في عام 1929م سمح أينشتين لصحفي آخر يُدعى دادلي هيث كوت جاءه بتوصية من صديقه الدكتور بليش، وسأله هذا الصحفي عن المشاكل التي يواجهها اليهود في فلسطين، فرد عليه أينشتين بقوله:" هذا الأمر في يومنا الراهن يترك أثرا يفوق في عمقه أي شيء آخر. فنحن اليهود حققنا بكل دفء وحماس اقتراح بريطانيا بإعادة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. ونوقع من الإنجليز الوفاء بوعدهم. إنني أتذكر شدة دهشتي عند زيارتي الأخيرة لفلسطين من رؤية الإنجازات العظيمة التي حققها المستوطنون اليهود في استصلاح أرض كانت في مجملها أرضا بورا، والآن نرى أن المشاغبين العرب يعرضون هذه الإنجازات للخطر.
واقترح أينشتين ضرورة توفير الحماية الخاصة لكل المستوطنات اليهودية المنعزلة. ثم أضاف: نحن لا نسعى إلى إقامة دولة يهودية، كما أننا لسنا شوفينيين يتطلعون إلى سلب حقوق غير اليهود وممتلكاتهم، وإني مقتنع بأن غالبية اليهود لن تسمح بهذا، نحن نريد إعادة توطين الأمة اليهودية في وطنها القديم حتى يمكن للقيم الروحية اليهودية أن تزدهر في جو يهودي. أما بالنسبة للعلاقة في المستقبل بين اليهود والعرب فإننا نتوقع أن يسودها التعاون القائم على المودة الشديدة. انتهى
وأعرب أينشتين عن سخطه على ما اعتبره السياسة المزدوجة التي اتبعتها بريطانيا نحو هجرة اليهود إلى فلسطين، فقد استاء عندما منعت بريطانيا في وقت ما اليهود من الهجرة إلى فلسطين بحجة أنها أصبحت مكتظة بهم. وفي المرحلة التي قام بها أينشتين عام 1930 في برلين إلى أنتويرب في هولندا انتظره القنصل الألماني على رصيف الميناء وشكا إلى مستقبليه من الصحفيين من تصرفات الحكومة البريطانية نحو اليهود. قال:" نحن اليهود نتعرض في كل مكان للهجوم والإذلال الناجم عن الإفراط في المشاعر القومية والغرور العرقي الذي يأخذ في معظم البلاد الأوروبية شكل العداء للسامية. إن إقامة وطن قومي لليهود ليست ترفا، بل ضرورة ملحة للشعب اليهودي، ولهذا فإن رد اليهود على الصعوبات الحالية التي يواجهونها هو مضاعفة جهودهم في فلسطين".
في عام 1933 م كان أينشتين في الرابعة والخمسين عندما هاجر إلى أمريكا، حيث عاش 3 ملايين يهودي في مدينة نيويورك، وفي مدينة مانهاتن توقف ليرأس حملة لجمع التبرعات من أجل إنشاء الجامعة العبرية. وكان لأينشتاين جيران مسيحيون من عائلة بلاكدودز عبَّروا لزوجته عن رغبتهم الشديدة في زيارة فلسطين والجامعة العبرية والتعرف على أعضاء الحركة الصهيونية !!، وهذا مؤشر صارخ على أن كل القريبين منه والمحيطين به يدركون صلته القوية بالمنظمة الصهيوينة .
أينشتين يرد على المؤرخ العربي فيليب حتى حول الصهيونية وإسرائيل:
في عام 1944م تصدى أينشتين للرد على آراء المؤرخ العربي الأمريكي المعروف فيليب حتى (22 يونيو 1886-24 ديسمبر 1978) مؤرخ العرب والحضارة الإسلامية اللبناني، الذي ذهب إلى أن العرب هم أحفاد الكنعانيين القدامى الذين سبقوا اليهود في العيش في فلسطين، وإلى أن أورشليم هي ثالث مدنهم المقدسة وقبلتهم التي يتوجهون إليها في صلاتهم، وأيضا قال هذا المؤلف:" إن الله أعطى العرب أرض فلسطين مكافأة لهم على جهادهم. واشترك أينشتين مع صديقه المؤرخ اليهودي إريتش كاهلر في دحض وجهة النظر هذه قائلا: إنها نظرة أحادية الجانب وإنه إذا كانت أورشليم هي ثالث المدن العربية المقدسة، فإنها بالنسبة لليهود مدينتهم المقدسة الأولى والأخيرة، كما أن فلسطين هي أرض أجدادهم التي يتجسد فيها تاريخهم. وأضاف أينشتين وصديقه أن الغالبية العظمى من اليهود لا تريد إقامة دولة لها في فلسطين بدافع الطمع، وتمجيد الذات، بل من أجل إقامة ملاذ آمن يلجأ إليه اليهود الواقعون تحت نير الاضطهاد والذين يحق لهم دون منازع أن يعيشوا في ظل قانون ونظام من صنعهم. ومن جانبه أصرّ فيليب حتى على سلامة وجهة نظره في أحقية العرب التاريخية بأرض فلسطين قائلا: إن اليهود جاؤوا إلى هذه الأرض ثم رحلوا عنها في حين استمر الأهالي (أي العرب) في البقاء فيها.
وردا على ذلك قال أينشتين: إن الإسرائيليين جاءوا إلى فلسطين ولم يرحلوا عنها مستندا إلى قول لورانس العرب: إن اليهود هم الذين استزرعوا هذه البقعة الجرداء من العالم، واعترف بوجود يهود متطرفين وإرهابيين، ولكنه قال: إن نسبتهم ضئيلة إذا قورنت بالشعوب الأخرى، وإنه من المؤسف أن هؤلاء المتشددين الذين لا عذر لهم هم نتاج تجاربهم المريرة ومعاملة الفاشست السيئة لهم. وأضاف إلى ذلك قوله: إن فيليب حتى مخطئ في اعتقاده أن وايزمان يهدد بطرد العرب من ديارهم، واستند أينشتاين في ذلك إلى قول وايزمان:" سوف تكون هناك مساواة كاملة في الحقوق المدنية والسياسية لكل المواطنين بدون تمييز للجنس والدين، فضلا عن أنَّ العرب سوف يتمتعون تمتعا كاملا بالحكم الذاتي في شؤونهم الداخلية، ولكن إذا رغب أي من العرب الرحيل عن الدولة اليهودية فسوف نقدم إليه كافة التسهيلات للانتقال إلى أي من البلاد العربية الكثيرة والواسعة.
نشر أينشتين وصديقه هذا الرد على فيليب حتى يوم 14 أبريل عام 1944م، فاتهمه البعض بالتعصب القومي وهو الأمر الذي أنكره، ومع ذلك فقد أقرَّ بأن اليهود يحتاجون إلى شعور قومي بالتكاتف الدولي يساعدهم على التغلب على الآثار المدمرة التي تتركها البيئة العدائية في نفوسهم، والرأي عنده أن الصهيونية بهذا المعنى شيء مهم من شأنه أن ينقذ اليهود من اليأس والضياع والإحساس بالنقص.
وفي 29 /11/1947م قررت الأمم المتحدة تقسم فلسطين بين العرب واليهود، وأثلج هذا القرار صدر أينشتين. وعندما نشأ الصراع المسلح بين الدول العربية واليهود المهاجرين إلى فلسطين البالغ عددهم آنذاك 600 ألف يهودي تخلى أينشتين عن دعوته للسلام، وأرسل إلى قريب له يعيش في أورجواي رسالة يطلب منه أن يعرضها في المزاد بحيث تخصص حصيلة بيعها لمساعدة عصابة الهاجاناه. وبيعت هذه الرسالة بخمسة آلاف دولار!! قال أينشتين فيها:" إذا انتظرنا حتى تحقق الدول العظمى والأمم المتحدة التزاماتها نحونا، فإن إخوتنا في فلسطين سوف يسحقون قبل أن يحدث هذا. إن هؤلاء الرجال (يعني عصابة الهاجاناه) وضعوا مصائرهم على كفوفهم وحاربوا من أجل الحصول على حقوقهم، وسوف يعتمد مصير بقية اليهود في العالم على مصير المهاجرين اليهود إلى فلسطين، فليس هناك من يحترم أو يقيم وزنا ً لمن لا يناضل من أجل الحصول على حقه".
وعندما أعلن بن جوريون يوم 14 مايو 1948م قيام دولة صهيونية سارع الرئيس الأمريكي ترومان بالاعتراف بها؛ الأمر الذي اعتبره أينشتين حلما تمكن اليهود من تحقيقه. وفي خريف عام 1951م قام بن جوريون بزيارة الولايات المتحدة لجمع الأموال لمساعدة إسرائيل، وفي طريقه إلى فيلادلفيا توقف في برنستون لبضع ساعات لمقابلة أينشتين.
عرض رئاسة إسرائيل على أينشتين:
كان أينشتين تربطه بعلماء إسرائيل روابط وثيقة، وعندما توفي وايزمان أول رئيس لدولة إسرائيل في 9/11/1952م اقترح بن جوريون رئيس وزارة إسرائيل، وأبا إيبان سفيرها في الولايات المتحدة أن يتولى أينشتين رئاسة الدولة العبرية، واتصل أبا إيبان بصديق مشترك يُدعى دافيد ميتراني ليعرف مدى استعداد أينشتين لقبول هذا العرض، فردَّ عليه ميتراني قائلا:" إن تفكيره العاجل والمهم يتلخص في أن لا يكون رفضه المحتوم سببا في إحراج السفير". قال أينشتين لأبا إيبان في تبرير رفضه تولي رئاسة الدولة العبرية:" إنني أعرف النزر اليسير عن الطبيعة، ولكني لا أكاد أعرف شيئا عن طبائع البشر ومسلكهم". ثم جاء إلى برنستون مندوب من إسرائيل ليعرض عليه رسميا رئاسة الدولة العبرية بحيث يكون له كامل الحرية في إجراء بحوثه العلمية. وفيما يلي رد أينشتين على هذا العرض:" إن العرض الذي تلقيته من دولة إسرائيل ترك في نفسي أعمق الأثر، وإني أشعر بالحزن والخجل لأنني لا أستطيع قبوله، فقد أمضيت كل حياتي في التعامل مع الأمور الموضوعية، ومن ثم فإني أفتقر إلى القدرة والتجربة للتعامل الصحيح مع الناس وممارسة الشئون الرسمية. من أجل هذه الأسباب وحدها فإني لا أصلح لأداء مهام هذا المنصب السامي حتى ولو أن تقدمي في العمر لم ينتقص انتقاصا متزايدا من قواي، والذي يزيد من حزني أن علاقتي بالشعب اليهودي أصبحت أقوى رباط إنساني لدي منذ أن أدركت إدراكا كاملا أن وضعنا بين أمم العالم هو الأكثر اهتزازا وتعرضا للأخطار، وبعد أن فقدنا في الأيام الأخيرة الرجل الذي حمل على كاهله لعدة سنوات -رغم الظروف المأساوية المعاكسة -عبء قيادة شعبنا إلى الاستقلال، فإني أحب من صميم قلبي أن تعثروا على رجل يجرؤ بشخصيته وبالعمل طيلة حياته على الاضطلاع بهذه المهمة الصعبة والمسئولة".
يفكر في مصير إسرائيل وهو على فراش الموت :
وقبيل وفاته في عام 1955م طلب أينشتين من سفير إسرائيل في أمريكا أبا إيبان أن يزوره ليتحدث معه بشأن الأخطار المحدقة بإسرائيل، واقترح أينشتين الظهور على شاشات التلفزيون الأمريكي بمناسبة مرور سبعة أعوام على إنشاء إسرائيل لانتقاد الدول العظمى التي لا تحفل بالأخطار المحدقة بهذه الدولة الوليدة. غير أن صحته انهارت بشكل حاد في اليوم التالي لهذه الزيارة، فتم نقله إلى المستشفى، حيث كشف عليه الأطباء الذين اقترحوا علاجه بالذرة وزرع شريان أورطي سليم بديلا من شريانه المعطوب.
وقبل أن يموت أوصى بأن تذهب جميع أوراقه إلى الجامعة العبرية في إسرائيل.
علي المحرقي
1/9/2012م
مصادر البحث:
1.ألبرت أينشتاين: اختيار وتعريب لويس عوض،المركز القومي للترجمة.
2.موقف ألبرت أينشتين من الصراع العربي الصهيوني، عفيف فراج، جريدة الحياة، 20/8/2002م.
3.أينشتين وإسرائيل والقنبلة الذرية، سمير كرم، جريدة الشروق، 19/5/2009م.
4.كلمات أينشتين المنسية عن فلسطين، رندة القاسم، هلوسات، 21/1/2010م.
التعليقات (0)