لا شكّ أنّ لكلّ فعل أخلاقيّ قيمة كامنة فيه، سواء كان الفعل في دائرة الإيجاب أو في دائرة السلب، وهذه القيمة الأخلاقية معلولة لأمر آخر ـ غير الفعل نفسه ـ وهو ما يُصطلح عليه بالنيّة، وهذه النيّة هي موصوف الإخلاص وما يقابله، أعني الشوب كما سيأتي.
وبهذا يتّضح لنا السرّ في التفاوت الحاصل في الفعل الأخلاقي ـ خيراً كان أو شرّاً ـ فإنّ مرجع التفاوت هو درجات ومراتب النيّة. وهذا التفاوت في مراتب النيّة مرجعه إلى متعلّق النيّة وهو الكمال المرئيّ لصاحب النيّة والذي تعلّقت به النيّة، ما يكشف لنا ضمناً أنّ الكمال مع كونه مطلوباً ذاتيّاً للإنسان، وأنّ الإنسان مفطور على حبّه، وأنّ هذا الحبّ للكمال يُمثِّل درجة شديدة من وجوده التكويني، إلاّ أنّ مراتب هذا الكمال ومصاديقه ليست واضحة للجميع، ولذا لزم معرفتها، والوقوف عندها إمّا بواسطة العقل أو النقل1، ولعلّنا نقف عند هذه النكتة في بحث آخر من هذا الكتاب2. فالنيّة هي المنظور الأوّل في العمل الأخلاقي، وهي القيمة الفعلية له. عن النبيّ صلى الله عليه وآله: (إنّما الأعمال بالنيّات، ولكلّ امرئ ما نوى)3. وإنّ (النيّة أساس العمل)4. وإنّ (الأعمال ثـمار النيّات)5. بل إنّ (نيّة المؤمن خيرٌ من عمله ونيّة الفاجر شرٌّ من عمله)6. والسرّ في تفضيل نيّة المؤمن على عمله ـ كما جاء في جواب الإمام الصادق عليه السلام ـ هو: (لأنّ العمل ربّما كان رياءً للمخلوقين، والنيّة خالصة لربّ العالمين، فيُعطي تعالى على النيّة ما لا يُعطي على العمل)7. أو بعبارة أخرى: إنّ نيّة المؤمن خيرٌ من عمله، لأنّ النيّة إنّما تُمثّل المحتوى الداخلي للفرد، وهذا المحتوى أهمّ من العمل بطبيعة الحال8.
بعبارة ثالثة: إنّ لكلّ عمل صورة ظاهرية وأخرى باطنية، والأولى بشكل وإطار لا يمثِّل حقيقة العمل، بخلاف الأخرى التي تمثّل حقيقة العمل. فالنيّة هي حقيقة العمل وصورته الكامنة في سرّ الفاعل، بخلاف العمل الخارجي المرئي للعيان. ومن هنا يمكن القول: إنّ ظاهر صلاة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وظاهر صلاة المرائي والمنافق متضاهيان في الأجزاء والشرائط والشكل والهيئة ولكنّهما مختلفان من الناحية الباطنية ـ النيّة ـ فإنّنا نجد أنّ أمير المؤمنين عليه السلام يعرج بعمله إلى الله تعالى وأنّ لصلاته صورة ملكوتية أعلى، وأمّا المرائي أو المنافق فإنّه يغور في أعماق جهنّم ولصلاته الباطنية صورة ملكوتية سُفلى.9
من هنا سوف تتّضح لنا عدّة نكات قرآنية تتعلّق بحقيقة النيّة التي يكون عليها العبد، من قبيل قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَـهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)10. فلو أنفق أحدنا أموالاً ضخمة دون أن يقصد فيها وجه الله تعالى وسبيله فهل سيُضاعف له الأجر أو العمل سبعمئة مرّة ـ بل يُضاعَف له بما شاء الله تعالى ـ كما هو صريح الآية؟ الواقع: إنّ الآية الكريمة تجعل ملاك المضاعفة ـ المحدّدة والمطلقة ـ قصد سبيل الله تعالى ووجهه. وهذا هو معنى كون النيّة هي أساس العمل، وأنّ الأعمال ثمارها. وهكذا الحال في آيات أخرى تُعبِّر عن قصد السبيل والوجه الكريم بالقرض الحسن لله تعالى، من قبيل: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً)11، أي يُنفق في سبيل الله وطاعته. والتعبير بكون الأضعاف كثيرة هو كناية عن عدم إمكان إحصائها12، وهكذا الحال في آيات أخرى.
وعليه فلو كان المدار هو العمل بنفسه للزم حصول ذلك الأثر لكلّ عمل حتّى ممّن لم يقصد وجهه تعالى، ولكنّ الآيات صريحة بتحديد ملاك ترتّب الأجر والمضاعفة وهو قصد سبيل الله تعالى ووجهه الكريم في الإنفاق والإقراض، ولابدّ أن يكون الإقراض حسناً، أي: حلالاً، ولا يُفسده بمنٍّ ولا أذى13. وبذلك تتجلّى لنا قيمة العمل الذي قام به أمير المؤمنين عليّ وأسرته عليهم السلام عند إطعامهم تلك الأقراص الثلاثة من الخبز لمسكين ويتيم وأسير (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)14 حبّاً بالله وحدهُ دون أن ينتظروا جزاءً ولا شكوراً (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً)15.
ولعلّ هذا العمل بصورته الخارجية كان ممكناً جدّاً لكثير من الناس آنذاك وربّما هو واقع منهم، ولكنّ ذلك القصد الخالص والنيّة الصادقة هي التي أعطت ذلك العمل تلك الأهمّية والسموّ والرفعة، ولا شكّ أنّ هذه النيّة الخالصة لم تتحقّق لكلّ أحد إلاّ من تلك الثلّة الطاهرة
عليهم السلام، والتاريخ يطالعنا بنماذج عديدة قد دفعت نصف أموالها وأحياناً جميع ما تملك، ولعلّهم كانوا يقصدون وجه الله تعالى بحسب ظاهرهم ولكنّهم لم يُخلّدوا ويُذكروا قرآنياً كنموذج يُحتذى به، وما ذلك إلاّ لعدم حيازتهم تلك الصورة الملكوتية العليا والنيّة الخالصة من جميع الأغيار. لذا فالمسألة ليست بم تصدّقتَ وماذا قدّمتَ، وإنّما كيف تصدّقتَ، ولمن توجّهتَ ولأيّ قدّمت؟ فلا جدوى بالتصدّق ولو بجبل من ذهب مادام المقصود مشوباً، وكلّ الجدوى بالتصدّق ولو برغيف خبز ما دام المقصود هو الله تعالى وحده؛ عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: (أخلص قلبك يكفِك القليل من العمل)16.
فخلاصة النكتة تكمن فيمن تُؤثره على الآخر. فشتّان بين مَن آثر ربّه على مَن سواه وبين مَن آثر الأغيار على ربّه أو خلطهم به. ولأجل هذا الفرق الأساسي والجوهري بين القصدين سجّل الله تبارك وتعالى لتلك الثُلّة الطاهرة عليهم السلام ذلك العمل الربّاني الطاهر وخلّده في القرآن ليُتلى على أسماع الثقلين إلى أبد الدهر. ولا حاجة للوقوف على جزاء ذلك العمل بعد أن تكفّلت سورة الإنسان ببيانه في اثنتي عشرة آية17 تختمها بشكر سعيهم بعد أن سقاهم ربّهم شراباً طهوراً. فخلص لدينا أنّ خلاصة كلّ عمل وذروته وثمرته تكمن في إخلاص النيّة لله تعالى، بل في إخلاص النيّة تكمن قيمة الإنسان وحقيقته، ودون ذلك الإخلاص وذلك القصد سيجد الإنسان عمله هباءً منثوراً. فكلّ عمل فيه شركة فهو لذلك الشريك الضعيف18(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً)19، ذلك العمل الأجوف تماماً الخالي من قيمته الفعلية، قد أحيل إلى هباء منثور لأنّه في حقيقته مجرّد قشور فارغة، فلم يكن شيئاً يُذكر سوى عند صاحبه الظامئ له والساعي خلفه يحسبه ماءً وهو (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)20، وأصحابه وُصفوا بقوله تعالى: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ)21. من هنا سوف يتّضح لنا الوجه الناصع لقوله تعالى: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)22 حيث يكشف اللثام عن النوايا ويُبان كلّ إنسان على حقيقته، فلم تُعبِّر الآية الكريمة بالأعمال وإنّما عبّرت بالسرائر التي هي الداعي الحقيقيّ الكامن وراء الأعمال وما انطوت عليه الضمائر؛ فـ (من حسُنت نيّته كثُرت مثوبته)23، وعندئذ تتمايز السرائر بحسن النوايا وقُبحها. يُروى عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: (حُسن النيّة جمال السرائر)24. وهذا الجمال والحُسن كفيلان بحفظ العمل ومضاعفة الأجر عليه: (إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)25. و(إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ)26. بناءً على ما تقدّم من كون الحبّ مورثاً للإخلاص وأنّ الإخلاص موضوعه ومتعلّقه هو النيّة، يتّضح لنا أنّ الحبّ الإلهي يدفع بصاحبه نحو النيّة الخالصة وخلوص النيّة. فالإخلاص في أحد وجوهه يعني دفع الأغيار عمّن تُحبّ وتقصد لأنّ الإخلاص يعني الطرد التامّ للشوب الذي هو مقابل له، كما جاء ذلك في كتب اللغة27، وهو المرويّ عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام حيث يقول في حديث طويل يُبيّن فيه جنود العقل والجهل: (والإخلاص وضدّه الشوب)28؛ ما يعني أنّ هنالك منظومة معنوية هي أدقّ نظماً وترتيباً وضبطاً من المنظومات الحسّية والفكرية أيضاً. فمعنى الموروثية ـ سواء كانت موروثية المعرفة للحبّ أو موروثية الحبّ للإخلاص ـ هو التولّد الذاتي والحتمي الذي لا يقبل التخلّف أو الانفكاك بأيّ حال من الأحوال.
من هنا نفهم بعمق الكلمة الخالدة للإمام الحسن المجتبى حيث يقول: (من عرف ربّه أحبّه)29. ولعلّ البعض يفهم من حديث المجتبى عليه السلام أنّ الإنسان إذا عرف ربّه سوف يكون محبّاً لربّه، وهذا معقول ومقبول أيضاً ولكنّنا لا نرى زيادة معنىً فيه، فإنّ حبّه لربّه بعد معرفته حاصل بالضرورة وفق وطبق موروثية المعرفة للحبّ، فتكون الإشارة إلى ذلك تحصيلاً للحاصل أو توكيداً لما هو حاصل، ومن ثمّ نحن نفهم معنىً آخر زائداً على ما تقدّم ونحسبه هو المقصود في كلمة الإمام عليه السلام. وهو أنّ فاعل (أحبّ) هو الله تعالى، وأنّ ضمير النصب عائد إلى من حصلت له المعرفة، فمن عرف ربَّه أحبّه ربُّه، لأنّ الله تعالى يُحبّ مَنْ أحبّه: (يا داود! أبلغ أهل أرضي أنّي حبيب من أحبّني)30. فإنّ (العبد المخلص لله بالحبّ لا بُغية له إلاّ أنّ يحبّه الله سبحانه كما أنّه يحبُّ الله، ويكون الله له كما هو لله عزّ اسمه، فهذا هو حقيقة الأمر)31، وهذه غاية المطلوب وعزّ المنتهى عندما يكون العبد محبوباً لله تعالى، وهذا هو جزاء العمل الفعلي الذي يصير إليه العبد.
فحبّ العبد لربّه ليس جزاءً لمعرفته بربّه؛ لأنّ هذا الحبّ هو الوليد الحتميّ لمعرفته بربّه، ولذا فالجزاء الفعليّ والمبتغى الحقيقيّ هو محبّة الله تعالى له لا محبّته لله تعالى فحسب. وقبل العود إلى صلب موضوعنا ـ حقيقة الإخلاص ـ ندعو أنفسنا للتأمّل فيما سيترتّب على محبوبية الله تعالى لنا، وكيف يصحّ منّا التأمّل وغير المتناهي صار جليساً لنا؟! فلا غروَ أنّ كلّ ما ستُبحر فيه سوف يكون كاشفاً عن قصورك، ولا حاجة بعدئذ لإطفاء سراج ليلك فقد أطفأه الصبح بنفسه32.
والآن ينبغي العود قبل أن ينفد مداد القلم لنقف مجدّداً على ما يمكن الوقوف عليه من حقيقة الإخلاص.
الإخلاص لغةً ـ كما عرفت ـ يقابل الشوب؛ فهو الخلوص من كلّ شوب، وينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: إخلاص العوامّ، وهو ما يوافق المعنى اللغوي، حيث يُراد به تصفية كلّ عمل قلبيّ من كلّ شوب، بحيث يكون لله وحده، أو هو تصفية الأعمال عمّا يشوبها من الحظوظ المتعلّقة بأعراض الدُّنيا33.
الثاني: إخلاص الخواصّ، وهو إخراج رؤية العمل من العمل بحيث لا تفتخر في نفسك بالعمل ولا تعتقد أنّك تستحقّ عليه ثواباً، وبهذا الإخلاص يحصل الخلاص من طلب الأعواض، فإنّ العبد وما يملك لسيّده.
الثالث: إخلاص خاصّة الخاصّة، وهو الخلاص من رؤية الإخلاص فإنّ الإخلاص علّة تحتاج إلى الخلاص منها، وذلك بأن ترى أنّ الله تعالى هو الذي أستخلصك، فجعلك مُخلَصاً34. ولا ريب أنّ الثاني مستبطن للأوّل لأنّه الأوّل وزيادة، كما أنّ الثالث مستبطن لهما لأنّه هما وزيادة. فالأوّل مطلوب من عامّة الناس وهو الذي يقع في قباله الرياء. فالإخلاص هنا هو مصانعة الوجه الواحد وهو الله تعالى، والرياء هو مصانعة الوجوه وهي الأغيار35.
وهذه المرتبة من الإخلاص مهمّة جدّاً رغم أنّها تُمثّل الحدّ الأدنى من الإخلاص في نظر أهل الذوق والتحقيق36، وذلك لأنّها تمثّل مرحلة أولى في السلّم التكاملي في دائرة الإخلاص، ثمّ تأتي مرحلة أخرى أكثر دقّة وعمقاً حيث يُراد من الفاعل للعمل سلب فاعليّته فلا ينتظر مقابلاً أو عطاءً أو أجراً على ما أتى لأنّه في واقع الحال لم يأتِ بشيء وإنّما وُفّق لشيء هو كمال بحدّ ذاته، ولازمه الشكر لا انتظار العطاء والأجر، وهذه مرتبة يعرفها ويعيشها أهل الذوق والتحقيق. فالأوّل هو تصفية الفعل من ملاحظة المخلوقين، والثاني هو تصفية النفس من طلب أو انتظار الأجر والثواب، وكيف للعبد وهو مُقرّ بعبوديّته أن ينتظر عوضاً وهو وما يملك ـ إن صحَّ الملك منه ـ لمولاه.
بعبارة أخرى أكثر دقّةً وعمقاً: إنّ المرتبة الأولى من الإخلاص هي الإخلاص في نفس العمل، بتطهيره من كلّ شوب. وأمّا المرتبة الثانية فهي ـ فضلاً عن الإخلاص في العمل ـ مرتبة الإخلاص من العمل، فلا يريد الفاعل عنه عوضاً من الدارين ولا حظّاً من الملكين37.
ولا شكّ أنّ هذه المرتبة الثانية شديدة على النفس وصعبة المنال. يُروى أنّه قيل لسهل بن عبد الله التستري38: أيّ شيء أشدّ على النفس؟ فقال: الإخلاص، لأنّه ليس لها ـ أي للنفس ـ فيه نصيب39. لكنّ صاحب هذه المرتبة على رفعتها ـ حيث يجرّد الفاعل فعله عن فاعليّته إيّاه ـ يرى إخلاصه في عمله. فما قدّمه من عمل، قد طرد الشوب والأغيار عنه ولم يترقّب منه جزاءً ولا شكوراً، ولكنّ هذا الطرد وعدم الترقّب ـ وهو إخلاصه في عمله ـ منظور إليه، فلابدّ من الارتقاء إلى مرتبة أسمى ـ وهي الثالثة ـ فيُخلّص نفسه من رؤيته لإخلاصه، فيكون عمله خالياً من الشوب والنظر إلى الأغيار ـ وهو ملاك الأولى ـ ولا ينتظر من عمله عوضاً ولا أجراً ـ وهو ملاك الثانية ـ ولا يرى ذلك الخلوّ وعدم الانتظار، أي لا يرى ذات الإخلاص ـ وهذا تمام الثالثة ـ وبذلك يكون من المُخلَصين40.
يقول أحد المحقّقين: (نقصان كلّ مُخلِص في إخلاصه: رؤية إخلاصه. فإذا أراد الله تعالى أن يخلّص إخلاصه أسقط عن إخلاصه رؤيته لإخلاصه، فيكون مُخلَصاً لا مُخلِصاً)41, وفي ذلك يقول صاحب الفتوحات42:
من أخلص الدينَ فذاك الذي لنفسه الرحمن يستخلصه
فكـلّ نـقصـان إذا لـم يـكـن في كـونـه فـإنّـه ينـقُصُه
بعبارة موجزة: إنّ عبادة أرباب الإخلاص هي رسم تجلّيات المحبوب، ولا يوجد في قلوبهم سوى الحقّ المتعالي الواحد، ولا تكون عبادتهم بالرويّة والتفكّر بل تكون بالتحقّق والتجلّي43.
قد يُقال: كيف لا تكون العبادة بالرويّة والتفكّر مع أنّ الرويّة والتفكّر ممّا حثَّ عليهما الشارع المقدّس، حتّى أنّه ورد أنّ (تفكّر ساعة خيرٌ من عبادة سبعين سنة)44، وأنّ (التفكّر في ملكوت السماوات والأرض عبادة المخلصين)45 وغير ذلك من النصوص الواردة في المقام؟ فالجواب: إنّ العبادة التي روحها الرويّة والتفكّر مطلوبة شرعاً وتُعدّ مرتبة سلوكية عالية، إلاّ أنّ الرويّة والتفكّر على علوّ شأنهما لا يخرجان عن دائرة عالم الملك، أي ما دام العبد متفكّراً متأمّلاً فهو واقع في حيّز ملكيّ لا ملكوتيّ، بخلاف العبادة التي تكون بالتحقّق والتجلّي فإنّها انعتاق تامّ من عالم الملك وهجرة تامّة إلى غير المتناهي، وحضور دائم بين يديه. ولاشكّ أنّ هنالك فرقاً عظيماً بين التفكّر والتأمّل بغير المتناهي، وبين الحضور بين يديه. فالأولى عبادة المـُستبصرين المحقّقين، والثانية عبادة المـُبصرين المتحقّقين.
فخلص ممّا تقدّم أنّ الإخلاص هو دفع الأغيار بجميع مراتبها عامّها وخاصّها عن مخالطة العمل، سواء ما كان منها أجنبيّاً كالنظر إلى الخلائق أو جنبياً46 كالنظر إلى النفس الفاعلة، أو أخصّ من ذلك، فلا يبقى في المنزل أحد غير صاحب الدار جلّ وعلا، فهو البارئ والفاعل والناظر، ولا يمكن لأحد أن يبلغ حقيقة الإخلاص حتّى تكون جميع أعماله لله تعالى وأن لا يأمل عوضاً عنها ولا يُحبّ أن يُحمد على شيء منها البتّة، كما جاء ذلك في حديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله حيث يقول: (إنّ لكلّ حقٍّ حقيقة، وما بلغ عبدٌ حقيقة الإخلاص حتّى لا يُحبّ أن يُحمد على شيء من عمل لله)47، ودون ذلك لا يخرج عن كونه ضرباً من ضُروب الشرك في العبادة أو العمل، وقد ورد في الحديث القدسي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله أنّه قال: (يقول الله سبحانه: أنا خير شريك، ومن أشرك معي شريكاً في عمله فهو لشريكي دوني لأنّي لا أقبل إلاّ ما خلُص لي)48.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر: كلمة حول فلسفة الأخلاق، مصدر سابق: ص30.(2) انظر: عنوان (مراتب الحبّ الإلهي) من هذا الفصل.
(3) تهذيب الأحكام مصدر سابق: ج4 ص186 ح2، باب نيّة الصيام.
(4) غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق: رقم 1040.
(5) المصدر السابق: 292.
(6) كنز العمّال في سُنن الأقوال لعلاء الدِّين المتّقي الهندي، تصحيح صفوة السقا، نشر مكتبة التراث الإسلامي، الطبعة الأولى، 1397هـ، بيروت: تحت رقم 7272.
(7) علل الشرائع للشيخ أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه الملقّب بالصدوق، نشر دار إحياء التراث، الطبعة الأولى، 1408هـ، بيروت: ص124 ح1.
(8) انظر: فقه الأخلاق، مصدر سابق: ص22.
(9) انظر: الأربعون، للإمام الخميني: مؤسّسة دار الكتاب الإسلامي، قم: ص308.
(10) البقرة: 261.
(11) البقرة: 245.
(12) مجمع البيان في تفسير القرآن لأبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأولى، 1415هـ، بيروت: ج2 ص136ـ 137.
(13) مجمع البيان في تفسير القرآن ، مصدر سابق: ج2 ص137.
(14) الإنسان: 8.
(15) الإنسان: 9.
(16) بحار الأنوار، مصدر سابق: ج70 ص175.
(17) من قوله تعالى: (فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) إلى قوله تعالى: (إنَّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً). الآيات: 11 – 22.
(18) إشارة إلى الحديث القدسيّ المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: (قال الله عزّ وجلّ أنا خيرُ شريك، مَن أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلاّ ما كان لي خالصاً). انظر: أصول الكافي، مصدر سابق: ج2 ص295 ح9.
(19) الفرقان: 23.
(20) النور: 39.
(21) المجادلة: 19.
(22) الطارق: 9.
(23) غرر الحكم، مصدر سابق: 9094.
(24) المصدر السابق: 4806.
(25) الكهف: 30.
(26) التوبة: 120.
(27) انظر: لسان العرب: ج7 ص26؛ مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، تحقيق صفوان عدنان الداوودي، انتشارات ذوي القربى، الطبعة الثالثة: ص292.
(28) أصول الكافي، مصدر سابق: ج3 ص169.
(29) تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام) للورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري، نشر مكتبة الفقيه: ج1 ص52.
(30) مسكّن الفؤاد للشيخ زين الدين العاملي المعروف بالشهيد الثاني، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام، الطبعة الثالثة، 1412هـ، قم: ص27.
(31) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق: ج3 ص169.
(32) إشارة إلى قول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في حديث له جليل القدر عالي المضامين مع كميل بن زياد رحمه الله كان ختامه: (اطف السراج فقد طلع الصبح ). انظر: شرح الأسماء الحسنى للملاّ هادي السبزواري، نشر مكتبة بصيرتي: ج1 ص133. وفي لفظ السراج إشارة منه إلى العقل والفكر والسؤال، وفي لفظ الصبح إشارة إلى الحقيقة، فيكون مفاد قوله عليه السلام: كفى سؤالاً وتفكّراً، فقد تجلّت الحقيقة وبان المقصد والمطلوب.
(33) لطائف الأعلام في إشارات الإلهام، للشيخ العارف عبد الرزّاق الكاشاني، صحّحه مجيد هادي زاده، نشر مؤسّسة الطباعة والنشر لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، الطبعة الأولى، 1421هـ، إيران: ص79ـ 80.
(34) المصدر السابق: ص80.
(35) الذين على فرض إرضائهم جميعاً ـ وهو محال عادةً ـ فإنّهم لا يغنون مُصانِعهم عن ربّ العالمين، بخلاف رضا الله تعالى. روي عن أُويس القرني رحمه الله أنّه قال: =
= ما سمعت كلمة كانت للحكماء أرفع من قولهم (صانع وجهاً واحداً يكفك الوجوه كلّها). انظر: تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، مصدر سابق: ج2 ص113.
(36) أي العرفاء خاصّة، وليس المراد بالذوق هنا ما هو منسوب إلى الذائقة الحسّية التي نُميّز بها نوع المأكل والمشرب، كما أنّه لا يُراد به مجموع الاستحسانات العرفية التي تتحكّم بها الثقافات والأعراف والتقاليد والظروف المحيطة بها، وأيضاً لا يُراد به الذوق الأدبي، وإنّما المراد به الشهود والحضور والمكاشفة، فأهل الذوق هم أهل الشهود والمكاشفات وهم العرفاء خاصّة لا غير، والذوق كما يرى مُنظّر هذا الفنّ في رسائله هو (أوّل مبادئ التجلّيات الإلهية). انظر: رسائل ابن عربي للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، نشر دار الكتب العلميّة، الطبعة، 1421هـ، بيروت: ص410.
وأمّا التحقيق فإنّها تُطلق ـ في هذا الفنّ ـ ويُراد بها التحقّق بالشيء المقصود، وليس التحقّق من الشيء المقصود، وشتّان بين الأمرين، بعبارة أخرى: إنّه يمثِّل مرتبة وجودية يصل إليها العارف وليس هو مجرّد مرتبة علمية ظاهرية.
(37) انظر: الرسالة القُشيرية لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القُشيري النيسابوري، تحقيق د. عبد الحليم محمود، و د. محمود بن الشريف، انتشارات بيدار، الطبعة الأولى: ص316.
(38) أبو محمّد سهل بن عبد الله التستري (ت283هـ) من أهل الذوق والتحقيق، كان يُسأل عن دقائق الزهد والورع وفقه العبادة وهو ابن عشر فيُحسن الإجابة، من أشهر أقواله (ما أعطي أحدٌ شيئاً أفضل من علم يستزيد به افتقاراً إلى الله) وقوله: (حياة القلب الذي يموت، بذكر الحيّ الذي لا يموت). انظر: الرسالة القشيرية، مصدر سابق: ص57.
(39) المصدر السابق: 316.
(40) سوف يأتي بيان هذا المعنى في بحث (حقيقة الاستخلاص) من هذا الفصل.
(41) الرسالة القشيرية، مصدر سابق: ص315.
(42) الفتوحات المكية للشيخ محيي الدين بن عربي، منشورات محمّد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت: ج3 ص332، باب 134.
(43) الأربعون للسيّد الإمام الخميني، مصدر سابق: ص306.
(44) نور البراهين للسيّد نعمة ¬الله الجزائري، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1417هـ، قم: ج1 ص79.
(45) غرر الحكم، مصدر سابق: تحت رقم (1792).
(46) الأجنبية والجنبية أمران مختلفان, الأول يلاحظ فيه ما هو خارج عن دائرة النفس, والثاني يلاحظ فيه ما هو داخل في دائرة النفس, وقد ورد التعبير بالجنبية في حديث للرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله حيث يصف فاطمة الزهراء عليها السلام بقوله: (إنّ فاطمة بضعة منّي, وهي روحي التي بين جنبيّ), انظر: الاعتقادات للشيخ المفيد محمد بن النعمان العكبري البغدادي, نشر دار المفيد, الطبعة الثانية 1414 هـ , ص 105.
(47) مستدرك الوسائل، للمحدّث الميرزا حسين النوري، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1408هـ : ج1 ص100.
(48) عدّة الداعي ونجاح الساعي للعلاّمة أحمد بن فهد الحلّي، تحقيق أحمد الموحدي القمّي، نشر مكتبة الوجداني، قم: ص203.
التعليقات (1)
السيد الحيدري
تاريخ: 2010-11-23 - الوقت: 01:56 مساءًالله يحفظك يارب من كل شر أنت نعم السيد المجاهد البطل و المتفقه في الدين و الأكثر جدارة و حزم للمناقشة المعادية في درب الدين و الشرع الإلهي الله يبقيك دوما للمؤمنين و المؤمنات يا كريم يارب