شارك هذا الموضوع

والله اسطورة يا بو عمّار

من دمحمد عبد اللهون الحاجة إلى تيقين للتحليل أو التثبّت من الحدث فإن رحيل الرئيس ياسر عرفات يُمثل انتكاسة غير عادية للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني برمّته، ليس فقط لأنه يُشكّل خيال ورمزية القضية بل لأنه يُمثل القوتين الرئيسيتين : قوة الرجل وقوة اللحظة التي احتكر تحيينها بحِنكَة وذكاء وبأقل الخسائر وأهون الجروح .


لم يكن ياسر عرفات زعيماً عادياً أو سياسياً كغيره من سياسيي مرحلة مُنقضية أو هالكة بل كان مُحركاً للأحداث ورباناً شاطراً في إدارة اللعبة السياسية، فقد استطاع وفي فترة قياسية أن يخلق كياناً تنظيمياً ثورياً ذا قوة عسكرية ضاربة، وله بنيانه الهرمي تحته ينقسم العمل الفلسطيني إلى مناطق مُستقلّة وله مكاتب عسكرية وإعلامية في كل معسكرات اللاجئين وله ذراع عسكري (العاصفة) يحوي عدة ألوية (اليرموك، القسطل، الكرامة، القوة 17) حرب حقيقية .


كانت حركة التحرير الفلسطينية (فتح) – وطبقاً لوثيقة سرية أمريكية حصل عليها الطلبة الإيرانيون الذين اقتحموا السفارة الأمريكية في طهران بعد انتصار الثورة الإسلامية – لديها برنامج تدريبي عسكري وتنمية للقدرات وأعمال الكوماندو والتخريب؛ مُستفيدة من دعم بعض دول المعسكر الشيوعي كالصين وفيتنام وألمانيا الشرقية .


لم يكن الرئيس عرفات بقاصر على أن يلعب مع الكبار لعبتهم وأن يأخذ منهم ما يحتاج بأكثر مما يأخذونه منه، فجسَّر علاقات واسعة مع دول إقليمية وغير إقليمية، وحصل على السلاح من موسكو بعد زيارة عبد الناصر إليها، ثم حصل على اعتراف القادة العرب في قمة الرباط 1974 بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، كما أنه استطاع أن يستحلبهم المال، فحصل (وفي مدة أحد عشر عاماً) من السعودية على 954 مليون دولار ومن الكويت وليبيا كل على حِدَة على 500 مليون دولار ومن الإمارات على 300 مليون دولار مكوَّناً ثروة يُعتدّ بها لأي معركة (عسكرية أو سياسية) مع إسرائيل، كما أنه حصل على جوازات سفر إيرانية مُزوّرة لاستخدمها في مطارات أوربا .


وعندما ضاقت به (أو ضُيِّقَت عليه) أرض دمشق وعمّان والقاهرة ولبنان وتونس (التي اعتبرها نفياً واغتيالاً سياسياً له ولمريديه) استطاع أن يصوغ بمهارة سياسة جديدة للمنظمة ويُحوّل مؤشر حركتها نحو ساحة معركة أخرى بسلاسة ودقة حين دخل في لعبة دولية خطيرة مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي سُمِّيَت بأوسلوا، ولكن (وبرغم خطورتها) أجاد إداراتها حين مارس مع تل أبيب نفس سياستها في الحنث والمكر وعدم احترام الاتفاقيات، ونزل إلى الداخل الفلسطيني ومعه أكثر من أربعين ألفاً من المُسَلّحين والمُنظَّمي،ن وأنشأ سلطة وطنية بها أكثر من إثني عشر جهازاً أمنياً شكّلها من عناصر الفتحاويين والمقاتلين الثوريين من ألوية حركة فتح ليس لحفظ الأمن أو وقف الانتفاضة كما كان يأمل الإسرائيليون بل لإعادة التنظيم لها من جديد وإفراز أُطر مُسلحة مُتولّدة (كتائب شهداء الأقصى مثالاً) ولذلك فإننا شاهدنا بأنه وخلال الاجتياح الإسرائيلي (أو ما كان يُسمّى بعملية السور الواقي) لمناطق السلطة الفلسطينية،فإن جيش العدو استهدف (اغتيالاً) أكثر من 600 عنصر من تلك الأجهزة الأمنية والمخابراتية التي شاركت بقوة في انتفاضة الأقصى .


 كانت إسرائيل قد تنبّهت بأن شريكها في السلام ليس طعماً سائغاً أو مُجرّد مُحارب قديم ملّ من حمل البندقية وشاء أن ينزلها من على كتفه ليستريح بل هو ذات الخصم الذي طاردته وطاردها في أرجاء كثيرة من العالم ودبّرت ضده العديد من عمليات التصفية، فهذا الخصم لم يكن بطناً رخواً في مفاوضاته كما في حِرابه، ولم يلقي ورقته في مُربعها كما كانت تعتقد، وقد ظهر بيان الخيط الأبيض من الأسود جلياً بعد محادثات كامب ديفيد 2 حين رفض رفض أبو عمّار تمرير قضية القدس واللاجئين بالهوى الإسرائيلي، وبعد أن سّربت المخابرات البريطانية أم آي 6 للموساد الإسرائيلي أن عرفات يُقدم (سراً) لكل عائلة شهيد فلسطيني 2000 دولار ولكل عائلة جريح 400 دولار ويبني بيوت الاستشهاديين التي تهدمها الجرافات الإسرائيلية .


كان عرفات قد بنى سجوناً وزنزانات في الضفة الغربية وغزة ليكمل اللعبة مع خصمه، إلاّ أن تلك السجون قد أصبحت باباً دواراً يدخل فيه الناشط ويخرج في حينه (رغم بعض التجاوزات التي حصلت والتي تستحق النظر بعناية) بل إن الكثير من المناضلين الفلسطينيين اتخذوا تلك السجون مكاناً آمناً لهم ضد عمليات الاغتيال الإسرائيلية، وفرصة لهم ليستجمعوا قوتهم من جديد، وقد عرفت إسرائيل تلك الخديعة فعمدت لمرات عدّة لقصف تلك السجون عبر طائراتها السمتية بهدف اغتيال من فيها من عناصر نَشِطَة .


أقول هذا الكلام وأنا متيقن بأن البعض من الأصدقاء قد لا يُعجبه هكذا حديث، باعتباره مُجانب للصواب نظراً لما يكتنزونه من تُهم التخوين الظالمة للرجل الفقيد، وهو اختزال غير بريء وتأجيل إرادي للحقيقة، فعرفات لم يكن بائعاً لقضيته أو وطنه لأنه يعرف بأنه إذا ضاع الحافز الوطني فأي عسكري يعرف بأن التضحية بالدم انتحار لا فائدة منه، كما أن الرجل لم يكن كمبرادورياً ولا عاش كذلك، وأتمنى أن يُثبت التاريخ تلك الحقيقة .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع