عندما قال ييراس ريستريبو أن الديمقراطية ((الكولومبية)) تنفع برئيس ميّت أكثر من انتفاعها برئيس هارب فالأكيد أنه نَضَحَ بشيء عظيم .. وإذا ما استدعيت هامشاً من التفسير والتأويل فلربما أخلُصُ إلى أن تفكيك الهروب " ليس الكولومبي بالضرورة " قد يشملُ أيضاً أفعال الزعماء النزِقَة بحق شعوبهم، ودفعهم " للسعادة " لمجرد كونهم أحياء !! فزِيرُ المال والقسوة البوليسية باتتا سِمَة طبيعية للمزكومين برائحة السلطة، ليبدأ هروبهم الحقيقي وبُعادهم عن رعيتهم، وبحسب حكمة ريسترييو فإن أيّ نفعٍ يُرتجى من أؤلئك الهاربين يُصبح سذاجة قاتلة واقتراباً نحو أفهام سياسية ليس لها حظوظ .
في إيران كان للشاه محمد رضا بهلوي شكلان من الهروب .. الأول استمر منذ 17 سبتمبر 1941 عندما تولّي الحكم بعد أبيه وارثاً لحكم عضوض، ومُستنداً لسياسة هزيلة عزلته عن ناسه وبني قومه إلى الحد الذي جعلته عاثر حظ بعينين بلا نور لا يرى سوى الجاه والسلطان، والثاني في 16 يناير من العام 1979 عندما همّ هارباً بقضّه وقضيضه، مُتوسلاً مساعدة مستحيلة من الولايات المتحدة الأمريكية ثم من الرئيس المؤمن الذي بدا فيما بعد بأنه أسوأ حظاً من صاحبه .
رجل من قم
في المقابل كان غريمه القوي روح الله الموسوي الخميني الذي ِشبهه هيكل بالرصاصة المُنطلقة من القرن السابع والمُستقرة في قلب القرن العشرين قد شكّل نموذجاً آخر في مقابل الهروب، فهو ومذ شبّ فقيهاً ومُصلحاً اجتماعياً في عشرينيات القرن المنصرف ولغاية وفاته في الرابع من حزيران / يونيو من العام 1989، كان في نخاع العمل اليومي المباشر والعصيب، مُقدماً زخّات من المُداراة للفقراء والبائسين، وبعدما سُجّي في قبره الوثير ببهشتِ زهراء، استمر ذلك الحضور من زاوية كارزمية فريدة، فكان قبره المبضع الأشـد رهبـة للثورة بكل تراجيدياتها، ومنه أخذت تنطلق الأحجيات والتوصيفات والتخليقات وحتى الروايات والعلامات .. " رجـل من قـم يدعـو الناس إلى الحق، يجتمع معه قوم قلوبهم كزبر الحديد، لا تزلّهم الرياح والعواصف ولا يملّون من الحرب ولا يجبنون وعلى الله يتوكلون والعاقبة للمتقين " البحار، ج 57، ص 216 .
عندما كُنت في طهران زائراً قبل شهر لفتني بقوة مستوى التطويع المُمنهج للدين، فالنظريات التي استُخرجت من بطون الكتب الفقهية والأصولية لم تعد تحكم بحَرفيَتِها التفصيلية، وإنما بخطها العام الخاضع لفضاء الضرورات والمُستلزمات الزمكانية، ولم تعد المقاربات بين الواقع وما (لا) يُخالفه من الدين أو العكس المُستعاض الوحيد بدل (المطابقة) أو (المُماثلة) بل إن الجو الديني (المُزمن) لم يعد خياراً مُباشراً للنظام الإسلامي في ظل صعود موجات بشرية قادمة من رحم التحولات السوسيولوجية والمفاهيمية التي يشهدها العالم، لا تفهم الأوابد التاريخية ولا اليقينيات ولا الروحانيات، وبالتالي فهو يعي بأن الأكيد أنها لن تعود أبداً لأن تكون كالجيل الأول للثورة إلاّ بفعل مُعجزة خالدة يُحدثها التعميريون، رغم أنه (أي الدين) لم يتحول بعد إلى يوتوبيا تحول دون حضوره كواقع .
مدينة طهران التي تُعبر أكبر محافظات البلاد الثلاثين تغطّ في وهج ازدحام هائل، من دون أن يمنعك ذلك من أن تلتقط ما تُريد من الأشياء التي يبدوا أهمها حجم الفُتوّة التي تشهدها هذه المحافظة، فطهران مدينة "شبابية" بالمطلق، يهوى شبابها التبضّع والتجوال بطاقِة مهيبة، ثم إنها كثيرة الأشياء التي تحتاج إلى تفسير فيها، من بينها تكرار الأبنية البيضاء الشاهقة ذات النسق التقليدي المتماثل، التي تنتشر في أكثر من مكان بل وحتى في الأحياء الراقية والمُهمّة من العاصمة، لتعلم لاحقاً بأنها أبنية تُشيّدها مؤسسة الشهيد أو المستضعفين المعنيتان أصلاً بأمور الأيتام وبعوائل من قضوا في الحرب مع العراق أو في النزاعات الحدودية مع مُهرّبي المُخدِرات أو مع منظمة مسعود رجوي .
المكتبة الوطنية
عندما تزور المكتبة الوطنية في العاصمة طهران والتابعة تنفيذياً لرئاسة الجمهورية بحجم وزارة مهمّة، تشعر بأن هذا الصرح الثقافي مُغلّف بعيدان الند الحافظة، وعندما تتوغل في أشد أسرار بنائه خفية لا يبقى أمامك سوى أن تُكبر ذلك، فالمكتبة بُنيت على هيئة بازار طهران القديم، بثمانية أدوار، أربعة منها تحت الأرض والأدوار الباقية في الأعلى، بشكل هندسي معين بغية الاستفادة ما أمكن من ضوء الشمس ما دامت مُشرقة، أما المقاعد الألف وخمسمئة المُخصصة للباحثين فهي مُصمّمة بمواصفات طبية تُوفّر أقصى درجات الراحة للمرتادين، كما أن الحكومة الإيرانية استحدثت لها نظاماً ضد الحريق (FM 200) كأطور نظام في العالم، حيث يقوم بإخماد الحريق المُتوقّع في مدة لا تتجاوز الخمس ثوان، كما أن نظام التكييف في المكتبة مُبرمج على أن تكون درجة الحرارة داخل الخزائن الحاضنة للكتب والمخطوطات لا تتجاوز السبع عشر درجة، بينما لا تتجاوز الحرارة في باحات المكتبة الخمس وعشرين درجة، بالإضافة إلى أن المكتبة وتسهيلاً لنقل واستلام الكتب من قِبل الإدارات والأقسام تحتوي على سيور جرّارة يبلغ طولها 100 ألف متر تتوقف في 35 محطة.
في أحد الأقسام التي تضم مخطوطات نادرة يوجد هناك السيد عظيمي على كرسي مُتحرك يضطر لاستخدامه بسبب عاهة مُستديمة أصابته أثناء الحرب العراقية الإيرانية، إلاّ أنه وبالرغم من إعاقته إلاّ أنه يُعد من الباحثين الثقافيين في إيران وُيجيد اللغة العربية بالقدر الذي لا يضر بالمعنى، وهو يُدير قسماً هاماً من المكتبة الوطنية، يضم 40 ألف مخطوط، نصفها على ((الحجر)) أما عموم المكتبة فتضم أكثر من مليوني كتاب وثلاثين ألف عنوان لرسائل وأطروحات أكاديمية (ماجستير ودكتوراه) . المستشار الثقافي لرئيس الجمهورية الدكتور علي أكبر أشعري والذي هو أيضاً رئيس المكتبة الوطنية قال بأن أكثر من سبعين بالمائة من مدارس إيران لا تُوجد بها مكتبات إلاّ أن الخطة الموضوعة من قِبَل حكومة أحمدي نجاد قَضَت بأن تكون لكل مدرسة في إيران مكتبة وقد وضعت في سبيل ذلك موازنة كبيرة من مُجمل الميزانية العامة للدولة.
مكتبة المرعشي الذي مات فقيراً
تعتبر مدينة قم المقدسة (147 كم جنوب العاصمة ) والتي يرجع تأسيسها إلى عصر الفيشداديين؛ الحاكم الروحي للنظام الإسلامي في إيران، فهي إلى جانب كونها ثاني أهم المراكز العلمية الدينية للشيعة (تحوي 80 مرجع تقليد لهم رسائل عملية) والحاضن الفعلي للحوزة الدينية (120 ألف طالب علم) تُشكّل الموروث السياسي والثوري لحركة الإمام الخميني الذي سبقت سقوط الحكم البهلوي في العام 1979، ثم إن ثلث قضاة محاكم إيران هم من خريجي حوزة قم التي تضم مركز تأهيل القضاة أيضاً . بعد جولة في مكتبات المدينة الغارقة في الرضا الرباني، ذهبت إلى مكتبة المرجع الكبير السيد محمد حسين الملقّب بشهاب الدين المرعشي النجفي الذي قضى حولياته التسعين بين الكتب والمخطوطات حتى جمع 37 ألف (مخطوط) و68 ألف عنوان (مخطوط) اشتراها بسعر لم يكن قريباً إلى الإحسان بقدر ما كان يفوق طاقة البشر، وللعلم فإن هذا العالِم عاش فقيراً بحد الكفاف إلى الحد الذي منعه ذلك من أداء فريضة الحج لعدم استطاعته مادياً رغم أن الأخماس التي كانت تُجبى له كانت تُعد بعشرات الملايين، إلاّ أنه وفي العام الذي التحق فيه بالرفيق الأعلى وُهِبَت له أكثر من 68 حَجَّـة من أناسٍ مُحسنيين.
على أية حال المكتبة تُعد ثالث أكبر مكتبة في العالم الإسلامي بعد مكتبتي سليمانية في تركيا التي تحوي 200 ألف مخطوط، ودار الكتب المصرية (1870م) وهي تستقبل يومياً ما يربو على أربعة آلاف زائر من داخل إيران وخارجها، وقد حدّثنا الدكتور السيد محمود نجل الإمام المرعشي أن أستاذاً من جامعة جورج واشنطن قد قَدِم إلى المكتبة قبل أيام باحثاً عن مخطوط نادر قيل له أنه موجود فقط في مكتبة المرعشي، وللعلم فإن المكتبة لا تضم فقط كُتباً دينية بل أن حظوظ العلوم الإنسانية وعلوم الفيزياء والرياضيات وغيرها وفيرة جداً فيها، سألت أحد مُصاهري العائلة المرعشية عن مصدر الدعم الذي تتلقاه المكتبة، خصوصاً وأن عملية شراء الكتب والمخطوطات واستقبال الزوار والصيانة والبرتوكولات تتطلب مبالغ فلكية، بالإضافة إلى رواتب أكثر من 120 موظفاً يعملون فيها فقال : أن المكتبة لديها شيك (مفتوح) من المُرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله السيد علي خامنئي لشراء أي كتاب أو مخطوط ترى إدارة المكتبة أن اقتناءه مهم بالنسبة لها، كما أن الحكومة الإيرانية خصّصت حساباً مصرفياً من الميزانية العامة للدولة بملغ مليار ونصف المليار تومان سنوياً (1.645.5 مليون دولا) كمبلغ تشغيلي للمكتبة، ويُعين البرلمان الإيراني في سبيل ذلك اثنين من ديوان الرقابة المالية للإشراف على حُسن التصرف بالمال الممنوح، وقد أخبرني مسروراً أن المكتبة قد فازت هذا العام كأفضل مؤسسة في الجمهورية الإسلامية في دقة تصريفها للدعم الحكومي . بالإضافة إلى العمل المُتقن في خزائن المخطوطات والاحتياطات الأمنية المُصاحبة لها والأنظمة المضادة للحريق والتلف، يبقى الشيء المثير للغرابة أكثر هو التقنية الفائقة التي روعيت في بناء المبنى الجديد للمكتبة والذي بناه الخبراء العسكريون الإيرانيون، فبالرغم من أن هذا المبنى مُجهز بأحدث التقنيات إلاّ أنه أيضاً يتحمّل هزة أرضية بدرجة (9) على مقياس ريختر ويُقاوم الضربات الصاروخية وعمليات التفجير وقد بلغت كُلفة بنائه ثمانية مليارات تومان (8.776.000 مليون دولا) . وقد علمنا لاحقاً أن الحكومة الإيرانية خصّصت 13 هكتاراً على الطريق بين قم وإصفهان لإنشاء جامعة مُتخصصة في تدريس علوم المكتبات والفهرسة.
من يزور إيران قد يُفاجئ بأنها بلد يعيش فصول العام الأربعة، وبالرغم من مجازية هذا القول إلاّ أنه ومن الناحية المناخية حقيقة قائمة، هذا البلد اعتاد العيش كرقم صعب لا يُمكن تجاوزه حتى في أيام محنته، فكيف به الآن وقد استوت له معظم الطرق الوعرة التي كانت تُشغله وتسلم النوم من عينه، وقد أثبتت التجارب له أن الحياة جولات ما هي إلاّ جولات .. لا تستقيم أيامها بالتماثل أبداً.
التعليقات (0)