يتجلّى أمامنا هذا التصوير من أجل أن يتم عقد ترابط بين أبعاد المعرفة أولاً، وأبعاد الوجود الكلي ثانياً، وأبعاد الوجود الإنساني ثالثاً، وليتمّ أخير المطابقة والمناظرة بين أبعاد المعرفة وأبعاد الوجود العام والخاص، فالدين واللغة والعلم تتمحور في المجال المعرفي بوصفها أعمدة أساسية للمثلّث المعرفي الذي تتشكل من اجتماع أعمدته وتناسقها البنية المعرفية الشاملة لكل متطلبات الوجود الإنساني، وهو ما عمد الإمام علي بن أبي طالب (ع) الإشارة إليه من خلال قوله : ( العلم ثلاثة : الفقه للأديان، والطبّ للأبدان، والنحو للّسان ) .
وهذا التشكل المعرفي يساير الحقيقة الوجودية الواحدة التي هي واحدة في عين تكثرها كما يتمّ تبني ذلك في مباحث الحكمة المتعالية التي أفصح عن مكنوناتها صدر المتألهين الشيرازي المتوفى في العام الهجري 1050، والحقيقة المعرفية أيضاً تتشكل متناسقة مع الحقيقة الوجودية، فالدين يوازي العقل في هداية الإنسان إلى الله تعالى، واللغة توازي النفس في تمثيل حقيقة الإنسان، والعلم يتوسل بالحس لاكتشاف حقائق العالم الكوني في أفقه المادي والحسي .
وأساس التناسق بين الأبعاد المعرفية والأبعاد الوجودية هو التماثل الذي يحكيه كل منها في مضاهاته للآخر، وإيضاح ذلك بشكل مختصر يتمّ من خلال البيان التالي في حقيقة كل من الدين واللغة والعلم :
أولاً : الدين : هو المادة المعرفية المقدمة من قبل منزل الدين وهو الحق سبحانه وتعالى، وهي ما يتحدث عن حقائق الأفق العقلي المجرّد الذي أشرنا إليه من قبل باسم "عالم العقل"، وبقيام الدين بهذا الدور فإنه يؤسس لوجود وثبات الضلع الأول من أضلاع مثلث المعرفة التي يحتاجها البشر ويأملون من خلالها اكتشاف البعد الأهم والأخفى من أبعاد الوجود العام، إذ أن إحاطة الإنسان بحقائق الوجود من دون إعانة الدين هو ضرب من المحال، مهما اعتقدنا بقدرات الإنسان وإمكانياته على تخطى الحواجز والحدود .
ثانياً : اللغة : تأخذ اللغة موقعها في مثلث المعرفة بوصفها الضلع الذي يوجد التواصل بين ضلعي المثلث الآخرين، وهذا هو حقيقة دور اللغة في الوجود المعرفي للإنسان، فاللغة لها جهتها الحسية المتمثلة في ألفاظها ووجودها الصوتي المسموع، كما أن لها بعدها المعنوي المجرّد، والمتمثل في ما تنطوي عليه الألفاظ من معاني وما تستهدف إيصاله من مفاهيم وتصورات ونقلها من ذهن إلى ذهن آخر، وهي بهذا اللحاظ تشابه في أدائها المعرفي وجود "عالم المثال" المتوسط بين عالم العقل وعالم الحس، كما أوضحنا ذلك في التصوير الأول من تصويرات هذا الكتاب .
ثالثاً : العلم : نتعامل مع مصطلح "العلم" في هذا المجال من خلال النظر إلى دائرة عمله التي يوظف فيها من قبل الإنسان في اكتشاف حقائق العالم المادي المحسوس ومحاولة التعرف على خفاياه، ومن خلال تثبيت العلم كأداة معرفية في هذا المثلث فإننا نستوعب مختلف أبعاد الوجود الإنساني التي تتطلب صياغة معارف عقلية تملأ الفراغ العقلي عند الإنسان، وهو ما يقوم به الدين أساساً، وتتطلب صياغة معارف مثالية تملأ الفراغ النفسي والوجداني عند الإنسان، وهو ما تقوم به اللغة من خلال أدائها الوظيفي في نقل وتوصيل المعلومة والمعرفة والربط من خلال ذلك بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وتتطلب صياغة واكتشاف معارف حسية ترتبط بشؤون هذا العالم المادي المحسوس الذي نتشارك نحن البشر جميعاً في إدراكه والتأثر به أكثر من غيره من بقية العوالم الوجودية، ومن خلال تلاقي هذه الأضلاع المعرفية الثلاثة لا يبقى المجال مفتوحاً أمام وجود أيّة ثغرة معرفية في البناء المعرفي الذي نريد من الإنسان أن يتعامل معه ويؤسسه لنفسه، ومن خلال هذه الأضلاع المعرفية الثلاثة أيضاً نكون قد استوعبنا متطلبات المعرفة الشاملة، والمتمثلة في معرفة الله والإنسان والعالم، وبذلك تكتمل عناصر المعرفة الفلسفية والتي حصرها قدماء الفلاسفة في : الإلهيّات والإنسانيّات والطبيعيّات.
التعليقات (0)