الفطن يكتسبُ ما في عقول الآخرين ويضيفها إليه ... ولا تكون المجالسة والمحادثة لقتل الوقت ... تكون المجالسة للتزود بما لديه من فائدة ... وضمها إلى نفسه ... فالحياة تحتاج لساق طويلة تقطع بيداءها ... وتعبر صِحاريها وسهولها ... المَفتُون بما يمتلك يبقى فقيراً عن الاستزادة ... وينخدع بما في حوزته وعند الآخرين ما هو أنفس مما لديه ...
كما طلب مني جميل العرادي ... كتبت له قصيدة على لحن أعده لوفاة الأمير الإمام علي (ع) ... بعد الفراغ من تدوين القصيدة كشفت الأقدار عن توارد خواطر غريب ... على عادتِنا في الجلوس بضيافة الشاعر سيد عيسى شرف في مجلسه كل ليلة ... نتسامر ونتناقش في أمور الموكب ...
نتحاور بشأن ما أدّيناه من مشاركات ... ونتشاور فيما سنقدم عليه من قصائد وألحان ... أظهرت مطلع قصيدتي التي كتبتها لجميل العرادي ... الدهشة بدت على صفحة وجهه ... قال من كتب هذا المطلع ؟... أجبته بأني من كتبه ... قال غير معقول! ... قلت كيف ؟... فتح درج طاولته الصغيرة ... أخرج ورقة معطوفة على بعضها ... قال لي اقرأ...
المستهل الذي كتبته لجميل ... ليله والموقف رهيب عالهواشم ... راح والدهم ... من يظل عندهم ... وما رأيته في الورقة كان هو نفسه مع فارق في مكسر المستهل ... ليلة العاشر ... كلها مخاطر ... وهكذا تلتقي الخواطر عند بعضها ... وتنتقل من نفس لأخرى ... وتطير من صفحة ورقة إلى صفحة دفتر بعيد ... لكنه قريب ...
في المحرّم تتوقد الضمائر عشقاً لأبي الأحرار ... وتبرز النفوس المحبة ولهها في مواكب ومآتم الغريب المظلوم ... تُبرقع الجدران داخل المأتم بالسواد ... ولدى أول وهلة يقع ناظرك على ذلك السواد تخترق العبرة حُجُب القسوة ... فتأخذك الغبنة متغلغلةٍ في الحلق ... وتنطفئ الكلمات من فيك ... هذا هو قتيل العبرة ...بسلطانه المتحكم في أقداس القلوب ...
وتركز الأعلام على جدار الحسينية ... سوداء تهفهف يميناً وشمالاً ... مطرزة حاشيتها باللون الأخضر أو الأحمر ... لا يمكننا المرور على الألوان دون الالتفات إلى رمزيتها ... السواد حزنٌ أبدي لا يمكن انتزاعه من مُهجنا ... بهذا الحزن نرفض كل طاغية ... بهذا الحزن نتعرف على الجائرين ... ونضع أنامل الاتهام على أفعالهم .
اللون الأخضر يُحيط بالأسود إعلاناً عن بروز الحياة من نواحي هذا الحزن ... الإخضرار رمز الخصب والنبات اليانع ... ونحن في أحزاننا نسعى لتخصيب المبادئ الحقة ... اللون الأحمر إيذاناً بانبلاج الغضب الدموي من ثنايا الحزن ... الإحمرار صورة الدماء الحية المتدفقة ... ولا زالت الراية المرفوعة فوق قبة سيد الشهداء حمراء قانية ... تستبدل بسوداء في مواسم الحزن..
الحكومات في بلداننا ولفتراتٍ مضت منعت وبشدّة الأعلام الحمراء ... لا يعلم السبب الحقيقي للمنع ... إذا كان خوفاً من المد الشيوعي ... فهذا لعمري توهم ما أتعسه من توهم ... أنّى للشيوعية أن تتسلل إلى معقل السبط الغريب ... حتى إن حاول بعض عاشقيها التذرع بالمواكب لتمرير رسالته ... إلا أنها لفترات لا تفتىء وتكشف توجهاتها وتحارب...الحسين خطٌ إنساني نعم ... يدافع عن الحقوق عامة ... بوسائله النابعة من الشرع المحمّدي فقط ...
ليلة العاشر من المحرّم ليست كالليالي الأخرى ... ليلة مُتفردة بخصوصيتها ... وقعها الرهيب في النفوس لا جدال فيه ... تلك الليلة التي جمعت بين أحشاء هزيعها قلوباً تترقب المنايا ... الليلة اليتيمة في الدهر ... السيوف مُحدقة برجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه ... وبنات محمّدٍ مخفوراتٌ في الخيام ... ينتظرنَ فجراً دامياً ...
ليلة العاشر تزرع الرهبة في نفس الرادود ... حين يُدرك حجمها ... يخشى الدخول في حرم لا يتمكن من تأدية واجباته ... كلما دنى وقت المشاركة تضاعفت طرقات القلب بين الضلوع ...
تمر بي على هذه الحالة ... أعددت القصيدة ...ما تخاف اتقوم ثاير... مطلبك تحيي الشعائر ... المرة الأولى التي سمعت فيها وقدمت قصيدة في ليلة العاشر بهذا النفس الحماسي ... الأبيات تحمل في معانيها ترجمة لرفضٍ حسيني أبي ... وتُقدم رؤية شجاعة لما أبداه الحسين من صمود ... إزاء السُلطة اليزيدية الفاسدة ...
وفي أقفال مقاطعها أسلوب معتمد ... أحدها يقول ... ما تخاف اتقوم ضده ... مطلبك رايه تفنده ... وكل الأقفال مجراة بهذا الأسلوب ... الكلمتان الأوليتان من البيتين مؤكداً عليهما ... وتتغير بقية البيت ... حيث تعطي نتيجة مختلفة في كل فقرة ...هذا الأسلوب أعتمده في قصائد كثيرة لتلك الفترة ... خروجاً عن النمط التقليدي السائد وتجديداً في أسلوب الفن الشعري والطرح ...
موسمان متلاصقان نعمل فيهما بجد متتابع ... محرّم وصفر ... لا تفتر الحيوية من أعضاء ... تدور كالشمس لا ينقضي من دورتها نهار ... إلا لتعود بنهار جديد ... في صفر المظفر وفي وفاة الإمام الحسن المجتبى (ع) صنعنا ثنائياً مميزاً ... بيني أنا والرادود (حسن المعلمة) ... تقارب الصوتين جعل من الثنائي عملاً رائعاً ...
سبق وعمل الأخوة قبلنا ثنائيا. لكنه لم يرق لنجاح ثنائينا....ثنائينا بحنجرتين من فئة واحدة ... لا يستطيع المستمع على عجلة التفريق بين صوتينا ... وتلك لعمري من أهم مميزات الثنائي الناجح ...
بطبقة الجواب تنطلق الأبيات ... ومن منطلق الدفاع عن قضية الحسن الزكي ... راحت الأبيات تدفع التُهم الباطلة ... وأقوال الزور ... وانعطف بحث القصيدة على الفكرة الأساس في القصيدة ...
الصحافة ودورها ... عرفنا السامع بدور الصحافة الحقيقي ... في تقديم الحقائق جلية ... ونبهنا إلى انحراف قسم كبير من الصحافة عن الجادة وسيرها في ركاب السلطة ... كما سارت أقلام الضمائر الرخيصة في خط معاوية بن أبي سفيان لتشويه صورة الحسن الزكي.
تلكَ هي قصيدة ... شوف واقرأ هالدعاوي الزائفة .... في السابع من صفر لعام 1406هـ أول ثنائي متقن في موكبنا ... وأول ثنائي جمعني بالرادود (حسن المعلمة) ... في صوت ونص ولحن واحد ...وكانت مسكاً افتتحنا به باقة ثنائيات متعددة ولسنين متباعدة...
التعليقات (0)