القَضَاءُ والقَدَر .. والسَّأْمُ والضَّجَر .. والبِنَاءُ بِالحَجَر
قبل أيام، تحدّث المدير التنفيذي لشئون الاستثمار بشركة المترو (قطارات الأنفاق) في الجمهورية الإسلامية علي شاهاني عن استخدام تقنية أمان جديدة باسم الأشعة الفسفورية لإنارة الأنفاق والأبنية في محطات شبكة المترو.
التقنية التي توصّل إليها «الاختصاصيون الإيرانيون» هي عبارة عن إنتاج منظومة إنارة جديدة تعمل من دون الحاجة إلى الكهرباء في الأماكن المغلقة والمظلمة، وتعتمد طريقة اجتذاب أشعة الضوء وتقوم بخزنها ساعات النهار ثم تعمل على عكسها في ساعات الليل.
في السابق كانت هذه التقنية تحتكرها شركات في الولايات المتحدة الأميركية وأوربا. اليوم يبدو أن هذا الاحتكار قد تمّ فكه. وهو بالتأكيد ليس الأول من نوعه، فقد تمّ سابقاً الحديث عن تطورات صناعية في إيران كانت في السابق حكراً على الشركات الغربية.
الإيرانيون باتوا اليوم يُراكمون العلوم. بعضها نتيجة أبحاث، وآخر نتيجة تهجين. هم دخلوا في مُناجزة فكرية ومالية لتسييل المعلومة عبر الترجمات وتصفير الأمّيّة وتسهيل الوصول إلى الكتاب والدراسة في جامعات الشرق والغرب.
محافظات إيران الثلاثون باتت تضم أكثر من 735 مكتبة جوّالة تحت عنوان «المشروع الجامع لتوزيع الكتب»، بالإضافة إلى مكتبات إلكترونية وأخرى ثابتة. وقد زُرت شخصياً المكتبة الوطنية بطهران ووقفت على موسوعيتها العلمية وتعدد مرافقها.
وقد ساهم كل ذلك في أن تُوجَّه طاقات الشباب الذين يُمثلون 70 في المئة من الشعب الإيراني نحو البحث العلمي مصحوباً بحملة تعبئة وطنية، تسندها الظروف السياسية القائمة وتُغذيها القومية الملتهبة.
في إيران اليوم 23 مليون مستخدم للإنترنت بنسبة نمو تزيد على 9100 في المئة، وهناك 320 جامعة إيرانية اتصلت بشبكة الإنترنت عبر الألياف الضوئية، بالإضافة إلى 4500 مدرسة و15000 مصرف. وبالتالي فهي الأولى في الشرق الأوسط على مستوى النمو التقني.
كما تمّ تخصيص 288 مليون يورو كموازنة بحثية و26 مليون دولار لشراء أجهزة تستخدم في الأبحاث و161 مليون يورو كموازنة معتمدة لوزارة العلوم الإيرانية. لذا فلا غرابة اليوم أن نعلم بأنه ومنذ فبراير/ شباط المنصرف بدأت إيران في تدشين شركة اتصالات في محافظة جهارمحال وبختياري وحيازة تكنولوجيا صناعة معدات الهواتف النقالة.
قد لا يُدرك الكثيرون أن ما تُحقّقه إيران بمقاييس التنمية والتطوير الدولية هي أرقام مضاعفة. لماذا؟ لأنها لم تُنجز في أوقات تنمية مفتوحة أو في ظروف طبيعية. هي أُنجِزت في ظروف حرب وعقوبات وهواجس أمنية مُلِحّة. فضلاً عن أنها لم تتم نتيجة اتفاقيات طويلة الأمد مع دول عظمى على غرار مشروع مارشال في أوروبا، أو مع اليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
صبرُ الجمهورية الإسلامية غير مُتوافر للكثير من الدول. فقبل خمسة عشر عاماً انخرط العلماء الإيرانيون في علوم الفضاء. اليوم صار لديهم مشروع فضائي ناجز باسم أميد واحد مع محطاته الأرضية المُستقبِلَة للمعلومات الواردة من الفضاء بالإضافة إلى محطات التحكم به (منظومة فضائية، وإطلاق صاروخ بحثي فضائي، وتدشين قمر صناعي) وبالتالي فهي اليوم البلد الحادي عشر عالمياً الذي يمتلك هذه التقنية!.
والأكثر من ذلك فإن المحطة الخاصة بالتوجيه والمراقبة ستقوم بالتحديد التقني لمدار القمر الصناعي بمديات ارتفاعية منخفضة، وتشبيك نظام الاتصال بالقمر الصناعي مع القدرة على إرسال واستقبال إشارات السيطرة، ورفع المدى التناسبي لمواجهة ظروف علوم الفضاء وتقدمها.
إيران وفي المدى المنظور ستستطيع التعامل مع تداعيات الكوارث الطبيعية كالزلازل ومكافحة التصحّر وفيضانات الأنهار والسيول وانحسار الغابات وأنظمة الاتصالات وتخطيط المدن والأحياء نتيجة هذا التطور في مجال علوم الفضاء. وخصوصاً أنها على خط زلزالي نَشِط، ومن الدول الثمان الأولى عالمياً في التعرض للكوارث الطبيعية.
مُشكلة الإيرانيين أنهم في معركة مفتوحة. في الملف النووي يُحارَبُون من قِبَل الولايات المتحدة بعنوان عسكرية مشروعهم. وفي ملف الفضاء يُحاربون أيضاً رغم أنه تطور علمي بحت. وبالتالي فإن المعركة ليس لها وجه مُحدد. إنها بحق معركة حضارية.
لا ندري .. فلربما تكون مشكلتهم المدخل لخلاصهم. أو كما يقولون «النظام في عدم النظام». لأن الظروف الصعبة هي التي تدفع بك لأن تبحث عن وسائل النجاة. فالعيش بالتحدي يُولّد لديك الإحساس بقيمة الأشياء وبقيمتك في هذا العالم.
الدراسات العلمية الحديثة باتت تُشير اليوم إلى أن الجمهورية الإسلامية تحتل المرتبة الأولى في عموم بلدان الشرق الأوسط في سبعة فروع علمية هي النانوتكنولوجيا والرياضيات والكيمياء وهندستها والميكانيكا والبولمير والهندسة الطبية.
بل إنهم وقبل أشهر قليلة مضت باعوا التكنولوجيا الخاصة بتصميم الجرارات الذكية إلى الشركات الألمانية في صفقة تجاوزت الـ 26 مليون دولار، تلتها بعد فترة قصيرة صفقة مماثلة.
كما أن إيران اليوم تعتبر الثالثة عالمياً في تكنولوجيا الصمامات الغازية بعد الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا. اليوم باستطاعة هذه التكنولوجيا أن تخفض ما نسبته 90 بالمائة من مخاطر تسريبات أنابيب الغاز في أكثر من ستة آلاف و 230 قرية و 713 مدينة إيرانية تتصل بشبكة الغاز، وهو ما تمّ اختباره فعلياً بمدينة كرمان وسط إيران.
من يدرس الحركة العلمية في الجمهورية الإسلامية سيلحظ أنها لا تنبسط على علوم مُحددة، وإنما هي تتدافع كالدومينو. فالقفزات التصنيعية والابتكارية متنوعة وذات مسارات مزدوجة.
وربما يرجع ذلك الاهتمام الإيراني بامتلاك التكنولوجيات المختلفة لسببن مهمين. الأول هو الظروف السياسية التي مرّت بها الثورة وخصوصاً نتائج العقوبات الدولية والأميركية بالذات.
الأمر الذي دفعها لأن تحاول تعويض ذلك بتوطين العلوم والصناعات للتحرّر من تداعيات العقوبات، ثم لتمييعها وإبطال مفعولها، ثم للوصول إلى نقطة نظام إقليمية ودولية تظهر فيها إيران على شكل رقم صعب في معادلات الصراع.
الثاني هو الإرادة الوطنية في ذلك المسار العلمي والتصنيعي. فالثورة التي تحرّكت على أيدي علماء الدين وتأسّست مبانيها على أفكارهم، كانت تعيش التحدّي مع ذاتها والتناسب مع الظروف التي كانت تحيط بها.
وليس غريباً أن نرى وثيقة كتبها رئيس المحكمة العليا وأحد أقطاب الثورة السيد محمد حسين بهشتي يتحدث فيها عن ضرورة إحياء البرامج النووية لإيران. والمعروف أن الدكتور بهشتي استُشهد في 28 يونيو/ حزيران 1980 في انفجار مقر الحزب الجمهوري، الأمر الذي يعني أن الوثيقة هي بعمر الثورة. وبالتالي يظهر حجم الاهتمام السياسي بمثل هذه الموضوعات.
اليوم وبعد مضي أكثر من تسعة وعشرين عاماً على انتصار الثورة الإسلامية باتت التقارير تتحدث أن إيران ستكون قادرة في بحر الخمس سنوات المقبلة على بناء محطات نووية محلّية من دون الحاجة إلى مساعدة خارجية. وقد وُضِعَت فعلاً الخطط والتصاميم لبناء مثل هذه المحطات في منطقة دارخوين بطاقة 360 ميغاوات.
في معادلات الصراع اليوم لا تنفع القوة وحدها بالتأكيد. فالدول تحتاج إلى صناعة قوتها من خلال الأدمغة أيضاً. فالسيادات التي كانت تعتمد على القوة لم يعد لها وجود في عالم اليوم.
حتى الولايات المتحدة لم تنتصر في بعض حروبها بالقوة، بل أحياناً بلوجستيات غالبة لا تنضب (بحسب تعبير كيسنجر) وبسبب هيمنة علمية تجاوز الإنفاق عليها 16 تريليون دولار خلال الحرب الباردة. وبالتالي فإن اهتمام الإيرانيين بهكذا علوم هو بالتأكيد يمخر في الاتجاه ذاته.
التعليقات (0)