مَوْسَقَةُ الحُدُود
لم تكن مسئولية تحويل إيران بعد الحكم الشاهنشاهي الملكي إلى كيان مستقر، والسياسة إلى صيغة تفاعلية تختص بإنتاج الخيارات المتباينة لمُكونات المجتمع ورعايتها بأمر سهل ويسير بالنسبة إلى السياسيين الإسلاميين في إيران، وكانت أصول المشكلة تكمن في وجود تركيبة جديدة من الأفهام السياسية المؤدلجة التي وَجبَ عليها التصالح مع غيرها من الأفهام لاقتسام القوة الشرعية للدولة لتسيير أمورها بشكل أليق، وقد وُجِدت الأدبيات السياسية والدينية المُوثّقة لديهم قاصرة عن أداء دور فعّال من دون استخدام العقل العام أو تشتيت مفهوم القوة المُلزِمة للإجماع من قوة قهرية لا ترحم التنوع إلى قوة مُسالمة تراعي طبيعة الآراء المختلفة عبر ربط استحصال إجماع المجموع بذلك العقل أو على أقل تقدير ربطه بالتخصص والمشورة المُلزمة عُرفاً .
ومن ذلك نشأ الحديث عن موضوعة ولاية الفقيه التي هي في أصلها الفقهي المُجرّد كونه مفهوم حكمٍ سياسي/ ديني بقيت خارجَ الأوعية الدستورية والإدارية لتوصيف الدولة الدينية مهما كانت تخريجاتها لاختلاف المقاس بينهما والجدل بشأن علاقة الأرض بالسماء، ولأن الدستور هو الأساس الذي تستوي عليه غاية تجميع السلطة والقوة ضمن نقطة ارتكاز الدولة؛ فبالتالي فإن ذلك الدستور لا يُمكنه أن يتدثّر في كيان هو أشمل منه طولاً وعَرضاً ومُتسيّداً على شأنه ومُتحكماً في إيقاعه وضبطه، لذلك فإنه وعندما قامت الجمهورية الإسلامية الإيرانية في العام 1979 كان قد مضى على توثيق هذه الأطروحة الفقهية بحسب الفهم الخميني الناجز أكثر من خمسة عشر عاماً، وكانت مبنية على إرث قديم يفوق الألف عام، ومن خلال التجربة وموازين القوى القائمة ومعطيات الحاضر وأكلافه تمّ تأطير النظرية وتفصيلها وفق منطق الدولة لتُصبح حجر الزاوية في النظام السياسي والديني أيضاً ومداراً حاداً لماهيته وهويته ومن ثمّ اللعب على قوس السلطات المُحالة دستورياً من دون استئسادها على البُنية التفاعلية للدولة، وقد تطلب ذلك تعرية التعريفات الفقهية المُجرّدة والصرفة الخالية من التناقضات ودمجها بالمنجز الحديث للحكم من دون المساس بالحيّزات الطاهرة في النظرية، وقد أُجِيزت تلك المتطلبات حتى بعد يناير/ كانون الثاني من العام 1988، وهو تاريخ زيادة صلاحياتها بالرجوع إلى المادة 110 والمادة 57 من الدستور .
لكن الأهم من كل ذلك هو الإجابة على التساؤل القائم: هل ان إطلاق ولاية الفقيه يعني كُليانيتها وأنها غير مُقيّدة؟ بطبيعة الحال فإن الجواب لا يُمكن أن يكون بنعم وإلاّ تجاوز الإطلاق حدود الشريعة خارج المصلحة العامة؛ لأن الشمول هنا يعني الإطلاق النسبي، بل إن الأحكام الحكومية المتزاحمة مع الأحكام الأولية في مرحلة التنفيذ، والأحكام الحكومية التأسيسية هي أيضاً واقعة ضمن الإطلاق النسبي أو كما يُقال الإطلاق في عين التقييد. والمتابع لمسيرة النظام السياسي في إيران سيقف أمام إشارات كثيرة أحدثها رقابة المجلس النيابي السادس على مؤسسات الولي الفقيه، لكن الأكيد أن هذه المواءمات ما بين القانون وصلاحيات الولاية تتراكم طبقاً لطبيعة الممارسة السياسية .
التعليقات (0)