الحكمة تأتينا في الوقت الذي لا تعود به ذات نفع
على رغم تزاحم الحوادث وتطورها «إيرانياً»؛ إلاّ أنني أجد نفسي مُلزماً أن أختم البحث الذي بدأته بأربعة مقالات سابقة عن مصادر المشروعية للنظام السياسي ما بعد الثورة الإسلامية، تحدثت عن الإسلام السياسي كتدين حقيقي، ثم محاكاة السلطة الدينية، ثم موضوعة الثورة كمُهمّة تاريخية، ثم عن الاستقلال، واليوم أضعُ نقطة الختام بالحديث عن الدعم الشعبي كعنصر أخير وفعّال ضمن المصادر المذكورة. وعلى رغم أن عنوان الدعم الشعبي هو شعار فضفاض وليست له مقاييس مُحددة مقارنة مع ما يجري بشأنه من دعاية وتسييس، إلاّ أنه وفي الحال الإيرانية يرتبط بشكل مهم بقواعد السلطة النظرية من جهة وبتمظهراتها على الأرض من جهة أخرى، بل إن الخيال الثوري للنظام السياسي مازال مهووساً بأول إسفين ملموس يتعلّق بماكينة الدعم الشعبي وهي نتيجة الاستفتاء الذي جرى على شكل النظام والدولة ما بعد الثورة الذي كانت نتيجته 98.2 في المئة صوّتوا لصالح قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لذلك فإن القادة السياسيين يحاولون استدعاء مجموع المناسبات الوطنية والإسلامية إلى ذات الذاكرة المحفورة لديهم والتي تُؤمّن لهم مزيداً من الشرعية، وخصوصاً أثناء الانتخابات الرئاسية أو التشريعية أو البلدية بل وحتى الخبرائية على رغم خصوصيتها المتداخلة ما بين السياسي والفقهي. ولأن الثورة كانت بنتيجتها «دينية» خالصة فقد وَجَبَ تمريرها أو مُزاوجتها بمفاعيل ذات «وجود واقع» هي بالأساس مُتأصّلة ضمن الثقافة الوطنية الإيرانية المُنطلقة من افتراض التشابه الانتمائي بين الأفراد والجماعات لكي تظهر المُحصّلة على مجرى تفعيل التشابه ما بين الديني والوطني لتحقيق وحدة الوطن، ولكي تتم المحافظة على هوية الثورة الإسلامية من دون المساس بالمغايرة القائمة وبالمعتقدات والخيارات الثقافية والاجتماعية والدينية القائمة فقد تمّ تصنيف هوية الثورة على أنها خطاب جامع ومُتسامح مع الموجود فتمّ الاعتراف بالأديان اليهودية والمسيحية والزرادشتية، وهو باعتقادي هدف رئيس سعى القادة الجُدد إلى تفعيله لتقريب الأنوية الغيرية ومحاولة تجميعها ضمن فضاء هوية الثورة والدولة وتحويلها إلى مرجعية وطنية يُمكن الاحتكام إليها، مع قدرتها على بناء صورة مُوحّدة للمواطن وللمجتمع، وقد نجحوا فعلاً في تحويل هوية الثورة إلى جامع روحاني يستند إلى التسامح والقبول ومصالحته مع الموروث والتقليد وإعادة إنتاجه بصورة مُحسَّنة تحتضنهم جميعاً ذات الأرض بمشروع وقوانين وأنظمة ومصالح مشتركة .
على المستوى الإثني والقومي أُشرِكَت الأقليات المتحاصصة على الأرض في مشروع الدولة القائم فأعطِيَ الآذريون حقاً في النظام السياسي وكذلك الفرس والأتراك والبلوش والأكراد والعرب، بل وحتى اللور التي لا تُشكّل مفصلاً حقيقياً ضمن الخريطة القومية والإثنية قد أعطيت نصيبها (الجنرال محسن رضائي مثالاً). بعد انتصار الثورة مباشرة وبروز هاجس موقف الجيش من السلطة أُعلِن في 21 إبريل/ نيسان 1979عن تشكيل قوات حرس الثورة الإسلامية كقوة عسكرية رديفة للجيش النظامي الذي أُضعِف بسبب تسريح قيادته العليا، كذلك فقد أُبقِي على اللجان الثورية (لجان تقوم بحفظ الأمن وبأنشطة إعلامية) مُستقلّة عن الحكومة والجيش والشرطة وأنيطت مسئولية الإشراف عليها إلى آية الله الشيخ مهدوي كني (عضو مجلس الخبراء حالياً) وكانت هذه المساعي هي بداية بروز ظاهرة الصفوة السياسية والعسكرية في النظام السياسي الجديد، والهادفة إلى تحقيق أمرين مزدوجين الأول يتعلق بإبقاء جذوة الثورة والدفاع عنها، والثاني إعطاء الدولة مساحة للتحرك لتطبيق الأطر الدستورية والتراتبية بعد المواجهات التي تمّت ما بين الإسلاميين الثوريين ومنظمات يسارية، ثمّ تجلّى الأمر أكثر بعد إعلان العراق الحرب على إيران في 22 سبتمبر/أيلول من العام 1980، إذ بدأت حركة تغيير الصفوة القديمة بصورة ثورية واستبدالها بصفوة جديدة تأخذ مجريً أكثر راديكالية من السابق وخصوصاً أن بعض الحركات الإيرانية كمنظمة بيكار قد أعلنت عن ضرورة تحويل هذه الحرب إلى حرب أهلية لإسقاط النظام الإسلامي، فكان ذلك غطاءً شرعياً جاهزاً لتعرية مواقف سياسية لبعض الأطراف ومدخلاً سهلاً لتقديم اعتماد شخصيات إسلامية خالصة كبديل عنها، فأُزيحت حكومة بني صدر واستطاع الحزب الجمهوري واللجان الثورية والباسدران من تحقيق نصرٍ ساحق في الصراع الدائر، وتمّ تثبيت ركائز الدولة بمشروع سياسي تحمله صفوة منتقاة بعناية. كذلك فقد قام الإمام الخميني بإشراك رجال البازار الإيراني (يُسيطر على سبعين في المئة من التجارة الداخلية) في السلطة الإجرائية وفي المناصب الاستشارية لتأمين وجود قوة اقتصادية احتياطية للدولة والثورة وخصوصاً أن البازار في الذاكرة الإيرانية يُمثّل جانباً مهماً من الشراكة السياسية والدينية منذ أيام الصفويين، وشاركوا بفعالية خلال الحركة الدستورية عندما قاموا بمظاهرات إلى جانب رجال الدين في جامع الشاه عبد العظيم جنوب العاصمة (طهران) في العام 1906، وقد نتج عن ذلك أن بقي النسيج الداخلي للبازار كالرأسماليين الصناعيين والزراعيين والتجاريين ورأسماليي الخدمات مسانداً للثورة ومفاعيلها في الداخل وخصوصاً أيام الحرب. وبعد أن أمّن نظام ما بعد الثورة علاقته الجيدة مع البازار فقد سارع إلى إنشاء مجموعات اقتصادية مُستقلّة للقيام بأدوار ترويجية وإنسانية على المستوى الداخلي، فتأسّست منظمة جهاد سازندكي (جهاد البناء التي تحوّلت لاحقاً إلى وزارة) في يونيو/ حزيران 1979 وهي المعنية بتوزيع آلاف الأطنان من البذور والأسمدة وأجهزة مكافحة الآفات الزراعية للفلاحين في الأرياف وحفر القنوات وتعبيد الطرق وغيرها من الأنشطة، كما تأسّست مؤسسة المستضعفين التي استولت على كل ممتلكات الشاه محمد رضا بهلوي من شركات وقصور وفنادق ودور سينما وبساتين ومصانع وغيرها، إذ يتم استثمار تلك الأصول لصالح العوائل المُعدمة، كما أنشأت مؤسسة الشهيد التي تُعنى بأُسَر من قتلوا في مواجهات ما قبل انتصار الثورة وأيضاً في جبهات القتال أيام الحرب مع العراق والمعوّقين منهم، ثم تأسّست لجنة الإمام الخميني للإغاثة التي تُعيل أكثر من أربعة ملايين فرد في عموم إيران، كما تشكّلت مؤسسة 15 خرداد ومؤسسة 12 فروردين الخيرية وهي جميعها منظمات استطاعت أن تحشد تأييداً خرافياً للسلطة للثورية وأمّنت له متاريس فاعلة على المستوى الداخلي. إن الحرص الشديد من قبل القيادة السياسية الإيرانية على إبقاء موضوع الدعم الشعبي ساخناً لا يرتبط فقط بنشاطات دعائية، بل إن ذلك الحرص نابع من حاجة السلطة الدينية إلى المقبولية الشعبية كتفويض من «الأمّة» أو ما يُطلق عليه في إيران اليوم بالسيادة الدينية الشعبية، وهو حرص قد يظهر بشكل أزيد خلال إجراء الانتخابات والاستفتاءات وفي اللقاءات الجماهيرية.
التعليقات (0)