السلم الدائم باقي .. ولكن إلى حرب مُقبلة
منذ فوز أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ودخوله القصر الجمهوري بشارع فلسطين في طهران تلاحقت تصريحاته النارية بشأن الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية بشكل لافت، كان أبرزها تصريحاته في احتفالية " العالم بدون صهيونية " الذي نظّمته الهيئات الطلابية الإيرانية خلال الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المنصرف . ومنذ أول تصريح له في هذا الاتجاه تباينت المواقف الدولية والإقليمية تجاهه بين من رآى فيه ديماغوجية كلاسيكية ليس لها وعاء سياسي أو عسكري، وآخر نَظَرَ إليها على أنها ضرب جرئ على أحد أهم تابوات الصهيونية التاريخية وثويولوجيا المُسَيَّا وفقاً لأساطير قديمة نُفِضَ عنها الغبار عندما بدأ الإعداد لمؤتمر بال نهايات القرن التاسع عشر . ولقد دفع الخطاب الراديكالي للرئيس أحمدي نجاد باتجاه التصعيد الواضح بين طهران ومُناكفيها الإقليميين والدوليين، بل إنه أيضاً قد تسبّب في تعكير صفو العلاقات الإيرانية الأوربية لولا بُرهان العقود الاقتصادية الضخمة التي تورّطت فيها الشركات الكبرى من أوربا القديمة، ومن جهة أخرى أيضاً فقد دفع ذلك الخطاب لأن تتحرك رمال الحركات الإسلامية والقومية في الوطن العربي مُتأملة في قيام حرب إيرانية صهيونية تُنهي الصراع في الشرق الأوسط وتحسمه إلى غير رجعة، وقد تنامت تلك الرغبة إلى حد التعيِير والتجييش للإيرانيين بأن يُبادروا نحو عسكرة الظروف والأجواء وعدم الاكتفاء بالتصريحات النارية وهي بلا شك أمنيات مأمولة لكنها غير معقولة لمن يقرأ الأحداث وموازين القوى وحتى الإرادات كما يشاء أن يُسميها أمين عام حركة الجهاد الإسلامي رمضان شلّح . وفي ذلك يُمكن الإشارة إلى الآتي :
العلاقات العربية الإيرانية :
رغم التمدد الذي طرأ على العلاقات الإيرانية العربية منذ مجيئ الرئيس هاشمي رفسنجاني ولاحقاً السيد محمد خاتمي إلاّ أنها لم ترقى إلى مُستوى التحالف الذي يمتلك القابلية السياسية والعسكرية لظروف الحرب والسلم والأحلاف، بل إن تلك العلاقات لا زالت ترتهن لعدد من الملفات المُؤجّلة أو الطارئة وغير المحسومة والتي بعضها يشهد حرب تنافس وإقصاء ومُزاحمة، أهمها الجزر المتنازع عليها في الخليج ومسألة النفوذ في العراق وفي لبنان وطبيعة الحلف السوري الإيراني الذي تنظر له العديد من الدول العربية بأنه يُعطّل الكثير من المشاريع العربية " المعتدلة " التي يُمنكها أن تُحيّد الأمريكيين في مسعاهم نحو تغيير بعض الأنظمة أو تجزأة الكيانات العربية الكبرى وتُخفف من الضغوط المتصاعدة عليها، بل إن التصريحات التي أدلى بها ملك الأردن ولاحقاً وزير الخارجية السعودي والإماراتي في قمّة السودان بشأن العراق تُبيّن بشكل واضح مدى حساسية تلك العلاقة، وبالتالي فإن ذلك التوتر المتبادل وبالتحديد مع بعض دول الطوق كالأردن ومصر يجعل من توقيت الحرب أمراً صعباً بالنسبة للإيرانيين، مع الإدراك بأن العديد من الدول العربية قد التزمت باتفاقيات وبتفاهمات مع الكيان الصهيوني منذ زمن، والذي لم يدخل في التزامات قام ((سواء من تحت الطاولة أم من فوقها)) بمستوى مُعين من التثميل والتقارب، بل إن الجو الغالب في هذه الدول مُجتمعة يسير نحو مشروع السلام كخيار استراتيجي، لذا فإن القرار الإيراني للحرب لن يكون مُرحباً به " عربياً " إن لم يكن شيئاً أكثر من ذلك، وقد دلّت على ذلك أحداث العدوان الصهيوني الأخيرة على لبنان، وكيف أن أغلب الدول العربية قد حمّلت حزب الله ومن خلفه إيران وسوريا مسؤولية تحريك الجبهة الشمالية من البوابة اللبنانية، وبعضهم قال أكثر من ذلك جِهاراً باستحالة الحرب مع الكيان الصهيوني .
جيوبوليتيك إيران :
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وظهور الجمهوريات المستقلة الناشئة برزت ظروف أمنية وسياسية جديدة ألقت بظلالها على الأمن القومي الإيراني بل وحتى على جغرافية إيران وحدودها، ولأن هذه الدول أخذت تطمح في الإنسلاخ تماماً من موروثها الإتحادي والبنيوي السابق، ولأنها أيضاً بدأت في الالتفات إلى تشييد بنيتها التحتية وتشكيل نظام سياسي جديد لعلاقاتها واقتصادها فقد اندفعت بقوة نحو أوربا والولايات المتحدة الأمريكية التي انتصرت في الحرب الباردة، فاحتضنت العديد من القواعد الحربية على أراضيها، وعقدت الصفقات العسكرية وبدأت في مناورات مُشتركة، بل إن واشنطن قامت بإدخال تلك الجمهوريات في منظومتها الأمنية والتعاونية من أجل استيعاب منطقة القوقاز والمنطقة المحاذية، فنشأت علاقات متوترة أو حذرة ما بين بعضها وبين إيران وظهر التباين معها حول عدة قضايا أهمها مسألة تقاسم ثروات بحر قزوين والأزمة القانونية القائمة الآن . في الجنوب أيضاً فإن جارات إيران السبع تشهد اضطراباً سياسياً وأمنياً واقتصادياً، بل بات التواجد الأمريكي المباشر ينشط بقوة في منطقة الخليج واليمن، وازداد بشكل مخيف بعد احتلال أفغانستان والعراق الذي يتواجد على أراضيه أكثر من 140 ألف جندي أمريكي وهو ما شكّل تهديداً خطيراً على الأمن القومي الإيراني بالرغم من تغلغل طهران في أفغانستان عبر قيادات تحالف الشمال (سابقاً) وفي العراق عبر الأحزاب العراقية الحليفة، مع تثبيت نظرية التورط الأمريكي في هذين البلدين، وإذا ما استُحضرت كل هذه المعطيات مع معرفة طبيعة العلاقة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً مع الكيان الصهيوني فإن قيام إيران بشن هجوم عسكري على تل أبيب دون فِعل صهيوني أوّلي يعني أن كل حدود إيران الممتدة لآلاف الكيلومترات ستكون مُستباحة أمام القواعد العسكرية الأمريكية والبريطانية المنتشرة بالقرب منها، ولن تتردد تلك الدول في الدخول لمساعدة الجيش الصهيوني في حربه ضد إيران التي لا تمتلك أصلاً أي حدود مباشرة مع ذلك الكيان وهو ما يحرمها من العمليات البرية، واقتصار ردة الفعل العسكرية الإيرانية على الصواريخ والطيران الحربي الذي لن يُؤدي إلى انتصار سريع ومُؤكّد دون اجتياح بري، بل إن كافة أنظمة القانون الدولي العام التي بها تُدار بها أخلاقيات الحرب لن تكون لها أي أهمية ولا شرعية في ظل وجود فرصة سانحة للقضاء على الحُكم الإسلامي في طهران .
الاقتصاد الإيراني :
صحيح أن الاقتصاد الإيراني بدأ في التعافي والبناء العمودي لأساسياته وخصوصاً في الصناعات النفطية التي تعرضت لأضرار فادحة في مصافي عبادان ومحافظة خوزستان، وصحيح أن الإنتاج البرتوكيماوي قد ارتفع وحدثت مرونة هيكلية مهمّة في الاقتصاد، وصحيح أيضاً أن إيران تقع ضمن الحزام النفطي والمنجمي لمعادن النحاس والكروميت والرصاص والزنك باحتياطي يبلغ 23 مليار طن، وتعاظمت السدود الخرسانية والترابية، إلاّ أن كل ذلك لا يعني أن الاقتصاد الإيراني هو اقتصاد " حرب " بل هو لا يزال يسير نحو إيجاد مسارات اقتصادية جديدة لما بعد الحرب التديميرية التي شنّها صدام حسين، تُحقق له سلامة اقتصادية بُنيوية وسلامة للقطاع المالي والبنكي، والسعي لإعطاء لائحة نظام تجاري خارجي يُقنع جماعة العمل المفاوضة للدخول إلى منظمة التجارة العالمية، كما أن الطفرة البشرية التي عانت منها إيران حتى نهاية عقد الثمانينات وبالتالي وصول تعداد السكان إلى سبعين مليون إيراني وبفتوة كبيرة قد ولّد متطلبات معيشية هائلة استنزفت من الميزانية الوطنية الكثير .
ولكن الصحيح أيضاً أن كل الخيارات قد تبقى مفتوحة إذا ما تشابكت الملفات وتعارضت المصالح وتغيّرت الموازين، خصوصاً وأن طهران غير خارجة عن منظومة الصراع القائم وهي مسؤولة كغيرها كما أن الحديث عن الحرب سيكون أكثر وجاهةً وقابلية وحجّة أيضاً على الذين يملكون ما لا يملكه غيرهم من ثروات ضخمة وحدود مشتركة فيها المضايق والبحار، وبينها مصير مشترك وتماثل ديني ولغوي واجتماعي هائل، وثروة بشرية تزيد عن الثلاثمائة مليون إنسان .
محمد عبد الله محمد – مملكة البحرين
التعليقات (0)