ينبغي النظر إلى الثقافة والمعرفة كما يتمّ النظر إلى البنية الحسية المجسمة، فالبنية لا تتقوم إلاّ عبر أبعادها الثلاثة والمتمثلة في الطول والعرض والعمق، وكل بنية تفتقد واحداً من هذه الأبعاد فإنها تكون بنية قاصرة ومشوهة، بل الأصح أن بنية كهذه مستحيلة التحقق والوجود، فلا بنية من دون طول أو عرض أو عمق، وجوهر البنية المعرفية (= الثقافة) كما تطرح في الرؤية القرآنية التي نعتمدها في تأسيس هذه النظرية في الثقافة هو التعقل، فالتعقل هو نتاج اجتماع وتركب الأبعاد المعرفية الثلاثة المضاهية للأبعاد الجسمية لأيّ بنية جسمية، وأبعاد الثقافة أو البنية المعرفية في الرؤية القرآنية هي :
1- السمع : وهو البعد الذي يوازي في البنية الجسمية بعد الطول من حيث كون جوهر الثقافة السمعية الامتداد الطولي في الزمن والتاريخ واستنادها إلى تناقل الخبرة المعرفية المسموعة والمكتوبة عبر الأجيال .
2- البصر : وهو البعد الذي يوازي في البنية الجسمية بعد العرض من حيث كون جوهر الثقافة البصرية الامتداد الأفقي واستجلاء المنظور في أفق الحس والبصر، وهذا ما يعطي للثقافة البصرية سمة الشمولية والاتساع والامتداد والتنوع كما هو الشأن بالنسبة للبصر في ما يقع عليه من أشياء وألوان وتنوعات .
3- القلب : وهو البعد الذي يوازي في البنية الجسمية بعد العمق من حيث كون جوهر الثقافة القلبية هو المعرفة التي لا تقنع بالوقوف عند الظواهر وإنما تحاول النفوذ إلى عمق الأشياء وسبر أغوارها، متجاوزة جمود الثقافة السمعية وسطحية الثقافة البصرية إذا ما أرادا الانفصال والتحرّك بمعزل عنها .
وقد أرسى القرآن الكريم قواعد هذه الثقافة المتكاملة الأبعاد من خلال العديد من آياته فقال : ) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ w الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ w ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ w ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ( [السجدة 6-9] .
وقال عزّ من قائل : ) وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( [النحل 78] .
وانطلاقاً من ذلك يمكن لنا أن نمارس نقداً جذرياً لمختلف الثقافات الإنسانية ذات البعد الواحد بما فيها الثقافة العربية التي التصقت بثقافة الإسلام وتكونت تاريخياً بالتزامن مع مجيء الإسلام إلاّ أنها عجزت عن استيعاب المضمون الحقيقي للثقافة التي أراد الإسلام تجذير أصولها في الواقع المعرفي والاجتماعي للإنسان المسلم، وعبر ذلك غدت ثقافة سمعية نقلية تهتم بالمنقول على حساب المعقول والمجرّب، كما أننا ننتقد الثقافة الصوفية التي وسمت بسمتها نتاجاً غير قليل من ثقافتنا الإسلامية من دون أن تستطيع أن تحكم الربط والتركيب بين ثقافة القلب والروح، وثقافة السمع والبصر، وفي مقابل هاتين الثقافتين تقف الثقافة البصرية الحسية التي عززت تجربة الغرب الحديث المعرفية تأصيلها في الإطار المعرفي والاجتماعي للبشر على حساب الثقافتين الأخريين، فاستعادت تقديم نموذجاً مشوها للبنية المعرفية، وهو النموذج الذي أراد أن يقتلع الإنسان من جذوره محولاً الإنسان إلى مجرّد موجود حسي لا يتجاوز أفق المادة ولا يخرج عن حساباتها، وإن كان ذلك لا ينفي أن كل ثقافة من الثقافات الأحادية استطاعت أن تبدع في مجالها الذي أعطته اهتماماً على حساب بقية المجالات .
التعليقات (0)