من يبيع الطعام لا يموت جوعاً
في الثاني عشر من أكتوبر/تشرين الاول الجاري صادق مجلس النواب العراقي (140 نائبا من أصل 275) على مشروع قانون تشكيل الأقاليم المُؤلّف من 22 بنداً والذي قدّمه نواب الائتلاف العراقي الموحّد بزعامة السيد عبد العزيز الحكيم.
المشروع تمّ توصيفه دستورياً بأنه » كيان قانوني يتكوّن من محافظة وأكثر عن طريق الاستفتاء الشعبي، ويكون مُستقلاً في سلطته القضائية، مع الإبقاء على القوانين النافذة للحكومة المركزية ما لم تصدر قوانين بإلغائها أو تعديلها من المجلس التشريعي للإقليم وبشكل لا يتعارض مع الدستور الاتحادي، على أن يتم إنفاذه بعد ثمانية عشر شهراً من تاريخ إقراره من المجلس« وبطبيعة الحال فإن هكذا نظام يُمكنه إشباع الراغبين في إعادة تشكيل الدولة العراقية ما بعد صدام حسين من حكومة مركزية إلى حكومة »منقوصة السيادة« تنتظم في أحشائها مجموعة من الأقاليم التي تتمتع باستقلال ذاتي في تشريعاتها وقضائها، إلاّ أن اللافت أكثر في ذلك هو الخطوة المُؤسفة للنواب المجتمعين الذين رفضوا مناقشة إحدى الفقرات التي تنص على أحقيّة الجهة المتضررة من إقامة الإقليم التظلّم لدى المحكمة الاتحادية العُليا، مع مباشرتهم بحث مادة دستورية تسمح بإعادة النظر في مواد كثيرة يعترض عليها النواب السُنّة في الدستور، وهو ما يعني محاولة سد كل المنافذ التي قد تُؤدي إلى الاعتراض على مسألة )فدرلة العراق( ولو في تفصيلاتها ومُحدداتها.
المشروع مضى وتمّ التصويت عليه وإقراره على رغم معارضة الكثير من مُكوّنات الائتلاف كالتيار الصدري (30 نائبا) والفضيلة (15 نائبا) فضلاً عن كتل أخرى مهمّة وهو ما يعني دخول العراق مرحلة خطيرة لم يشهد تاريخه الحديث ما يُماثلها من حيث مستقبل الدولة والعلاقة بين مُكوناتها.
إن الخطأ الذي أقدمت عليه الأطراف الرئيسية في الائتلاف العراقي المُوحّد هو أنها لم تستطع ضبط الإيقاع ما بين ذاكرتها المُترعة بأحداث مأسوية مُتراكمة طيلة عهد الطاغية صدام حسين وبين المسئولية الأخلاقية في الحفاظ على وحدة هذا البلد الكبير، الكل يعلم بأن )البعث الصّدامي( كان مجرماً نزقاً ارتكب ما ارتكب من الجرائم التي لا ينفع معها إلاّ النسيان والعض على الجراح لفداحتها، والكل يعلم بأن العراق ابتُليَ بالعصابات التكفيرية من القاعدة الذين يُديرون معركة طائفية خطيرة لا شأن لها بالمقاومة العراقية الشريفة التي لا تستهدف المدنيين والعُزّل، وأيضاً نعلم حجم المأساة التي يُخلّفها انتحاري آثم في سوق شعبية أو في حي به صبية يلعبون، أو في حافلة تقلُّ كَسَبَة فقراء لا حول لهم ولا قوة، لكن ذلك كلّه غير مُوجب لأن ينزلق الائتلاف بانفعال وتوتر في مشروعات سياسية خطيرة كالتقسيم وإحياء الفرز المذهبي بطريقة مُنظّمة. إن هذه السنين الطويلة من التجاور التي عاشها العراقيون سنّة وشيعة وعرباً وأكراداً وتركماناً وصابئة ويزيديين ومسيحيين، من الصعب إعادة إنتاجها بتدجين طائفي ومذهبي هم لا يفقهونه ولا يعرفون مفاتيحه، كما لا يجب أيضاً أن تُرفع راية الحكم البعثي الصّدامي البغيض كسبب وجيه للانكفاء ضمن إقليم خاص، الله وحده يعلم كيف سيتعامل مع السُنّة إن كان غالبيته شيعة، وكيف سيتعامل مع الشيعة إن كانت غالبيته سُنّة، لأن النقاء المذهبي غير مُتحقق في العوائل والعشائر العراقية فكيف بإقليم يضم ملايين البشر!!
انظروا إلى هذا السيناريو الفيدرالي المُعقّد والمخيف... إقليم محصور بين سلسلة جبال حمرين غرباً كبقعة جغرافية مُكوِّنة لدولة كردستان المستقلة، والثاني دولة شيعية ممتدة من سامراء إلى الفاو في الجنوب، والثالث دولة سُنّية في الوسط والغرب يلتئم فيها ما تبقى من الشعب العراقي بملايينه الستة، إذن القضية تبدو خطيرة وغير مضمونة النتائج وتجترح أمراً طارئاً ضمن خريطة دينية وإثنية متداخلة.
إنني أحترم رأي الشعب العراقي الذي صوّت لهذا الدستور الذي كُتِبَ في جوّ من الخوف، لكنني لا أفهم ما دأب عليه الساسة العراقيون منذ إبريل/نيسان العام 2003 من سلوك وخطاب سياسي وإعلامي أظهر الدولة المركزية بصورتها البشعة وبالشكل الذي هم يرغبون في إظهاره حتى صوّروها للعراقيين بأنها دولة فاشستية نازية ستُرجعهم إلى الوراء مئات السنين، وأن الخلاص والخير والصلاح هو في الأقلَمَة والتجزِئَة والفرز، مُستدلين في ذلك بتجارب الغربيين في الفيدرالية، وهو استدلال حق يُراد به باطل، خصوصاً وأن ما يتم التسويق له الآن فيما يخص تلك التجارب هو مثاليات تُنتقى، فالغرب لم يجد أفضل من هذه الوصفة لكي يُنهي صراعه مع نفسه والذي دام عشـرات السنين، لذا فمن العيب أن نُسقِط ذلك علينا كشعوب ومذاهب صهرها الإسلام وأذاب ما بينها، وتراكمت بفضل ذلك أشكال ونماذج للتعايش والتداخل بين الجميع.
هنا أطرح سؤالين مفتوحَيْن لم أجد ما يُعينني على تفكيك إشكالاتهما ... إذا كان الائتلاف الشيعي يعتقد بأن أكثر من ستين في المئة من الشعب العراقي هم أتباع للمذهب الجعفري فلماذا يخاف إذاً من الإلغاء وهو مُستحصل للأكثرية، فالمتعارف في علوم الديموغرافيا بأن الأقليات هي التي تخشى غلواء الأكثرية وتخاف التهميش منها وليس من يملك السواد الأعظم من البشر، ثم أيضاً ما هي دواعي الخوف والرغبة في الإنفراد بإقليم خاص وقد أظهرت الانتخابات الأخيرة عن فوز الائتلاف الشيعي بـ 128 من أصل 275 صوتا ؟!
وبالتالي فالائتلاف اليوم هو الحاكم الفعلي للعراق وهو الذي يتحكّم في الجيش والشرطة والوزارات السيادية والتجارة الداخلية والخارجية والنفط ؟!
إذاً ما هو السبب الكامن في الدفع بالبلد براديكالية مُفرطة نحو ثقافة الأقاليم ؟!.
إذا كان الائتلاف وكل من صوّت للفدرلة في جلسة أكتوبر يرغبون في مستقبل آمن لبلدهم ولعلاقاتهم مع دول الجوار فعليهم أن يُبقوا بلدهم موحداً، لأن الأكيد أن الفيدرالية ما هي إلاّ باب سيُفضي لا محالة إلى الكونفدرالية، وبالتالي تجزئة العراق إلى كانتونات ستتصارع على الثروة التي سيُبخس بسببها ملايين العراقيين، وما التطمينات الدستورية إلاّ حبر سيُذاب بأيدي من يريدون له ذلك، كما أنهم سيفقدون صداقات دول مجاورة مهمّة تخشى من استقلال الأكراد بكيان خاص بهم وإشاعة هوس الانفصال.
التعليقات (0)