تفتحت أبواب اليسر بعد العسر علينا .... وجاءت رسل الخير بأنباء تفرج شيئا من عسر المحنة .... فتحوا لنا أبواب التزود باللوازم من (الكانتين ) ..... من متجر لديهم أخذوا كل مجموعة على إنفراد .... لك أن تشتري كل ماتريد بعد إخبارك بالمبلغ المودع في حسابك ..... تزودنا بما نحتاج وعدنا بغير مانحتاج .... هم يأتوننا فيما بعد بالحاجيات بحسب ما طلبناه ..... يفرغونها من العلب الكارتونية كي لا نستخدمها فيما لايليق برغبتهم .
وتنفتح أبواب الزنازين لنا للخروج للفنس كل يوم ساعة, نخرج ساعة ونعود ثم يخرج القسم الثاني من العنبر ..... في الفنس ترى الوجوه التي كنت تسمع أصواتها ولا تراها ..... ويمكنك أيضا تبادل الأحاديث المنفردة .... الشرطة موزعين يراقبون ...... الأخوة أغلبهم يلعب كرة الطائرة ..... والآخرون يرتاضون ويتمشون مع بعض وبعد ساعة نعود إلى الزنزانة .
وتفتحت أبواب الفرح أيضا ، بدأت الإفراجات على قدم وساق لايمر إسبوع إلا ويطلقون سراح ثلة من مجموعتنا.. في الليل يأتون بالأسماء .... يخبرون أصحابها بإطلاق السراح صباحاً ..... ومع بداية العام الجديد سنة 1997 ..... الليالي الأولى من يناير... الليلة الرابعة منه بالضبط أطل علينا الشرطي من نافذة البوابة ..... تلى إسمي وعقب عليه قائلا غداً إفراج ...... إستعد واحزم حاجياتك عند الصباح تنتقل من هنا ...... كان الخبر أسطورة كالعنقاء ، لايمكن تصديقه ولايمكن النفوذ إلى حقيقته ..... حقيقة كالخيال وخيال أقرب للحقيقة ..... حقا في الغد تنفتح أبوابهم الحديدية .
ماذا عن الآخرين ؟ ...... إلى متى نبقى شعبا ندخل المعتقلات ونخرجها ونعيد الكرة مرات ؟ فرحة لاتستقيم شروطها ولاتكتمل مادام هنا من يقبع خلف الجدران السميكة ...... هذه ليلة لايزورها النوم بإنتظار صباحها الموعود ..... ليتهم تركوا الأمر كالزيارة الأولى ......ليتهم تركوه مبهما ..... من الليل حتى الصباح أرق ..... وبعد دهور جاء الصباح متباطئا......عانقت أصحابي الجدد كما عانقنا من قبل الأستاذ عـ... عناق تحفه الدعوات المخلصة بالخلاص , بعد وصولنا القلعة ..... ومن حجرة إلى حجرة ..... انتهى بي المطاف إلى حجرة انفرادية لمدة ساعات ..... عندما قارب الزوال نقلوني في باص إلى مركز المدينة .
هناك وجدت الأهل بإنتظاري .... وفي حجرة الضابط أجروا روتينا من التوقيع والتعهد ..... وخرجت من عندهم برفقة الأهل ... لأول مرة أمشي ورجلا الشرطي لاتصاحبني , عام وسترتهم الخضراء لاتفارقني خارج الزنزانة ..... ركبت السيارة والمرافقون يتحدثون وسمعي في غياب ..... عيناي ترصدان الشوارع بتفاصيلها .... تتابعان كل ما طرأ عليهما من جديد ، وللذاكرة عودة للذين لازالوا في ذلك العنبر ينتظرون يوماً كيومي هذا .... حملتني السيارة لا كما حملتني سياراتهم لمرات ، وهاقد عدت إلى قريتي تلك التي لم يتح لي توديع ضواحيها ليلة الرحيل ..عدت لها بعد عام من فقدانها .
عدت لأملاء أحضاني بأعز مايعشق قلبي ..أحبة جرعهم الفراق هزالا ونحولا وضيعة ..... عدت لتقر عين زوجة وأم وأب وأبناء ومحبين ..... الأطفال تموا مرافقين لي مدة طويلة .... أقرأ في إحساسهم خوفا من افتقادي لمرة أخرى ..... وتبدأ الذاكرة الجريحة في إفراغ ماتحمله من أحداث ..... يخبرني الأهل والأصدقاء بما رأوه ولم تره عيني , حين كنت في غياب , وما عاشوه ولم أعشه معهم .
وينصرم عام أكله المعتقل ، يعتقد السجان أنه أدبني بأحسن تأديب ..... لكنه غاب عن حسابه أن الحرية تولد في القلب وليست هي في الجسد وأن المرارة التي زرعها في حلوقنا لاينتزعها أي تعويض ..... وستبقى الصور عالقة في الذهن وشاهدة على مرحلة التعسف والإستهتار بحياة الإنسان واسترخاصها ..... تلك هي المشاعر التي خلفها سجاننا في نفوسنا .... صورا محفورة في أعماق صدورنا لاتمحوها الأيام الرغيدة الموعودة إن جاءت ..... وذكريات لاينساها الوطن .
سيظل الوطن يسجل فوق حبات ترابه الطاهرة دقائقا مترعة بالإضطهاد والقهر .... وستبوح الأقلام من رحيق فيضها بكل مالاقى المظلومون من ويلات . وسوف تكون هناك في رحم الغيب ألف قصة وقصة تنتظر آذاناً تصيخ لها سمعاً لتتفجر الآلام من ذكرياتها .
ولكن حتى وإن أطلق السجان سراحي وسراح ألف تبقى الحرية العظمى هي يوم يعود ( الأب الرؤوف ) ذو اللحية البيضاء .... اللحية التي حولتها الأيام السوداء إلى بيضاء لا إسوداد فيها .... الشيخ الذي حمل في جانحيه رسالة الأنبياء وأدار وجهه لكل إغراءات المغرين .... وأفاض على أبنائه المحرومين من دفء قلبه العظيم ، بذلك الوجه الذي لاتتخلى البسمة عن ثغره أبدا .
الجمري الذي كان جمراً لا يطأ الظالمون له بساطاً إلا واشتعلت مصائرهم ناراً من البدء إلى الختام ... بغياب ذلك الشيخ الحنون لاتكتمل فرحة في قلوبنا فلا عيد والجمري بعيد ، ولاعيد والجمري في الحديد .
ستبقى الذكريات تزحف جحافلها في أعماقنا لاينطفئ أوارها مهما مرت بها السنون, كل جيل قبل أن يمضي يعطيها للجيل القادم .... وستجلس الأمهات بجنب أسرة أبنائها يحكين لهم قصة قبل المنام مفتتحات قصصهن بقول : (كان في السجن ياماكان )
النهاية
وكل الشكر لمن ساهم بالمتابعة والقراءة والرد
التعليقات (1)
Ali
تاريخ: 2006-09-19 - الوقت: 19:39:15جزيت خيرا استاذي العزيز على هذه القصة الرائعة والاكثر من رائعة ، نهاية موفقةوخاتمه جميلة جدا ، لن اقول انها احزنتني بل سوف اقول بأنها ابكتني سيما عندما ذكرت الاب العظيم سماحة الشيخ الجمري ، الرجل الذي ما ابقى له السجن غير الآهات التي يتلوى بها في كل ليلة ، دمت موفقا والى الامام يا ابا علي