في الذكرى التاسعة للثاني من خرداد
هـا هــنـــا كـانـت الخـاتـمـيـة
مقدمة :
هكذا انقضى العهد الخاتمي .. ضمور حاد لملامح عهد غير عادي مَسَخته الحركة النجادية القادمة باندفاع لم يُحسب له حساب، عبّر عن كبت تيار عريض أُصيب في كبريائه طيلة سبع سنوات خَلَت، في الجانب الآخر لم يبقَ سوى أُحجياتٍ خجولة عن ذلك العهد .. مظاهر "التخفّف" من الحجاب، وحركات شبابية فولكلورية تبلورت بدثاره لكنها لم تُقلّده وسام شكر أو فضلٍ أو مِنَّة، أيضاً الأحزاب الإصلاحية بدأت تنخرها الانكسارات العمودية، فكروبي انشقّ عن الحزب الذي أنتج نواته وشرعيته "روحانيون مبارز" وأسّسَ له حزباً جديداً باسم الاعتماد الوطني، و"ربّان" المرحلة السيد محمد خاتمي رَجَعَ إلى صنعته الأصلية كاتباً وباحثاً، ومُهاجراني اختار ركناً ثقافياً في إحدى جامعات العاصمة البريطانية لندن (أكسفورد) تاركاً كوادر البناء في أحضان الرفسنجانية الجديدة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد من الإنهيار وإنما دخل حلفاء الأمس في سجالات غير منتهية كل يريد التخلّص من وزر هزيمة انتخابات الرئاسة التي فاز فيها نجاد، فالهزيمة يتيمة والنصر له عدة آباء كما يُقال .
كرّس فوز السيد محمد روح الله الخاتمي في انتخابات الجمعة الثالث والعشرين من مايو من العام 1997 حالة الانقسام في الأجنحة السياسية الدينية، التي بدأت معالمها تظهر قبلاً عَقِبَ انسحاب عدد من الروحانيين الخمينيين من بطن رابطة عُلماء الدين المناضلين "روحانيت مبارز" وتأسيسهم لمفرزة حزبية دينية جديدة أسموها مُجمّع علماء الدين المناضلين "روحانيون مبارز" وعندما فاز السيد محمد خاتمي في الانتخابات السابعة كان الحزبان الرئيسيان "روحانيت وروحانيون" قد شَهِدا انشقاقات على ذات اليمين وذات الشمال فظهر كوادر البناء على يسار اليمين وظهر أتباع خط الإمام على يمين اليسار، ثم جبهة المشاركة على يسار اليسار، وهكذا دواليك، حتى شهدت الساحة الحزبية الإيرانية تضخماً كبيراً في المسميات والانشاطارت وحمى قوية في التقابل، لكن تلك الأحزاب لم يكن يربطها رابط فكري مُحدد ولا برنامج واضح، لذا فإن فوز السيد خاتمي دفع بالأمور لأن تأخذ مسارات منضبطة ومُتشكّلة على هيئة زوايا منحوتة على الخريطة، فالتأم اليسار الديني ومن يُحاكيه الهوى في توليفة سُمّيت بجبهة الثاني من خرداد ضمّت ثمانية عشر تنظيماً . وفي المقابل تداعى اليمين نحو بعضه مُشكّلاً جبهة خط الإمام والقائد ولاحقاً مجلس تنسيق قوى الثورة الإسلامية، وهكذا انتظمت الخريطة الحزبية وفُهِمَت التوجهات والمقاصد والأتباع ونَضَجَت البرامج والرؤى .
لاحقاً ومع بداية دخول المتنافسين في أتون الصراع، فقد شَهِدَت الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة وباقي المدن الإيرانية فرزاً جديداً على غرار ما حدث للأحزاب السياسية، فظهر توجهان حوزويان يُؤازران ما هو قائمٌ من اصطفاف سياسي، وبالتالي فقد دخلت الحوزة العلمية على خط الأحداث في إيران، وأصبحت تمخر في الحراك المتعاظم داخل قواعد اللعبة التي أقامها النظام الإسلامي منذ قيامه قبل سبعة وعشرين سنة، أفضى لأن تظهر نظريات دينية جديدة وتفسيرات وقراءات متنوعة للنص، فكانت مشاريع شبستري وسروش وملكيان الفكرية نضحاً إصلاحياً، في حين باتت أطروحات مصباح يزدي ولاريجاني ومكارم شيرازي وعلي مطهري تُعبّر عن التوجهات اليمينية المحافظة، فكان ذلك الملمح الطبيعي الآخر الذي نظّمه فوز خاتمي، لتُصبح القوى الداخلية أكثر تهيئاً لأن تشتغل سياسياً واجتماعياً ودينياً .
وعلى مستوى الدولة سارعَ خاتمي لإتمام مشروعه السياسي إلى تضمين حكومته مشاةً للتنفيذ والتسويق وذلك بغرض إحياء البرامج والسياسات الجديدة، وللاستقواء بهم على مراكز القوى التي تمركزت منذ خسارة اليسار الديني الراديكالي في انتخابات المجلس النيابي الرابع في العام 1994، فقام خاتمي وفي حركة ثورية "بيضاء" إلى إبعاد المُدريين والمسؤوليين السابقين وإبدالهم بشخصيات محسوبة على ذوقه وفكره قيل أنها تجاوزت الخمسة آلاف فرد في كامل أجهزة الدولة، واستثنى من ذلك منتسبي كوادر البناء الرفسنجانيين، وهي خطوة وإن بدت هادئة إلاّ أنها ساهمت في انحشار الآخرين داخل خندق الظل، كما قام خاتمي بتعيين العديد من المثقفين الليبراليين مستشارين غير معلَنين له كصادق زيبا كلام ومحسن كديفر، أما الحكومة فقد كان المستوزرون فيها "غالبيتهم" أشخاصاً محسوبين على تياره، لكنه مَنَحَ منافسيه من اليمين التقليدي وزارة واحدة وهي الاستخبارات .
إذن فقد أصبحت الأمور أخذ جدية وقابلية لأن يبدأ الإصلاحيون الضرب تحت الحزام، وبدأت كرة الثلج تتدحرج بتقديم التنمية السياسية على التنمية الاقتصادية، وقد كان استحقاق ذلك التقديم في الأولويات مُثقلاً، لأنها تعني التصادم مع جهات مختلفة في النظام السياسي، فإن كانت ترمي التوسّع الثقافي والنظر في وضع الحريات والتسامح مع المرشحين فإن ذلك يعني التقارب أكثر نحو مناكفة المجلس الأعلى للثورة الثقافية ومجلس صيانة الدستور، وإن كانت ترمي إلى إرخاء القبضة الاجتماعية عن 60 بالمائة من فتوّة إيران فإن ذلك يعني الصدام مع الحوزة الدينية ورجالاتها الذين يُديرون إيران روحياً، وإن كان يُقصد بالتنمية السياسية كل ذلك فإن الأمر يتطلب تعديلاً دستورياً وآيدلوجياً في بُنية ولاية الفقيه الركيزة الأمضى في النظام الإسلامي، ومن هنا بدأ السجال يعتمل وأصبحت إيران على صفيح ساخن وبلد مبهور بالخطابية التي اتبعها دانتون في فرنسا، ساهم في ذلك حجم التنافر الحاصل بين أجهزة الدولة، حكومة تنفيذية (إصلاحية) وبرلمان (محافظ) فبذل خاتمي من جهده ووقته الكثير قرباناً لمهاترات وصراعات الأجنحة، وجُيِّرَ ذلك الاحتراب ليوضع بين الناس ضيعة تشرّبت تربتها بدماء وأنين الكثيرين الذين لم يدفعهم سوى التشخيص الخاطئ للأمور، فتأخرت مشاريع البلد إلى الوراء، ولم تُعطى مسألة الأحوال المعيشية القدر الكافي، فانتهت الدورة الأولى من الرئاسة وهي مُحمّلة بتساؤلات مختلفة لكنها مُلحّة ومستعجلة، فحاول خاتمي الهروب من ذلك عبر إعلان نيته الانسحاب من المعركة الانتخابية للانتخابات الثامنة، لكن عاد مرة أخرى بدموع ليس لها إلاّ تفسير واحد وهو أنه يعود إلى القصر بغير ما كان يتمنى، وبالفعل فقد كانت دورته الثانية أقلّ تشنجاً وهدوءً، وبدأت حكومته في التعاطي مع الأمور بواقعية أكثر، وسارع في طرد المتدثرين به من الليبراليين، مُنبهاً إياهم بأن مُناهم في إقامة ديمقراطية علمانية في إيران لن يحصل لكنه استدراك بدا وكأنه ضائع وسط تراكمات هائلة من السنوات الأربع المنقضية، لتنتهي ولايته الثانية فيجد نفسه في مرمى الأصدقاء قبل الأعداء، حلفاؤه من المتطرفين وصفوه بالمخادع ومرحلته بالفاشلة، في حين نعت منافسون عهده بالسنوات الضائعة، ولم يبق له من حلفاء وأصدقاء إلاّ من عوام الإيرانيين الذين ألِفوه لسنوات، وأيضاً من خارج إيران من المعجبين بشخصيته الباسمة وبخطابه وانفتاحه، استطاع أن يستحصلهم بفعل ثلاثة وستين زيارة قام بها لأربعة وثلاثين بلداً طيلة وجوده في الرئاسة .
التعليقات (0)