لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ... ويخالفه في الإتجاه ... الضغط على الإسفنج يجعله يعود لسابق ما كان عليه ... بمجرد إزالة الضغط عنه ... أمّا الضغط على ما هو أصلب ... فلن تكون عودته لصالح جهة الضغط ...
عام 1414هـ وقبل وفاة الرسول الأعظم (ص) بقيت رهينة لدى مخابرات أمن الدولة لمدة ثلاثة أيام ... بعد خروجي ليلاً ألقيت قصيدة ... مات النبي نوحي ... انفجر الحماس لدى المشاركين كردّة فعل ... بتقديري لم يكن اللحن يحمل تلك الشُحْنات الحماسية ... إلا أنّ الحدث المحيط هو الذي أضفى تلك الدفقات الحماسية على الموكب ...
القصيدة حافظت عليها لم تجدها المخابرات ... خبأتها تحت مقعد السيارة ... ومن عجب أني أبحث عنها الآن ولا أجدها ... خلف تلك الإجراءات الأمنية ضمنت قصائدي أسلوباً مُبطّناً أكثر دقة ... حتى القصائد الدارجة وظّفت فيها الرمز كوسيلة لإيصال الرفض والاعتراض على الظلم ... نعم ما دامت الكلمات الصادقة لا تجد آذاناً سميعة ... فلعل الألغاز تكفي ...
هكذا هم الطغاة لا يوظفون ما وهبهم الله إلا لعصيانه ولأذية خلقه ... بهذا التوجه كتبت وقفة أذكِّر فيها الطغاة بلحظات الموت ... لا تظلم يطاغوت ... واذكر ساعة الموت ... وارحم يرحمونك ... لعلّ وعسى أن يتذكر ظالم ويؤوب إلى ربه ... وليس بالضرورة أن يكون الظالم حاكماً ... لعلي أنا أو أنت أن نكون من هذا الصنف ...
وترافق هذه الوقفة أخرى في نفس المناسبة ... وفاة الإمام الكاظم (ع) ... كلها الدنيا عجب يا ناس ... فيها مقارنة بقيد علي يوم الدار ... وقيد السجّاد في كربلاء ... وصولاً إلى قُيود الكاظم ... وكلها حالة واحدة تفتقت إفرازاتها من يوم الدار .
وفي وسط هذا الخضمّ من تلاحق الوفيات والذكريات قدّمت ثُنائيات متتابعة ... أحدها مع محسن العرادي ولأول مرة معه في المسير بقصيدة ... من هاهنا كان الإنتصار ... فيها تعرض لمظلومية الطائفة ... وإقصائها عن حُقوقها ... وثُنائي آخر مع الرادود حسين أحمد ... كان لتوّه متبلوراً في الموكب كرادود ناشئ ... في بدايته تلك كان صوتاً طبق الأصل لصوتي ... وأداءً مماثلاً كنسخة مصورة ...
في ذلك الثُنائي قدّمنا قصيدة ... لو قِيلَ لي واليت من إني أجيبُ قائلاً ... فاطمةٌ وأبوها ... وبعلها وبنوها ... أبيات القصيدة ذات تقطيع مُجهد مُضني ... وسيلتي ... وعروتي ... آل الرسول الغررُ ... التقطيع لا يحتمل أكثر من كلمة ... وفي ذيلها قافية ... مرتبطة بالأولى في المعنى ... ويتلوهما ... شطر التفعيلتين ... مستفعلن مستفعل ... ونحتاج لثمانية أبيات لتوفية المعنى المطلوب ... هذا التقطيع يتطلب من الشاعر سعة إطّلاع ... وممارسة لالتقاط الألفاظ المناسبة وصفها في الأبيات .
وفي هذا العام أيضا قدّمت قصيدة بعنوان ... مذهبنه بركان ... من عمق الأحزان ... أوضحت فيها كثيراً من أسماء عُظماء الطائفة ... كالطوسي والطبرسي والمفيد والحلّي ... والشيخ يوسف والشيخ حسين البحرانيان ... والشيخ ميثم وصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري ... وعلماء الجهاد كالخالصي والحبوبي والسيد الميرزا الشيرازي صاحب فتوى التنباك ... كذلك الآخوند والسيد الصدر ... وما يُحاوله الأعداء من طمس لفضائل هذه الشخصيات ...
تلحقنا المناسبات بأحداثها ... ولا ننفك من مناسبة حتى تدركنا الأخرى ... ليلة العاشر بما تحمل في طياتها من ذكريات ... دائماً يعود المُعزي للوراء ويتذكر القصائد السابقة ... ويعقد مقارنة بينها وبين الجديد ...
هذا العام (1415هـ) قدّمت قصيدتي الجديدة ... يا عاشر تراني ... من ذوات الوزن الطويل ... عقدت فيها حواراً خيالياً بين السيدة زينب وطفلة من بنات الحسين ... خرجت معها يوم عاشوراء تتفقدان موضع الحسين ... حتى رأتا الإمام مصاباً بالسهم ... وشهدتا كل ما وقع عليه وهما تتوجعان لما يُصيبه من عظيم الخطب ...
البعض لم ترق له القصيدة ... المقارنة معقودة بينها وبين السابقات ... العام السابق في ليلة العاشر ... القصيدة كانت مشتركة بين جعفر سهوان ومكي جاسم ... في مطلع شهر محرّم وأثناء جلساتنا المتتابعة ... جاء جعفر بلحنه بوزن قصيدة أحرم الحجاج للشيخ حسن الدمستاني ... وببيت من أبياتها أيضاً ... قال هذا لحني وأريد شاعراً ينظم قصيدة على هذا الوزن ... تدخلت أنا قائلاً ... لا نحتاج إلى قصيدة ... ملحمة الشيخ حسن الدمساني تفي بالغرض ... وهي محفورةٌ في وجدان الناس ومؤثرة ... وتستوعب الكثير من المصاب ليوم عاشوراء ...
اقتنع الأخوة من الرأي ... طبعنا لهما القصيدة بحجم كبير وقدّماها بمستهل يقول ... كلنا جرحٌ ... كلنا لطمٌ ... كانت الليلة كأروع ما تكون بكاءً وعاطفة جيّاشة ... لكثرة البكاء لا تسمع لطماً ... ترى عُيوناً دامعة ... وأبصاراً خاشعة ...
لهذه القصيدة في أفئدة الشيعة البحارنة بالخصوص موقع خاص ... لها مناسبة خاصة باسم حرم الحجاج ... تُتلى فيها القصيدة مطعّمة بأبيات باللهجة الدارجة تتخللها ... بين الفقرة والأخرى ... أما يوم عاشوراء فلها نفس مختلف ...
يُهيئ لها موكب خاص بها ... يُسمى موكب الجناح ... ذو الجناح فرس الإمام الحسين (ع) يوم عاشوراء ... يُلبس أحد الأحصنة لباساً أبيضاً.... يصبغ بقطرات حمراء تخترق بياضه ... تعبيراً عن دماء الإمام السائلة ... ويشك في القماش سهام خشبية ... وعلى ظهر الحصان حمامتان ملطختان بالدماء ...
يُسار بالحصان أمام الموكب ... يتقدم الموكب الرادود القارئ لقصيدة حرم الحجاج بلحنها الخاص ... وخلفه باقي المعزين يلطمون ويُجيبونه بالجواب ...وكلهم خلف الحصان سائرون ... هم يقولون ويُرددون ... ذو الجناح أقبل من الميدان خالي واويلاه أي وا حسيناه ... هو يرد.. واويلاه... وهم يُجيبونه ..أي وا حسيناه ... ثم يقرأ فقرة أخرى من القصيدة ...
ويلقى هذا الموكب اقبالاً واسعاً من كبار السن المُتطلبين لمواقع الحزن والشجى ... مع ما للشيخ حسن الدمستاني من عطاءٍ جميل إلا أنّ أشهره هذه القصيدة ... وقصيدة أخرى يُرددها الخطباء فوق المنبر ... من يُلهه المرديان المال والأمل ...
وباعتقادي أنّ ملحمته أصابها بتر لسببٍ ما ... فلا أعتقد أنّ الشيخ بخبرته في هذا الفن من الشعر أن يبدأ القصيدة بما هو موجود لدينا ... أحرم الحجاج عن لذاتهم بعض الشهور ... هذا الفن من الشعر لا بُدّ له من بيتين يُقدم بهما الشاعر ليؤسس عليهما أقفال المقاطع كلها ...
مع ما في القصيدة من براعة في استخدام المحسنات البديعية من جناس وصور بلاغية ... وقوة سبك وغموض ألفاظ ... إلا أنّ القصيدة تحظى بالقبول لدى كل المستويات من الأعمار لكونهم نشأوا يسمعونها مُنذ نعومة أظفارهم ... ومُنذُ أن تفتّحت آذانهم وهم يسمعون الخُطباء يُرددون أبياتها ... فلعلّهم يفهمون كلمة وعشر كلمات لا يعقلونها .
التعليقات (0)