من لا ذاكرة له؛ فليصنع له ذاكرة من الورق
صورة الحوادث في المنطقة اليوم تبدو مُركّبة ومُعقّدة أكثر من أي وقت مضى، والمساحات المشتركة بين المتخالفين ضاقت وضاعت تحت حوافر جوقة النشّالين، ولم يعد هناك ما يُسمى بالمناطق المُحرّمة أو الغرف المُغلقة للالتقاء أو الحديث بهمس العقلاء، وبات الجميع يُهيئ نفسه (دون أن يعلم) للدخول في مغامرة حِيكت له بإتقان .
في العراق تَدعَم الولايات المتحدة الأميركية الشيعة لكنها تحترب معهم في لبنان وإيران، وفي لبنان تدعم الولايات المتحدة الأميركية السُنّة، لكنها تُعاديهم وتُصفّيهم في العراق وأفغانستان ! هي تؤيد بقوة قيام حكومة وحدة وطنية وإجراء انتخابات مبكرة في فلسطين المحتلّة، لكنها تُعارض ذلك بشدة في لبنان ! هذه صورة أولى ضمن مشهد كئيب أوسع، في صورة أخرى من ذلك المشهد بات صدام حسين يُشكّل في هذه المرحلة الحسّاسة عِجلَ السّامِرِي الذي يُفرّق القوم المجتمعين فيجتمعون على اصطكاك الأسِنّة والحِراب فيما بينهم، حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تعتبره زعيماً ومقاوماً للمحتل، وترى في إعدامه اغتيالاً سياسياً، أما طهران فترى فيه طاغية وسفّاحاً وأن إعدامه قد أفرح آلاف العوائل من ذوي الضحايا العراقيين والإيرانيين والكويتيين، مع العلم بأن حماس وإيران حلفاء في الخط والنهج، ولا يدّعي أيٌ منهما غير ذلك . السعودية استهجنت الإعدام في حين وصفته الكويت بالقصاص العادل، والبَلَدَان عضوان في مجلس التعاون وحليفان رئيسيان في المنطقة، الاتحاد الأوروبي قال إن إعدامه عمل همجي، والفاتيكان قال إنه مأساوي، لكنني لا أظنّ أن الموقفين قد جاءا مُتضامنين مع مشاعر أي عربي له موقف إيجابي من صدام حسين .
فتنة الوعي هذه وهذا الخلط اليوم يجب أن يتوقّف وأن يتّحد في مركزه مرة أخرى لفرز الأشياء وإعادة تموضعها على الخريطة بشكلها الصحيح وإلاّ ضاع كـل شيء بيننا وحولنا ومنا . إن ما أعقب عملية إعدام صدام هو استغلال طائفي (كما يقول عزمي بشارة) ضد خصوم لا علاقة لهم لا بإسقاط النظام ولا بإعدام صدام حسين، بل يقفون في لبنان وفلسطين حيث تقف المقاومة العراقية في العراق وضد الخصم نفسه، وأن هؤلاء (المُستغِلِّين) يردّون بتذكية طائفية سنيّة هي أبعد ما تكون عن روح السُنّة الذين لم يتصرفوا كطائفة تاريخاً وحاضراً . ما ذنب الشيعة إن وَصَفَت تل أبيب إعدام صدام بالمحاكمة بالعادلة ؟ وما ذنب السُنّة إن دعمت واشنطن حكومة السنيورة ؟ وما ذنب الشيعة الذين عارضوا احتلال العراق ليُحسبوا وكأنهم طابور خامس أو مِعوَلٌ صهيوني في المنطقة (كما يقول أخونا إبراهيم من السعودية في برنامج عبر أثير الجزيرة) ؟ وما ذنب السُنّة إن قامت حكومات تدّعي التسنن وهي ترتمي في أحضان واشنطن والإمبريالية ؟ كيف نفهم ما دَرَجَ عليه بعض القادة السياسيين من لبسهم قفاطين الطأفنة والتمذهب والتنصّر والتهوّد، والعالم كله يعلم رَدْحَ السنين التي عاشوها وهم يلبسون الطماقات والمهاميز الاستعمارية ضد مشروعات الأمّة، دخلوا في أحلاف الغرب ضد بعضهم وضد جيرانهم وضد الحركات السياسية في بلدانهم وتالياً ضد شعوبهم فقط للبقاء أكثر في ضباب السلطة، كيف امتهن هؤلاء خطاباً إسلامياً أو مسيحياً وهم من أوغلوا في تغييب الدين ونفيه عبر أساليب دكتاتورية لا تُوصف .
إن المنطقة التي عاشت تجاوراً غير عادي بميكانيزماتها المُكوّنة لصورتها منذ زمن سحيق لا يُمكنها الرجوع إلى الوراء بِفِعل مشاريع طارئة تقودها ذات الدُمى القديمة التي تلاعبت بمقدرات أوطاننا دون حساب حتى ضاعت الحوافز الوطنية لأي عربي في صون هويته وكيانه، وانجرّ ذلك (مع الأسف) إلى مستوى ضياع هوية الدفاع عن الوطن وحياضه، وباتت التضحية بالدم في سبيله انتحاراً نتيجة الخلط في الأفهام وانحراف التفكير الذي أَعْمَلَهُ سلوك الحُكّام والسّاسة، كما جرى لبغداد الجريحة المحتلة التي لم تتحمّل معركة واحدة تستمر لأيام ضد القوات الغازية في مقابل الصمود التي أبداه مخيم جنين طيلة أسبوعين ضد أعتى قوة عسكرية صهيونية في المنطقة وهو لا يتجاوز مساحته واحد كيلومتر مربع، وتعداده الأربعة آلاف ! لذلك فمن غير المعقول أن تُصاب الذاكرة العربية بداء النسيان والبتر أمام هذه الحوادث المُؤسفة، ومن لا ذاكرة له منا فليصنع له ذاكرة من الورق .
إن المعادلة الخطيرة اليوم في محيطنا هو أن الدولة العربية القائمة قد شاخت ولم تعد قادرة على استيعاب مواطنيها بحاضنة وطنية، ولا آمالهم بالشكل الذي يُؤمّن لهم وعياً كاملاً أو هويّة متكاملة ولا أمناً ولا سيادةً ولا هوية كاملة، لقد بات رجل الشارع (فضلاً عن طبقة الإنتلجنسيا) يسبقون هذه الدولة المُترهّلة في التفكير، بل وفي أحيان معينة يفرضون عليها حلولاً عَجَزَت معاملها عن إنتاجها، لذا فإن وجودها اليوم لا يعدو أكثر من ضرورة كفاف تتحيّن لنفسها نهاية مأتمية . إن وجود نخب سياسية جديدة تحمل تصورات جدلية خاصة بالمصلحة القومية لها أو لبلدانها، أفرزتها حالة الترهّل التي عاشتها الدولة العربية، قد يكون هو الأفيد اليوم وغداً من الهياكل الدويبية التي لا يُنتظر منها نفع أو حنين، على الأقل بالتعويل على فهمها (أي النخب الجديدة) للنّحنُيّة والهُمِّيَّة لتشكيل الهويات الوطنية وترويض الأيدلوجيات والمذاهب المُثَوَّرَة اليوم عنوةً وتبيئتها وفق فضاء إنساني أوسع، مستعيضة بفهمها الجديد عن مجموعة العُقَد التي أخّرتها وأخّرتنا سنوات طويلة قبل أن تبدأ ونبدأ في الشروع نحو بناء الدولة ومُؤسّساتها.
إن السؤال المحوري الآن الذي يجب أن يُسأل ويُذاع أمام المثقفين في محيطنا العربي والإسلامي هو : هل أن شعوب المنطقة تستطيع أن تتحمّل وضعاً أعقد مما عاشته وتعيشه اليوم ؟ بمعنى أدق : هل التكوينات العقائدية والهويات الهاجعة بين أفاريز الاجتماع العام قادرة على الحياة في وضع أسوأ مما تعيشه هي الآن إذا ما أُطلِقَ العنان لاقتتال طائفي ممتد ؟ الجواب الأكيد هو أن المنطقة وناسَها لا تمتلك أدنى مقدرة على استيعاب أي ضربة أخرى قد تكون هي النهاية النهائية لتراجيديا مُزمنة إن تَمّت . ما يجري اليوم من تسييس للمذاهب وللأيدلوجيات (وللأفراد حتى) ما هو إلاّ تجيير لتحقيق مكاسب سياسية فئوية يُراد منها القضاء على المشاريع المدنية التي بُنِيَ مدماكها من خارج الدويلات القائمة ومفارزها المتهالكة ومن خارج النُخب التي تربّت أكتافها من المال الأميركي ووطنيتها من فوهات دبابات البرامز .
التعليقات (0)