخيرية الإيرانية أو كما يُسمونها بالفارسية (سازمان أوقاف وأمور خيريه) وهي مُنظمة ضخمة تتبع مباشرة مرشد الثورة الإسلامية الإمام الخامنئي ويُمثله فيها حجة الإسلام الشيخ محمد علي نظام زادة، وتُشرف هذه المنظمة على المئات من الموقوفات والآلاف من الرقبات الوقفية، وتُسيّر أمورها من خلال عوائد الموقوفات والميزانية المُخصصة لها من الميزانية العامة للبلاد، وهي إلى جانب ذلك فهي تهتم أيضاً بمسألة الترويج للثقافة القرآنية ونشر معارفها، وقد نظّمت منذ العام 1981 ولحد الآن ستة وعشرون دورة للمسابقات القرآنية على صعيد الداخل الإيراني وعشرون دورة للمسابقات القرآنية الدولية (رغم أنها توقفت عن ذلك بين عامي 1982 و1985 بسبب ظروف الحرب العراقية الإيرانية) كما أنها أنشأت في العام 1989 داراً لإعداد مُعلمي القرآن الكريم ثم تحولت بعد أربع سنوات أو أكثر إلى كلية العلوم القرآنية وقد تضاعف عدد الكليات في السنوات اللاحقة وبلغت 12 كلية منتشرة في أنحاء مختلفة بالجمهورية الإسلامية، ثم أنشأَت بين عامي 1993 و1994 مطبعة ومركزاً لترجمة القرآن الكريم .


أعود لموقوفة مُتقين، كان مشهد الأيتام تراجيدياً ومُؤثراً جداً وله وقع غريب على النفس ويُجيّش العواطف بقوة، فمنذ اللحظة التي تقع عيناك فيها على هذا الكم من الأيتام واليتيمات الذين يلبسون نفس الزي تستحضر باختزال لحظي مُؤلم كل مآسي الحياة، ثم تتساءل أين يلجأ هؤلاء الأطفال في شدتهم ليشكوا له ما يُواجهونه من آلام نفسية وجسدية وبمن يُنادون وأي ركن وثيق يضمنهم ويضمهم إليه ويستمع لأمانيهم وتطلعاتهم، أو من يُشجعهم على أن يكونوا مغناجاً إذا أرادوا كما أقرانهم، ومن يربت على أكتافهم ويمسح رؤوسهم حين يُحملقون في طفل مار بجانبهم وهو يتعلّق بقفطان أمه، إنها فعلاً مأساة حقيقة سيبقى لاعبها (اليتيم) دمعة على خد الزمن .  


كانت وجوه الأطفال تنضح بالبراءة والنعومة الأمر الذي يدفعك لأن تتعاطف معهم وتودّ أن تهبهم أي شيئ عندك حاضراً، وقد زاد ذلك التعاطف والإنحياز الاستثنائي الأعمى عندما أنشدت كوكبة منهم نشيداً بالفارسية لم أفقه كثيراً منه إلاّ أنني وجدت ترجمته في قسمات وجوههم .


ربما جعلني ذلك الحدث لأن أتحمس أكثر للتقرب من مسألة اليُتم واليتيم والتي كنت سابقاً أراها ظاهرة اجتماعية كأي ظاهرة لها ما لها من المريدين والقائمين عليها أو لربما يُشفق عليها الزمن بسرعة انقضائه أو أن يقضي الله فيها أمراً كان مفعولا .


قبل أربعة أشهر تقريباً وبالتحديد في الثالث عشر من يوليو الماضي أصدر المؤتمر الدولي الخاص بمرض فقدان المناعة المكتسبة المنعقد بالعاصمة التايلاندية بانكوك تقريراً أشار فيه إلى : أن وباء الإيدز وحده قد تسبب في تيتيم أكثر من 15 مليون طفل حول العالم وأن عدد الأطفال الذين فقدوا أحد أبويهم أو كليهما بسبب الإيدز أو الفيروس المسبب له قد ارتفع من 11.5 مليون طفل في العام 2001 إلى 15 مليون طفل في العام 2003، وأن التقارير تشير إلى أنه في غضون ست سنوات ستصبح مناطق إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى موطناً لحوالي 50 مليون طفل ميتم، حيث أن أكثر من ثلث هؤلاء الأطفال سيكونون قد فقدوا أحد أبويهم أو كليهما بسبب وباء الإيدز، ويقدر التقرير أيضا مجموع عدد اليتامى عالمياً لأسباب شتى بنحو 143 مليوناً وأن عدد الأيتام الذين يتلقون بعض أنواع الدعم لا يتجاوز 700 ألف يتيم وهذا العدد لا يشكل سوى 5 في المئة ممن هم بحاجة إلى الدعم، ولربما يكون ذلك الدعم لا يشمل سوى حد الكفاف من الحياة .


وإذا كان البشر قد أنساهم غدوهم ورواحهم اليومي عن مأساة اليتيم، فعليهم ألاّ ينسوا عِبَرَ الزمان فقد يخطفهم الموت في أية لحظة ويغدوا أطفالهم أرقاماً تُضاف إلى هذه الملايين من اليتامي لتتكرر المأساة ويظل التذكير بأهمية العناية باليتيم .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع