من يؤلمه فَمه يجِد العسل مراً
مع صدور تقرير لجنة بيكر - هاملتون لم يعد أمام الرئيس الأميركي جورج بوش سوى أن يتجرع هو الآخر كأساً من السُم كما تجرعه غيره قبل ذلك من غُرمائه، في القبول بإيران كلاعب قوي ومركزي في مداره السياسي والعسكري بالمنطقة، وأن يعيد النظر في لاءاته البائسة عبر رفضه المفاوضات المباشرة مع طهران قبل أن تُوقف تخصيب اليورانيوم، ولا مع سورية قبل أن تُوقف دعمها للإرهاب! هذه اللاءات في واقعها لم تعد شيئاً يُذكر أمام دراماتيكية الحوادث التي أصبحت ككرة الثلج المتدحرجة ضد المشروع الأميركي في المنطقة عموماً وفي العراق تحديداً، بعد أن وصلت حصيلة قتلى الجيش الأميركي منذ مطلع هذا الشهر إلى 30، ومنذ غزو العراق العام 2003 إلى 2920 جندياً.
يُضاف إلى ذلك تردي الوضع السياسي والأمني والاقتصادي المتهالك الذي وصل به الحال إلى فقدان أو سرقة ما مجموعه مليار دولار شهرياً من عوائد النفط العراقية في الوقت الذي تعيش فيه معظم المناطق العراقية أوضاعاً معيشية صعبة !
وإذا كانت توصيات بيكر - هاملتون لاتزال تخضع للدراسة في وزارتي الدفاع والخارجية ومجلس الأمن القومي بحسب ما أفاد الرئيس بوش أمام الصحافيين، فإن »الوقت يضيق والوضع يتدهور وعلينا التحرك بسرعة، إنها ليست مسألة أشهر وإنما مسألة أسابيع وربما أيضاً أيام«، حسبما صرّح النائب الديمقراطي السابق لي هاملتون، أحد ركني لجنة التقرير المثير للجدل .
وأمام هذه الرغبة في الإسراع نحو إحداث استدارة شاملة للسياسات الأميركية الخاصة بالعراق، فإن الإيرانيين لا يُبدون حماساً كبيراً أمام الرسائل الأميركية المتتالية منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2005 مع وجود إصرار أميركي على عدم زحزحة الموقف من مشروعهم في التخصيب والموقف الدولي من البرنامج النووي الإيراني والحصار الاقتصادي وباقي الملفات العالقة، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي الذي اعتبر خلال مؤتمر صحافي في فاسنار (غرب هولندا) أن " قرار الولايات المتحدة الانسحاب من العراق لا يحتاج إلى أي مفاوضات مع إيران أو دول أخرى في المنطقة، وأن الأولوية ليست للتفاوض بل لاتخاذ قرار، لأن المشكلة العراقية ستحل بانسحاب القوات الأميركية " . وبالتالي فإن الإيرانيين يتعاملون مع الموضوع على أنه سلّة كاملة من السياسات والمواقف غير المُجتزأة يجب على الأميركيين أن يعوها جيداً، وأهم تلك السياسات أن تحفظ إيران (كما هو في أصل الطلب الأميركي) قدرتها الممتدة على دعم حلفائهم في العملية السياسية العراقية وعدم إعادة الأمور لصالح الكفّة التي تُفقدهم (وبالتالي إيران) القدرة على الحضور السياسي والأمني داخل الصيغة الجديدة في العراق لما بعد تقرير لجنة بيكر - هاملتون، وأهمها ما فيها القبول بإشراك قوى بعثية لضمان هدوء نسبي يهيئ لانسحاب أميركي مُشرّف من العراق مطلع العام 2008.
الأمر الآخر الذي يَحذَرُهُ الإيرانيون هو ألا يتم جرّهم إلى مشروع تكون فيه الغاية فقط إنقاذ الأميركيين من ورطتهم داخل الوحل العراقي من دون فتح باقي الملفات الأخرى الخاصة بالشأن العراقي كموضوع الوجود المستقبلي للقوات الأميركية أو للصيغ المطروحة فيما يتعلق بتكوين المؤسسة العسكرية العراقية وولاءاتها، كما أنهم سيحافظون (أي الإيرانيين) على آلية »المُساعدة المُفترضة« من جانبهم في الداخل العراقي عبر تحويطها بحضور سعودي مماثل، وربما أردني ومصري، يكون موازياً على المستوى المذهبي بحيث »تتحرك إيران باتجاه الشيعة (التيار الصدري والمدرسة الخالصية بالذات)، وتتحرك السعودية باتجاه السُنة، ومن ثم إيجاد حكومة متماسكة، وهو ما فسّرته الرسالة التي بعثها الرئيس الإيراني للملك السعودي قبل أسابيع .
التحرك الإيراني باتجاه العراق ليس جديداً، فهو بدأ منذ سقوط بغداد، إلاّ أن ما هو مطلوب من طهران اليوم يختلف كثيراً عن نشاطها الحالي. في السابق كان عملها مُنصباً على دعم حلفائها في الداخل وإعاقة المشروع الأميركي ما أمكن، عبر تثوير قوى الممانعة الشيعية كجيش المهدي، في حين أن التحرك المحتمل يُتوقّع أن تختلط فيه الأوراق والمصالح الإقليمية والدولية، لذلك فإن السقف الذي لا يُمكن لطهران أن تتراجع عنه في الحركة المقبلة هو الاستمرار في الانتصار لحكومة المالكي وبالتالي للائتلاف العراقي الموحّد، ومواجهة الضغوط العربية المتصاعدة ضدها، الأمر الذي يعني بقاءها كرديف استراتيجي لشيعة العراق واستمرارها كمركز سياسي يُلجأ إليه في المنعطفات السياسية المهمة، وهو ما يُفسّر حضورها النشط في هذا البلد منذ سقوطه في أبريل/ نيسان 2003، إذ كانت إيران أول دولة تبعث وفدا رسميا إلى بغداد وتقدّم الدعم المالي للمنظمات والأحزاب العراقية الحليفة، ثم المساعدة على بناء البنية التحتية وإيصال الكهرباء للمدن الجنوبية، والتوسط في محطات كثيرة بين الأحزاب الشيعية والكردية. بل إن العلاقات بين البلدين قد تبدو أكثر التصاقاً إذا ما عُرف حجم التعقيد والتداخل الذي تكوّن منذ مئات السنين، وازداد مع بداية الحركة السياسية للإمام الخميني، ثم الهجرة العراقية الواسعة نحو الأراضي الإيرانية وما أفرزته تلك الهجرة من تكوين شبكة علاقات ممتدة ورفيعة بين القيادات العراقية الدينية المهاجرة والقيادات السياسية الإيرانية العليا .
الموضوع برمته لا يخلو من مفاجآت أو إعادة تحوير للطلبات والمواقف، لكن الواضح هو أن يستمر الوضع على شكل علاقات اطرادية وأخرى عكسية ستؤثر بلاشك على سقف المطالبات والسياسات.
التعليقات (0)