كلما طالت بنا الأيام استطالت شعور رؤسنا ، واسترسلت أذقاننا في راحة, مطلقة لشعورها الحرية ... لحانا كثيفة الشعور .... سوداء يختبئ الشيب في امتدادها .... شعراتها طليقة برغم اعتقالنا ... طليقة تنعطف يمينا وشمالا أو تتسكع نصف هنا ونصف هناك فلا مشط يقومها ولا أمواس تشذبها ، الأمواس حسبناها محرمة دولياً علينا .
لو أطلعت علينا لوليت منا فراراً ولملئت منا رعبا .... وجوه بيضاء ثلجية النعومة, يكسوها الشعر من كل جوانبها .... أصبحنا كساكني الكهوف وجوها ... وأصبحنا مهيئين لنمثل في الأفلام التاريخية وأفلام الإنسان البدائي ... ينقصنا لباسه وهرواته .
ليس إلا بعد شهور متباعدة استفاق ضميرهم ، جاءوا لنا بحلاق أهديناه شعور لحانا ورؤسنا عزيزة بلا ثمن ... جمع شعورنا في كيس واحد كما جمعوا مشاعرنا في سجن واحد .. الصيف حار راح يحكم قبضته علينا ، ويقلبنا من حال إلى أسوأ من سابقه .... لا تدرك حجم السعير الذي نعيش في جدرانه إلا بعد أن تخرج منه وتعود ثانية .... نقرأ هذا الإحساس في وجوه الشرطة مع انفراج بوابة زنزانتنا في وجوههم ... نقرأ لفحة من اللهب تشوي وجوههم ، ونعرف ذاك من رجوع أقدامهم إلى الوراء في أول وهلة .
الممر الذي يحتضن الزنازين عن يمينه وشماله هواؤه تعبره نسمات التكييف المتسربة من البوابة الرئيسية . مع برودة الممر نرى العرق يهطل من الشرطة ويملأ بزاتهم الخضراء بالبقع السوداء .
بعد أن أصبح لدي كتاب التفسير المعين .... وأحسب مروره تلك الأيام دون منع لكونه قرآناً ... هو صفحة يتوسطها صفحة من المصحف على جانبها تفسير لمعاني بعض الكلمات ، وفي أسفل الصفحة مجموعة من أحاديث المعصومين (ع) يجمعها موضوع واحد ، يستوحيه المؤلف من موضوعات الصفحة القرآنية .
بقلم من قطعة الألمنيوم غلفته بالقماش شرعت أكتب الأحاديث حسب تصنيفها .... أجمع الأحاديث في موضوع واحد لحفظها بالتسلسل أو أجمعها في نسق واحد ثنائيات ... ثلاثيات .... رباعيات ، مثال على الثنائيات ، الصبر صبران ، صبر على ماتحب ، وصبر على ماتكره .
سيل من المعرفة كانت تلك الأحاديث وكان حفظها متعة لاتعادلها متعة وتنزه في ربيع الحكمة والفطنة .... حافظة الذهن كلما عودتها على الحفظ المرتكز على الفهم استجابت للحفظ أكثر .
كذلك الأستاذ أعد لنفسه برنامجاً للحفظ ، كل يوم يحفظ مجموعة آيات من سورة الزمر .... يمر بعينيه على الآيات متمعناً في الصياغة هاضماً المعنى ، يقرأ الأستاذ من مكنون صدره .... أتابعه من المصحف مباشرة مصححاً عند لزوم التصحيح حتى أتم حفظ السورة بأكملها .
في الليالي التموزية تلك نتبادل الأحاديث ... كان على كل منا إعداد درس مرتجل يلقيه على مسامعنا أو قصة من محفوظاته يشنف بها آذان من لايسمعون مايدور بالعالم الخارجي .
جاءت النوبة على (ج) ليلقي علينا ما تجود قريحته البسيطة البريئة ... استلم (ج) انتباه آذاننا كاملاً ... إبتدأ في سرد قصته بـ كان ياما كان هناك رجل فقد زوجته ، بعدما خلفت له طفلأ صغيرا في سن خمس سنوات ... عزم الأب على الزواج ليأتي بأم تعتني بإبنه ... لم يكن اختيار الأب موفقا ، زوجة الأب تخشى من تبول الطفل الصغير على فراشه .
دون بينة اعتمدت زوجة الأب على حل يخلصها من توهمها ... راحت كل ليلة مع غروب الشمس تأتي بالطفل وتربط عضوه بخيط .... ربطاً يمنعه من التبول مطلقاً ... كل ليلةعلى هذا المنوال .... مل الطفل من قسوة زوجة أبيه ، ولكن لا حيلة لديه ، لقد عانى كثيرا من زوجة أبيه ... استمر الطفل كل ليلة عند ذهابه للنوم بمخاطبة نفسه ... كان يردد بصوت المتهضم ( جانا الليل ... جانا الويل .... جانا تربيط الـ ... ) .
مر الأب بجانب سرير إبنه مرة ، سمع ترديده لأكثر من مرة ... بعد اطلاع الأب على حقيقة المعاملة القاسية .... فارق الزوجة القاسية معتذرا من إبنه .
انتهى (ج) من حكايته واستلقى الجميع على قفاهم ضحكاً ... عدنا إلى (ج) نسأله عن العبرة من القصة .... قال : الظلم لا يدوم ، أعادنا (ج) إلى نفوسنا بعد أن أخرجنا بمرحه وطرافته .
بلى .... الظلم لايدوم ، سنة تفوه بها لسان (ج) بفطرته ... الإنسان يدركها بفطرته ويخالفها بشقاوته وعناده ، وأمثلة التاريخ حاضرة في الذهن تروي عن عواقب الظلم ولكن ... ما أكثر العبر وأقل المعتبر.
أعادنا (ج) إلى الإحساس بأجسادنا ... أجسادنا المتدثرة بدثار الوهج القاتل ... أجسادنا إذا أرادت السهاد تلتحف الرطوبة دثارا لا بد منه ... من أول الليل حتى منتهاه لايرقى للعين المنام وسيول العرق تتفجر من أعضاء الجسم كلها على السواء .... الوجه في بحر من رشحات العرق ... والأرجل غائرة في الفراش بغسيلها العرقي .... وباقي الجسد يتقلب من بقعة لزجة لأخرى تنتظر مزيدا من العرق .
وتستمر الأجساد في مكافحة اللهيب ، ولا تنتصر إلا مع طلوع النهار حين تنجلي الرطوبة عن جو زنزانتنا .... تلك الرطوبة التي لاتغادرنا ليلاً .... هي من البحر إلى زنزانتنا ... الأجساد جاهدة في العناء .... والألسنة تجري على صفحاتها الآيات والأذكار .
ومع هبوط الرأس على وسائد المظلومين ، تستنفر الروح بهجتها بذكر الله .... وتلاوة آياته ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير ، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور .... وتسافر الشفاة في رياض الآيات غير عابئة بإلحاح العرق النازف من كل الأطراف .... وتنتصر الإرادة على جبروت الظالمين ..... البقية تأتي .
التعليقات (0)