ذكريات اللقاء والصحبة (1)
لم يكن يخطر على بالي في يوم ما بأني سأرتبط بعلاقة وطيدة بالخطيب السيد محمد صالح العدناني، وأني سأعيش معه ارتباطا ً وثيقا ً من العلاقة الحميمية والود المتبادل، وأني سألتقيه كل يوم، وأدخل بيته في الوقت الذي أشاء ، وأكون من المقربين منه، كل ذلك حدث دون أن أتوقع أو يدور في خَلَدي أنه سيكون يوما ً ما !
مع أن السيد محمد صالح كان من خطباء البحرين المشهورين ، ومن الشعراء البارزين، ومع أنه من أبناء القرية (السنابس) إلا أنه كان يعيش في جو أشبه بالعزلة، ولم أكن أراه قبل التعرف عليه في أي محفل من المحافل، ولا في أي اجتماع من الاجتماعات أو المناسبات الدينية، فهو أشبه بالمنقطع عن الناس، وعن الالتقاء بالآخرين. لذا كان أبعد ما يكون عن ذهني، أو أنه يشغل بالي . وهذا الأمر أدهشني حينها، وجعلني في حيرة، وكنت أبحث عن تفسير لذلك .. وقد أجاب البعض بأن السبب الكامن وراء عزلته ما عاناه من الناس، ومن المجتمع حين ثار عليه، وأهانه، وأذلّه بسبب ما أشاعوه عنه من قضية المهدي (ع)، مما ولّّد لديه عقدة، ونفور وهروب من الالتقاء بالناس، والاختلاط بالآخرين، ولكني حين عاشرته واختلطت به وجدت أن السر وراء عزلته هو انقطاعه التام للكتابة والتفرغ للقلم والشعر ، وليس العقدة من الناس، أو أن تكون ردّة الفعل مما جرى له. مما يعني أنها عزلة اختيارية.
كنت أسمع باسم السيد محمد صالح قبل مدة طويلة، وحتى حين كنا صغارا ً، تارة يُشار لاسمه بأنه الخطيب المعروف، وتارة بأنه الشاعر البارز، والأغلب يُشار له بأنه الذي أثار الناس بقضية المهدي (ع) .. وأحيانا ً أسمع البعض يهمس بأنه مولع بالزواج بكثرة من النساء، وإنجاب الأبناء (تزوج 4 نساء وأنجب 34 ولدا ً ولديه من الأحفاد ما يفوق 200 حفيد!) . كل هذا لم يكن يمثل لي شيئا ً أو يثيرني في سيرة الرجل، وتركت كل ما كنت أسمعه وراء ظهري، لأني لم أكن في الأصل مهتما ً به، وبحياته وشخصيته وأدبه وخطابته. ولكن الذي أعرفه جيدا ً أنه والد كل من السيد كامل والسيد مصطفى ووالد الفنان عباس الموسوي وابنته الصحفية عصمت .. هذه الأسماء من الأبناء البارزة هي الأكثر تعلقا ً في مخيلتي . والغريب وجدت أنه بالرغم من أن للسيد كتبا ً كثيرة جدا ً، وبالرغم من اهتمامي بالكتب والقراءة وتتبعي للمؤلفات إلا أني لم أفكر يوما ً ما في قراءة واحد من مؤلفاته، أو اقتناء كتاب من كتبه، ربما لما يُشاع عنها بأنها غارقة في الجنس ، والكتابة في المرأة، هذه الصورة التي يقولها عنها كل من أسأله عن مؤلفاته، لذا أعرضت عنها مبكرا ً ولم أفكر في قراءتها اعتمادا ً على ما يقوله الآخرون !! ولأني لم أكن أفكر على الإطلاق في القراءة في الجنس والمرأة وأنا بتلك السن المبكرة من العمر.
أما أول لقاء يجمعني به، وأول مرة أراه فيها فذلك كان يوم أن كلّّمني الأخ العزيز جعفر عبد الحسين داغر، وعرض عليّ الذهاب معه للسيد محمد صالح في بيته الكائن بمنطقة النعيم، وذلك من أجل شراء ما نتمكن من كتبه حين تناهى إلى سمعه بأنه عرض مكتبته الخاصة للبيع كاملة، وذلك لما يعرف الأخ جعفر عني من اهتمام بالكتب واقتنائها .. بالطبع وافقت مباشرة، لسببين، الأول لأني وجدت في نفسي رغبة جامحة لأن أرى السيد وأعاينه وجها ً لوجه بعد أن كنت أسمع به، والثاني لأني أود أن أشتري ما يمكن شراؤه من مكتبته .
ذهبنا عصر يوم لا أتذكره الآن، واستأذنا بالدخول فدخلنا عليه، وأتذكر أن البيت كان خاليا ً إلا منه ومن امرأة تخدمه هندية الجنسية عرفت فيما بعد أنها زوجته. وهي السيدة ممتاز بيكم بنت سيد شافي، وقد انتقلت معه لسكنه الأخير في منطقة السنابس في شقة صغيرة متواضعة بالقرب من مسجد (الخضر) . ولم تلد له شيئا ً وكانت آخر محطة في حياته من حيث الزوجات . وهي التي فتحت لنا الباب وأدخلتنا البيت وأمرتنا بأن نصعد للطابق الثاني حيث يوجد السيد الآن في مكتبته الخاصة. صعدنا الطابق الثاني فوجدنا البيت أنيقا ً، مملوءا ً بالزراعة والورود، وهو أشبه بالبستان، ورائحة الأعشاب والزراعة تفوح في كل زاوية منه. وهكذا هو السيد، يحب كل ما له علاقة بالفن والجمال في كل شيء، وقد ذكر واحد من أبنائه أنه كان حريصا ً منذ شبابه على الاستيقاظ المبكر للاعتناء بالحديقة، وسقي الزرع، والالتفاف حول الأشجار حتى قبل تناول الإفطار.. كان يصنع هذا كل يوم. وهذا ما وجدته بالفعل في بيته بمنطقة النعيم كما ذكرت.
صعدنا للطابق الثاني وإذا بالسيد جالس على مكتبه المعد للكتابة، منكب على الورق يكتب دون توقف، وكأنه لم يشعر بدخولنا عليه من شدة توحده مع الكتابة، ولاحظت بجانبه كتاب يبدو من منظره أنه كتاب جديد صادر للتو، وهو من مؤلفاته المطبوعة حديثا ً، وقد وضع بكميات على المكتب.. وحين الاقتراب منه للسلام والمصافحة انتبه لنا ونظرت للكتاب نظرة خاطفة ووجدت أنه كتاب في ثورة الحسين (ع) وهو كتاب كبير الحجم. وكان السيد مسرورا ً جدا ً لطباعته، وهذا ديدنه مع كل كتاب يُطبع له، فهو مولع بالكتب، قراءتها وطباعتها والتنقيب فيها. سلّم علينا بحرارة وبشاشة وجه، وأخذت يتكلم معنا حول كتابه الجديد.. كان يتكلم وأنا أتأمل في وجهه وأنصت لحديثه باهتمام بالغ. وكانت هذه المرة الأولى التي أراه فيها وجها ً لوجه وأتحدث معه وأجالسه عن قرب. وقد وجدت أنه أقرب للقصر، ممتلئ برشاقة، وجهه يميل للحمرة وللشروق، أو هو مشبع بالحمرة، ووجدت أن ثيابه أنيقة جداً ً، مما استلفت نظري، هذا هو الانطباع الأول لأول لقاء بيننا.
طلب منا الجلوس فجلسنا، وقدّم لنا الشاي.. أما المكتبة فهي عبارة عن غرفة متوسطة الحجم ، لكنها امتلأت بالكتب، وغطّت الكتب جدرانها الأربعة من الأرض حتى السقف، وفي جهة الشمال منها مكتب خصّصه للكتابة، ولم يكن مكتبا ً فخما ً وعريضا ً ، ولكنه كان مرتبا ً وأنيقا ً .
بعدها كلّمه جعفر مباشرة عن نيته بيع كتبه، فقال: نعم.. لديّ نية أن أبيع مكتبتي كلها، حين سمعته يقول ذلك سررت جدا ً بيني وبين نفسي، ولكنه استدرك سريعا ً وفاجأنا بقوله: إنه سيبيع المكتبة ولكن بشرط، وهو أن نشتريها كاملة، وليس أجزاء منها، أو نختار كتبا ً معينة منها حسبما نحب، وقد عرض لكل كتاب منها سعر دينار واحد فقط، بما فيها كتاب المجلسي الشهير بحار الأنوار، والميزان، ولسان العرب وغيرها من موسوعات دينية وتاريخية وأدبية ولغوية، ولكن بالشرط الذي قاله، وهو أن نشتريها كاملة دون نقص أو اختيار!! وقد وجدنا أنه من أجل شراء المكتبة لابد أن ندفع ثلاثة آلاف دينار (3000 دينار) ، هذا إذا عرفنا أنها تحتوي على 3000 عنوان .
حاولنا معه، لكنه كان مصرا ً على شرطه، وبرّر لنا ذلك بأنه في أمسّ الحاجة للمبلغ كاملا ً، لأنه وقتها كان يفكر في شراء بيت، فهذا المبلغ سيعينه كثيراً ً، وكان الأخ جعفر هو الذي يتكلم معه، وحاوره غالبا ً، فأنا التزمت الصمت طوال الوقت لصغر سنّي آنذاك .. ربما كان ذلك عام 1987م، أو 1988م .. لا أتذكر الآن السنة تحديدا ً.
للأمانة أود أن أقول لم يثرني السيد في هذا اللقاء العابر، أو يلفت انتباهي، لأني كنت منشغلا ً بتصفح الكتب، وقراءة عناوينها، أكثر من انشغالي به، ومحاولة التعرف عليه، وكنت منبهرا ً من كم الكتب ، وربما لأول مرة أرى مكتبة خاصة بهذا الحجم، هذا ما جعلني أنشغل عنه وألتفت للمكتبة أكثر.. وكان اللقاء سريعا ً، إذ استأذنا بعدها في الانصراف، وسلّمنا عليه وخرجنا، وأظنني لمحته عاد سريعا ً لطاولة المكتب ليستأنف الكتابة من جديد، والتي توقف عنها بسبب دخولنا عليه.
بعد هذا اللقاء العابر السريع بدأت شيئا ً فشيئا ً أنسى السيد، وأنسى لقاءنا به ، وكـأنه ما كان إلا لقاءا ً عابرا ً ، وما كنت أتصور أني سألتقي به ثانية ، فضلا ً عن مصاحبته وملازمته.
وللحديث بقية
التعليقات (3)
عبدالله
تاريخ: 2011-09-27 - الوقت: 08:41 صباحاًأحسنت أحسنت أستاذي الفاضل أنتظر بأحر من الجمر بقية المقال جدا جدا رائع
رضي العجوز الماحوزي
تاريخ: 2011-10-26 - الوقت: 04:28 مساءًشكراً لك أستاذي ، ولكن ألا ترى بأن بعض الأمور التي جرت لك من سماحة السيد (قده) لا داعي نشرها والمحافظة على خصوصيتها - حتى وإن لم يطلب منكم ذلك - لعِلمي بأنه لا يكترث والأمر سيان لديه ..
رضي العجوز الماحوزي
تاريخ: 2011-10-26 - الوقت: 06:32 مساءًبوركتم أستاذي العزيز وبورك قلمك الفذ .. بإنتظار التكملة بشغف ..