تعصف الرؤى بالرؤس الحبيسة وتمر الهواجس المرهقة بها طويلا ولا بد من طائف من الملائكة يطوف بتلك الرؤس .... جارنا (ف) في الزنزانة المقابلة ذو نفس بيضاء ملائكية ترجع بنسبها إلى رسول الله (ص) ، صبحنا يوما برؤيا لم نعتني بها وحسبناها أضغاث أحلام ... رأى فيما يرى النائم صديقين بين ( مروزان ) و(جدحفص) تطاردهما الشرطة .... بعد سجال طويل أصابت الشرطة أحدهما بجروح وأردت الآخر قتيلاً ...
وما جاءت الظهيرة محملة بأخبار الظرف الخارجي إلا بخبر الشهيد حسن طاهر ورفيقه الجريح .... هناك إتضحت الرؤيا, أحدهما من جدحفص والآخر بالأصل من مروزان .. لذلك كانت الرؤيا تصور موقعا بين المنطقتين تلميحا لهما وأشارت الرؤيا إلى قتيل وجريح وجاء الواقع مطابقا إلى الرؤيا , لذلك كانت الرؤيا ثلاثة أجزاء ، جزء من الملائكة يوحون به للأرواح ، وجزء من الشياطين يشوشون به على النفوس ، وجزء ما تحدث به نفسك فتراه في المنام .
وللنفوس أسرار عميقة قد لايمكن تفسيرها ، ولا يدركها إلا القليل ... أما صاحبنا (ف) فلم تدعه الملائكة من تسديدها .... مرة أخرى رأى رؤيا محيرة مرعبة .... رأى موطنه (جدحفص) والأمطار تتساقط عليها دماء ....دما عبيطا يسقط فوق سقوف السيارات ويتجمد متكتلا لا يمكن نزعه منها .... رؤيا محيرة من يأولها ... لا تأولها إلا الوقائع الحقيقية ... جاءت الأخبار لاحقا بوفاة ( الشيخ عبد الحسن الطفل ) واتضحت الرؤيا ... كان المطر الدموي حزنا لفقده .... وتكتل البقع الحمراء إشارة إلى بقاء الحزن على رحيله , وصعوبة إزالته بسهولة ونتوءه دليلاً على بروزه من أغوار النفس .
ولحديث النفس في الأحلام أثر واضح هناك .... كان أحد طلبة العلم متعلقا بعمل الصلوات والأذكار الملحة في طلب الفرج من السجن المرير ذاك .... كثيرا ما أعطانا وأعطى الأخوة أذكارا نتلوها بالآلاف, وصلوات مجهدة لطلب الفرج المعجل ... أعطانا صلاة خاصة لهذا الأمر ، تنتهي من الصلاة وتقول اللهم إن كان فرجي عاجلا فأرني بياضا أو خضرة ، وإن كان فرجي آجلا فأرني سوادا أو حمرة .... أي لون تراه يدل على أحد الأمرين .... النفوس تختلف في قلقها وطمأنينتها ....
نام أحدهم مرتاحا مطمئنا بعد أداء تلك الصلاة وقراءة تعقيبها في الصباح نادى الشيخ .... أجابه الشيخ نعم .... قال رأيت البارحة رؤيا وكأني لابسا ثوبا أبيضا وأحمل مظلة خضراء أجابه الشيخ يبدو أن فرجك قريب .
الآخر كان مضطربا قال للشيخ أما أنا فقد رأيت أني أبيع فحما وطماطم .... قال له الشيخ ( مكانك زين وانس بره ) هكذا تتعلق النفوس بالفرج العاجل وتطلبه وتطارده لتستخرجه من جحور الأرض وأحراشها .... أنت هناك لايراد لك أن تكون هشا تتعلق بالشعرة وإنما صلبا لا تتمكن العواصف العاتية من زحزحة رجليك الثابتتين .... هناك في المعتقل أمثلة على الأرواح العملاقة التي لاتهزمها الترهيبات .... وآخرون ضعاف أمام أذى الرغبات .... حتى السيجار يهزمهم ..... أحدهم كان يصوم استحبابا .... ابتسم له الحظ بسيجارة من أحد الجنائيين ... أعدم صومه في نصف النهار ليمارس السيجارة وتمارس السيجارة في رئته زرع الدخان وأمراضه القاتلة .
بلى استطاعت المنظمات الإنسانية الضغط والتخفيف من شدة المعاملة القاسية لكنهم لازالوا كما كانوا ..... إنتقلت إلى الزنزانة (51) وانتقل صاحبي إلى (49) لإنخفاض الأعداد في العنبر .... حللت ضيفا على أصدقاء جدد ...الشيخ علي و السيد (ج) و(ج) زملاء زنزانتي الجديدة وتشاء الأقدار بمشيئتها المبدعة في سبك التوافقات ، أن نكون نحن الثلاثة أنا والسيد (ج) و(ج) من هواة الشعر وممن يغوصون في بحوره ..... كذلك نحن الثلاثة من أصحاب الخط ومتذوقيه ، أما (ج) فكان سابقا في الزنزانة المقابلة ابعث له بقماش أخط عليه التمرينات ليحذو حذوها ..... الآن أصبحنا في قفص واحد نتبادل الخبرات ..... آخذ منهما ماليس عندي وأعطيهما ماليس لديهما .... استمر الإثنان يستمتعان بالخط على قطعة من جلد الفراش اقتطعاها ، يكتبان بالدواء الأبيض .
ويشاء حظهما أن يدخل الشرطي عليهما وهما غارقان في مشاهدة لوحتهما ..... تفاجأنا بدخوله علينا ..... طويا الرقعة بسرعة قبل وصول يد الشرطي لها .... قبض الشرطي على الرقعة بشدة ... قبض عليها السيد بشده أيضا ولم يتركها للشرطي ، حاول الشرطي كثيرا في استخراجها من يد السيد ولم يفلح .... خرج وأغلق الزنزانة ثم عاد بعد دقائق ومعه رئيس النوبة بدأ في التفتيش تحت الوسائد وفي أكياس الملابس ..... وبعد جهد ليس بالمضني وجدها خلف الأكياس ..... تناولها وتوجه بالكلام لرئيس النوبة قائلاً : هاهي .
استلمها منه رئيس النوبة وفتحها لكنها للأسف كانت خالية لايوجد بها محتوى .... لم يكن الأخوة ليتركوا له فرصة النيل منهم .... أمحوا كل مافيها بعناية بعد إغلاق الباب بلحظات ..... وعاد الشرطي بخفي حنين ووجه تقضمه الهزيمة .
هذا بعد أن تحسنت الظروف نوعا ما وبدأت قوافل الكتب تترى إلى المعتقلين من أهاليهم .... تلك نعمة مافوقها نعمة .... صرت بالتواصل أتفق مع أصحاب الكتب في إرسالها لي متعهدا بإرجاعها في يومين أو أكثر .
الشرطة روضتهم الضغوط الدولية أيضا ، لايمانعون في نقل الكتاب من زنزانة لأخرى بعد الإلحاح .... الكتاب موجود والوقت موجود ..... رحت أطوي قراءة مايقع تحت يدي مغتنما فرصة هطول الكتب بشدة ..... في ساعات الفراغ أتجاذب مع الشيخ علي أحاديث المعرفة .... استفيد من معارفه في علم ا لفقه والأصول وبتجاربه الحوزوية .... وعند حلول وقت التعزية يطربنا صوت الشيخ الشجي .... أعجبتني عادة يقوم بها الشيخ دائما كان متوجها للقبلة في حديثة وأكله ، وأي عمل يقوم به ...... يقول كل عمل تقوم به متوجها للقبلة تثاب عليه ثوابا مختلفاً .
نحن في معتقلنا ولانعلم شيئا مما يدور في الخارج ..... جاء صباح أحد الأيام .... وجاء وقت وجبة الإفطار فتحنا الباب لإستلام الوجبة وكانت المفاجئة فوق تصورنا على الإطلاق .... كنا ننتظر الحليب والخبز الذابل والنخج أو الباقلة أو اللوبة ..... ولكن كانت وجبة الإفطار وكأنها في فندق خمس نجوم .
كان الإفطار عبارة عن بيضة مسلوقة وقطعة جبن وعلبة مربى صغيرة يصاحبها رغيفين لبنانيين ..... رغيفين مهندمين جميلين ، تفوح منهما رائحة التنور ، لا كأرغفتنا السابقة التي ملأت بطوننا بسوادها .
وضعنا الصحن نتغزل بمحتواه ..... بيضة ناصعة البياض نسيت أعيننا إسمها وشكلها ..... أحسب بطوننا ستصاب بصدمة من وجبتها تلك .... ذهول وفرحة لايشبهها إلا فرحة الخروج من الأسر ....بهذا المستوى كان الضيق يحيط بالنفوس .... كان الأخوة إذا أراد أحدهم أن يهدي أحدا ما هدية لايجد أغلى من البيضة يهديها له ... أما باقي الوجبات فلم يطرأ عليها تغيير أبدا لسبب نعرفه ويعرفه سجاننا .... إنهم ينتظرون هيئة حقوقية متوقع حضورها ..... ستأتي صباحا ويجب أن ترى صباحا ما يجمل صورة النظام .
فعلا بعد مدة جاءت هيئة حقوقية من الأجانب يتكلمون العربية ..... صاروا يدخلون كل زنزانة يسئلون نزلاءها عن ظروف معيشتهم منذ اعتقالهم حتى اللحظة الحالية .... وهم يدونون التفاصيل ، ثم يتيحون لأصحاب الزنزانة انتخاب أحدهم لينفردوا به بعيدا عن عيون الشرطة ، يسجلون من فمه أدق التفاصيل ... انتخبنا الشيخ علي بعد أن أعطيناه تفاصيل اعتقالنا وما لا يعرفه .... إنفردوا به ساعة من الزمن ملأ جعبتهم بما يدمي القلوب من ويلات .
حتى تلك اللحظة من انفراج الشدة لم يكن القلم مسموحاً به .... في صباح يوم بعد ذهاب الأخوة للمقابلات والعيادة ، أخبرنا من في الزنزانة المجاورة أن الشرطة وجدوا عند أحد طلبة العلم الذين يقيمون في الزنزانة المقابلة لنا حرزا .... وجدوه مدسوسا في الثوب بخياط طبيعي ولكن لخبث الشرطي ، استطاع تلمسه واكتشافه .
بعد ذلك الخبر من الطبيعي أن يقوم الشرطة بتفتيش في الزنازين المجاورة والمقابلة .... إذن سيصيبنا التفتيش .... إنهم يبحثون عن أداة الجريمة ..... يبحثون عن القلم .... بعد دقائق فقط ولا غير جاء مجموعة من الشرطة يفتشون .... بحثوا لم يجدوا شيئا فانصرفوا ..... كان لدينا قلم .... ولكن أنى لهم وللجن الأزرق بإكتشافه , عود من قلم الرصاص .... أدخلناه في عود تنظيف الأذن وأعدنا عليه القطنه وألقيناه في كيس الأعواد كباقي الأعواد .... ابحث عنه إذن .... كنت واقفا أتطلع من النافذة المفتوحة في الباب ..... لما صعقتني المفاجأة .... مر الشرطي من أمامي وفي يده قطعة كارتون مكتوب عليها ..... أعرفها جيداً لقد كتبناها وأعطيناها لجيراننا ليحفظوا القصيدة .... قصيدة كتبتها كان مطلعها يقول :
حكايتي حكاية مؤرقة
رصاصة ومشنقة
طائرة في بيتنا أطلقت الرصاص
أين لنا من بيتنا المناص
في باطن الأرض هو الخلاص
ما أقبح القصاص
من عزل بالعنف والرصاص
من فوقهم محلقة
رصاصة ومشنقة
.... نعم تلك هي قطعة الكارتون .... عند الظهر استدعى الضابط كل من في الزنزانة المجاورة وأغلظ لهم في القول بشان القصيدة .... كان يبحث عن الكاتب وعن سبب تواجدها لديهم ... كان الشيخ (حمزة) حازماً .... في التبرير عن وجود القصيدة كإفراز للعيش في ضيق السجن .... أعادهم الضابط بعد تهديدهم وتذكيرهم بأنه لو ضبطهم غيره لألقى كل منهم في سجن انفرادي لمدة شهر على الأقل .... البقية تأتي
التعليقات (0)