أَصْبَحْنَا وأصْبَحَ المُلْكُ كُلُّـهُ لله أيُّهَا المُعْتَدِلُونَ العَرَبْ
أحداث غزّة الأخيرة بيّنت هشاشة الدولة العربية وقِيَمِها المغلوطة تجاه أمنها القومي. غَدَا الأمر وكأن هذه الدولة كجمهورية موزٍ شائخة، لا تُقلِقُ عدواً ولا تترك استجارة لا برمضاء ولا بغيرها. فكيف نجِدُ في أحوالها وصفة سياسية؟ لا أدري.
في السياسة ودهاليزها يُدرك الجميع، بأن عدم تناسب ردود أفعال الدول تجاه مُشكلة ما يُفقدها شرعية الاستيلاء على الحيّز السياسي. بل ويمتد إلى اهتزاز ميكانيزمات التصديق والصّدقيّة وتوابعهما. بالنتيجة فإن الحديث عن شرعية الاستيلاء يعني مُنتهى الفصل بين الوجود وحقّه، وبين اللاوجود ومُسبباته.
في أحوال الموقف المصري كنموذج «دولة عربية» حديثٌ يجب أن يُتَم. فحدودها مع القطاع قرّبها إلى الحدث أزيد من غيرها لدواعي الجغرافيا. وباتت مصالح البلد ومُتطلبات القومية ودفوع الإنسانية أقرب إلى بعضها البعض في اتحاد جهري. إنه امتحان الدولة الحقيقي.
في هذه الأزمة، لم يُرِد أحد لمصر أن تُسيِّبَ حدودها أبداً. ولكن أن تستقبل القاهرة 116 جريحاً فقط من أصل ثلاثة آلاف في اليوم السابع للعدوان على قطاع غزّة فهذا شُحٌ إنساني لا يُمكن تفسيره!
ولم يُرِد أحد أن يعبر الجيش المصري خطاً كبارليف. ولكن أن لا يُحال الموضوع إلى التحدّي السياسي المعنوي في أضعف حالاته وأن لا يُستدعى السفير المصري في تل أبيب للتشاور، ويُطلب من السفير الصهيوني في القاهرة بمغادرة البلاد، فهذا أمر عصيّ عن الفهم والواقعية السياسية!
أن يتم تجميد الحملة على حماس وهي في وضع الدفاع عن أرض الوطن! هل هذا صعب؟! أن تُوقِف القاهرة تصدير الغاز إلى الكيان الصهيوني! هل يحتاج هذا إلى إعجاز في القوة؟! أن يتمّ إحالة الموضوع إلى الحسّ الإنساني البحت وتُفعّل حدود القطاع مع مصر! هل هذا مستحيل؟!
من غير المُمكن أن يُقال عن طرد كاركاس للسفير الصهيوني بأن بُعد البلد عن منطقة الصراع في الشرق الأوسط مكّن نظام شافيز من فِعل ذلك لِقلّة تبعاته، ولا يُقال عن فِعْله ذاك (بإعجاب) وهو غريب عن منظومة المصالح المباشرة للقضية الفلسطينية!
والحال في زمنيته بُعْداً وقُرباً يُثبّت الحديث عن أداء مصر تجاه ما يجري في قطاع غزّة. فكيف القُرب في الزمن وفي الجغرافيا وفي المصالح وفي التّماس لم يدفع بها لأن تقوم بما أعمله البُعد (في كل ذلك) في النظام الفنزويلّي لكي يقوم بما قام به؟!
أمام كل ذلك الإخفاق العربي، يتمّ اليوم تعيير الموقف السوري لتجميده جبهة الجولان، واحترامه اتفاق فكّ الاشتباك مع الكيان الصهيوني منذ العام 1974، والالتفات بدل ذلك «للجبهات البديلة للاستقواء بها» وهنا أيضاً حديث يجب أن يُتَم.
فإن وُجِدَت أرض مُحتّلة في غزّة أو لبنان ووقف السوريون منها موقفاً مُؤيداً لقوى التحرير (كما وقفوا مع مصر المُحاربة في معركة أكتوبر/ تشرين الأول وسنوات الاستنزاف) فإن الأمر يُصبح ضمن هذا الحد محلّ إشادة وليس العكس. ففي مراحل النضال ضد عدو مشهود ونُدرة في الأعوان فلا طعام سيئ. وعلى الجميع أن يُدرك مسئوليته.
فالسوريون لم يستعيروا أرضاً للغير ليُقاتلوا عليها كسباً لشيء يُعينهم على استرجاع أرضهم المنهوبة منذ أربعين عاماً سِلماً أو حرباً. وإنما كانوا عوناً لشعوب وجماعات تُناهض المحتل. وكان الأجدى بالمعتدلين العرب الإشارة إلى هذا وليس التنابز بألقاب هم أولى بها من السوريين.
لقد قِيل هذا الكلام بحق دمشق في العام 1976 وفي العام 1982 وقِيل ذلك أيضاً إبّان حرب تمّوز 2006 ولم تَرجع الجولان لأصحابها من كُوّة ضغط «الجبهات البديلة» بل وحتى لم تُسوّى طولاً وعرضاً في فترات السلّم!
هم دخلوا (أي السوريين) في مفاوضات مع الصهاينة في العام 1994، وفي العام 1995 وفي العام 1996 وفي العام 1999 وفي العام 2000 وفي كلّ تلك المراحل كانت جبهة الجنوب اللبناني ملتهبة إلى أقصى درجاتها قبل انسحاب مايو/ آيار.
وهنا يكمن الإشكال. ففي سِلم دمشق ومناكفتها يتم تفسير موقفها على أنه تثمير جبهات الآخرين لصالحها وبيع دماء الحلفاء. وهو هَوَسٌ «الاعتدال العربي» من الاستراتيجيا وليس التكتيك الذي يتبدّل في كل حين تتناطح فيه المصالح.
ضمن هذا المنطق يحقّ لحلفاء سوريا في لبنان وإيران أن يلوموها أيضاً على مفاوضات 1994 والعام 1995 والتي جاءت مباشرة بعد قصف مدفعي صهيوني مكثّف للجنوب اللبناني واختطاف مصطفي الديراني.
وضمن هذا المنطق أيضاً يحقّ لحلفاء سوريا أن يلوموها على مفاوضات العام 1999 مع تل أبيب والتي جاءت متزامنة مع قصف المدفعية الصهيونية لمجرى نهر الليطاني وبلدات كوثرية السياد وحومين الفوقا والزوطرين الشرقية والغربية وتلال إقليم التفاح!
لذا فإننا نقول إن الصحيح هو أن لا يُقام الإشكال على الصحيح، وإنما على الخطأ وفقط. الصحيح هو أن دمشق مانعت لكنها لم تُقفل باب التفاوض. والخطأ أن القاهرة سالمت وأقفلت كل وسائل الضغط الأخرى.
الصحيح أن دمشق استقبلت مئات الآلاف من اللبنانيين في حرب تمّوز وفتحت لهم بيوتها وبساتينها وأسواقها، والخطأ أن القاهرة هدّدت بكسر قَدَمِ أي فلسطيني سيعبر الحدود تجاهها من قطاع غزّة عبر معبر رفح.
الصحيح أن دمشق تستضيف نصف مليون لاجئ فلسطيني من مهجّري النكبة (دون احتساب لاجئي نكسة 1967 والعام 1970 بعد أحداث أيلول الأسود في الأردن) ولديها مُخيّم اليرموك وجرمانا وذانون وسبينة وخان الشيح والسيدة زينب والحسينية والرمدان والنيرب ودرعا ويتمّ السماح لهم بالإقامة في العاصمة دمشق وفي المدن التجارية والسياحية كاللاذقية وحلب وحماه وحمص ودرعا.
والخطأ أن مصر تتخفّف من أعباء القضية الفلسطينية (إنسانياً) في أحلك ظروفها ومآسيها، بل وتدخل في معادلة ضرب الوجود الفلسطيني «المنتخب» في القطاع وتشبيهه على أنه إمارة إسلامية إيرانية إخوانية مجاورة يجب التصدّي لها!
هذه المفارقات في الدبلوماسية العربية هي التي تزيد من حالة الفرز الشعبي تجاه الأنظمة الحاكمة. ففي أمر كهذا لا يُمكن أن يُطلب من الشعوب العربية أن لا تُمارس وعياً سياسياً تُعمِله في تعاطيها اليومي والعاطفي وأن تُقيم بين ما يجري مفاضلة.
التعليقات (0)