ظفَارْ... بَيْنَ جُوْنُوْ الخَيْرِ وَالشَّر
لا أظنّ أن أحداً منا لم يعقد العزم في هذا الأوان أو بعد حين (على الأقل ضمن خيال حالم) لقضاء ما تيسّر من أيامه وعمره بأحد المراتع السياحية أو الدينية التي بدأت تشتعل أوارها ممتزجة في ذلك بمقاصد التغيير والترفيه .. إيران .. سورية وجنوب شرق آسيا للطبقة المتوسطة وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية واستراليا للميسورين أو لهواة السفر بالمشقّة .. تتعدد الأسماء ويتّحِد مركز التفكير لاستنفاذ عطلة هذا العام .
في رحلة سياحية خاطفة قررت زيارة حاضرة محافظة ظفار بسلطنة عُمان وهي مدينة صلالة وما يُجاورها من ولايات المحافظة العشر (صلالة، ثمريت، مرباط، سدح، رخيوت، ضلكوت، مقشن، وشليم وجزر الحلانيات وولاية المزيونة) وهي تمتد من أقصى جنوب السلطنة متصلة من الشرق بالمنطقة الوسطى، ومن الجنوب الغربي مع اليمن ومن الجنوب ببحر العرب، ومن الشمال والشمال الغربي بصحراء الربع الخالي . وقد تبيّن لي بعد اختتام رحلتي أن قراري كان في ذلك أكثر من مُوفّق .. عندما غادرنا الوطن الحبيب كان الطقس فيه كاللهيب، حيث درجة الحرارة تلامس في ظاهرها الخمسة وأربعين درجة أو أكثر .. وعندما دخلت الطائرة تخوم مدينة صلالة بدأنا نتحسّس ما يُمايز هذه المدينة المُذَهّبة عن باقي مناطق الخليج في الفترة من يونيو/ حزيران وحتى سبتمبر/ أيلول من كل عام، فقد كانت درجة الحرارة عند نزولنا في مطار صلالة المحلي تتراوح ما بين 24 و25 درجة مئوية وهي نسب منخفضة أتاحتها لها الرياح الموسمية القادمة من جنوب القارة الأم، وهي بالتأكيد مُعدّلات حرارة نادرة في منطقة الخليج التي تعيش على صفيح ملتهب . وعلى رغم من أن جمال المدينة ومناظرها الخلاّبة تزداد تأَلّقاً كلما اعتَلَيتَ سلسلة الهضاب والجبال التي تُسَوّرها إلاّ أنك لا تستطيع إلاّ أن تلامس الطقوس الرائعة والهاجعة على أطراف ووسط المدينة (150.794 عماني و63.537 وافد) التي أرّخ لها ابن بطوطة وماركو بولو باعتبارها مركزاً لحضارة المنجويين ما بين القرنين الثاني عشر والسادس عشر الميلاديين .
بعد أن أخذنا قسطاً من الراحة في مكان الإقامة المُسمّى لنا والذي كان مُلاصقاً لبحر هائج تندفع منه أمواج عاتية تأتيه من بحر العرب والمحيط الهندي، توجهنا بمعية الدليل السياحي الذي تعاقدنا معه مُسبقاً (وهو بالمناسبة من أقحاح الظفاريين) في جولة ماجلانية ممتعة، وبما أنه ظفاري المولد والمنشأ فقد أتاح له ذلك لأن يعصر آخر قطرات معرفته الدقيقة والتفصيلية بالمنطقة ومحيطها الأمر الذي مكّننا الوصول إلى مناطق جبلية نائية وسهول فيّاضة ومواقع تتميز بجمالها المتوهّج، كعين حمران ورزات وجرزيز وصحنوت وناقة صالح ووادي نحيز ودحقة وشواطئ ريسوت والدهاريز ووادي دربات وعروت وعشوق وجبل أتين وضريح نبي الله أيوب وهود (ع) ومنطقة الأحقاف المذكورة في القرآن الكريم وهي كلها علامات لامعة لهذه المدينة الفوسفورية . معظم من صادفناهم هناك من السُوّاح يقصدون المدينة لأجل ظروفها المناخية المعتدلة، وهي دفوع قد لا يفهمها إلاّ من اكتوى بلهيب الخليج الحارق، لذلك فإن القادمين من دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية هم السواد الأعظم من السوّاح، إلى جانب الآلاف من الأجانب الذين يأتونها من أوروبا والولايات المتحدة .. عند صعودنا إلى إحدى قمم الجبال العالية هناك تفاجأنا من شدة الضباب والرذاذ البارد الذي يتساقط علينا تباعاً، حيث كانت درجة الحرارة هناك بين 12 إلى 17 درجة، وهو مستوى مناخي ثابت على مدار العام كما أخبرنا بذلك دليلنا السياحي، وبجانب الرغبة في الهروب نحو ذلك المنجى المناخي المُترع جمالاً فإن مهرجان " خريف صلالة " هناك هو أيضاً من الحوافز المهمّة التي تدفع السائح لزيارة هذه المدينة الرائعة .
في صلالة تلحظ الطعام المشابه لحد التطابق مع المأكولات البحرينية مع فوارق في التسميات فقط، فالأكلات هناك تتمازج فيها اللمسات العُمانية والهندية واليمنية باستثناء الفنادق الكبرى فهي مازالت تُحافظ على ثباتها في تقديم الوجبات العالمية والمشهورة . وبما أن المدينة تقع على إحدى مناشط بحر العرب، فإنك تُلاحظ أن الكثيرين من أهل المدينة ومحافظة ظفار عموماً يركبون البحر باستمرار حتى صار بالنسبة لهم حليفاً اقتصادياً كبيراً، ومصدر رزق للكثير من العوائل الظفارية؛ كذلك فإن هذه المحافظة الجنوبية للسلطنة تفتخر بوجود ميناء (سمهرم) التاريخي فيها والذي اشتهر عبر العصور بتصدير اللبان، وعلى رغم ما يُحدثه البحر للظفاريين من مآس عندما يثور في فترة الخريف عبر دفوع الأمواج العاتية القادمة من المحيط الهندي والتي تتميز بأنها أشبه بالصعقات الكهربائية ورغبتها الجامحة في ابتلاع من تلامسه من البطون الرخوة، إلاّ أنهم يمتهنون جيداً صنعة ترويض البحر عبر كشف أسراره وأوقات غضبه، وإقامة مجالس العزاء والإطعام قرباناً لضحاياه، كما أنهم لا يتأفّفون من أمواجه العالية التي تمثّل أكبر عائق أمام ميناء ريسوت لاستقبال السفن، إذ اعتادت محافظة ظفار على أنها لا تستقبل أي سفينة على مدى ستة أشهر من كل عام بسبب عنف الأمواج البحرية. وقد شاءت العناية الإلهية أن تسلم هذه المدينة من إعصار جونو الذي ضرب السواحل الشرقية للسلطنة في يونيو/ حزيران الجاري، وهـو بالمناسبة الأعنف منذ العام 1977 .
في شمال المدينة توجد هناك ولاية ثمَرِيْت وفي غربها تقع ولاية رخيوت، وفي الشرق ولاية طاقة، وعلى رغم بُعدها عن العاصمة مسقط بـ 1040 كيلومتراً إلاّ أن ما تتمتع به هذه المدينة من مناظر خلاّبة فقد جعلها ذلك كالصنو الذي يوازي العاصمة بتفوقها الجغرافي وخصوصيتها المناخية .
خلال تجولنا في مراميها طيلة ثمانية أيام لفتت انتباهي كتل رملية متناثرة تتقارب في شكلها مع قبور عالي الموجودة عندنا في المملكة وعند سؤالي للمرشد السياحي عنها قال لي : إنها بقايا معركة ثوار ظفار مع جيش شاه إيران محمد رضا بهلوي عندما استعان به السلطان لإخماد تمرد مسلح ما بين العامين 1973 - 1978، كذلك ما لفت انتباهنا هو أن أعداداً كبيراً من أهالي المدينة وضواحي محافظة ظفار مازالوا يسكنون الجبال العالية، ويمتهنون الرعي التي يُمارسونها ببدائية شديدة حتى لكأنك تعيش في قرون سحيقة على رغم ما قامت به الدولة من بناء محطة للبحوث الزراعية ومراكز الإرشاد الزراعي، ومزارع بحثية والدعم المالي والفني للمزارعين . وعلى رغم أيضاً من محاولات الدولة إدماجهم في حركة العمران والتعليم والتي لاحظناها جيداً بمرورنا على المدارس المثبّتة في أعالي الجبال، ففي صلالة هناك 66 مدرسة منها 31 مدرسة ابتدائية و30 مدرسة إعدادية و5 مدارس ثانوية، بالإضافة إلى كلية متوسطة للمعلمين وأخرى للمعلمات، وكلية فنية صناعية، ومعهد السلطان قابوس للدراسات الإسلاميـة، وبالمناسبة فإن السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور آل سعيد سلطان عُمان هو مواليد مدينة صلالة، وفي طفولته درس المرحلة الابتدائية في المدرسة السعيدية بها، لذلك فإن ذاكرة المدينة موصولة بشكل جيد باهتمام السلطات هناك .
مرّت الأيام بنا مرور البرق ونحن لم نُنهي بعد مشاهدة ما تَهِبه هذه المدينة الجميلة من إبداعات تجعلك تُصرّ على أن تعود إليها مرة أخرى، تدفعك في ذلك ذاكرة نشطة تفيد بأن في الخليج مناطق سياحية لا تقل شأناً عن غيرها في العالم .
التعليقات (0)