ليس حصيفاً ذلك الرأي القائل أن الملف النووي الإيراني سيكون أقل هدوءاً وسكينة فيما لو كان السيد محمد خاتمي هو سيد القصر الجمهوري بشارع فلسطين في طهران، وأن سقف المطالب الإيرانية في المفاوضات ستكون أقل فيما لو كان الشيخ حسن روحاني (ممثل الولي الفقيه في المجلس الأعلى للأمن القومي حالياً) هو من يقود المفاوضات مع الترويكا الأوربية والوكالة الدولية للطاقة الذرية، طبعاً ليس السبب أن هذا الرأي فقط مُتأسس على مُسبّقات ذهنية تجاه تيار اليمين المحافظ في إيران وعلى الرئيس أحمدي نجاد، بل لأن الأمور في طهران تجري بسياقات غير الذي يعتقد به البعض، فإيران وخلال مفاوضاتها مع الترويكا الأوربية والوكالة الدولية للطاقة الذرية التي انطلق ماراثونها (بالتراضي النسبي) منذ اتفاق سعد آباد في أكتوبر 2003 وحتى أغسطس من العام 2005 بدأت وانتهت بحزمة من المزاليج التي وضعها الطرفان أمام التوصل إلى أي نتيجة (تسووية) ثم إن النهاية التي رأيناها لم تكن حصيلة حدث طارئ أو إخفاق دبلوماسي وإنما جاءت وفق المسار المُحدد لها، فالأوربيون قدّموا مقترحاتهم التي وعدوا بها في الخامس من شهر أغسطس المنصرف أي بعد ثلاثة أيام على تنصيب أحمدي نجاد رئيساً لإيران.
وإذا ما أخذنا الرد الرسمي الإيراني على تلك المقترحات سواء من رئاسة الجمهورية أو من مجمع تشخيص مصلحة النظام اللذان يُعتبران الزوايا الحادة في النظام السياسي الإيراني أو حتى من مراكز القوى الأخرى غير الرسمية بالإضافة إلى مسؤولي الحكومة المنتهية ولايتها سنجده متحداً في لفظه متعدداً في مركزه، وبالتالي فإن وجود أحمدي نجاد أو وجود محمد خاتمي لن يُغيّر من الأمر في شيء، وعليه فإن الأقدار هي التي ساوت بين توقيت وصول نجاد إلى الحكم وتسليم مقترحات الترويكا الأوربية لإيران، وأن مفاعيل وتمظهرات الحدث هي تحصيل حاصل لحقيقة مفاوضات من نوع خاص استمرت وفق محددات سياسة حافة الهاوية، وما الفترة التي سبقت تقديم المقترحات إلاّ " مساحة هدنة " التزمت خلالها إيران بوقف كافة الأنشطة النووية .
إيران والمحور الإقليمي
خلال القمة السادسة والعشرين لمجلس التعاون الخليجي التي اختتمت أعمالها في شهر ديسمبر الماضي بدا القلق الخليجي من المسألة النووية الإيرانية واضحاً، بل وصل إلى حد الدخول في مماحكة إعلامية (بسببه) بين وزير الخارجية الإماراتي والأمين العام للجامعة العربية لما قيل حينها عن انتقاده القلق الخليجي من المفاعل النووي الإيراني في بوشهر دون الإشارة إلى المفاعل النووي الإسرائيلـي . تصريح وزير الخارجية الإماراتي كان مباشراً جداً عندما قال " إن دول مجلس التعاون قريبة من المفاعل النووي الإيراني في بوشهر، وليس لدينا حماية ووقاية في حال حدوث تسرب من هذا المفاعل " وقد تكون مفاعيل تلك الهواجس أكثر جدية إذا ما أضيفت إليها التصريحات اللامسؤولة التي أدلى بها مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي قبل شهرين، عندما قال " إن الدبلوماسية لا تعني الكلام فحسب، وإنما تحتاج إلى وسائل ضغط وإلى استخدام القوة في حال الضرورة القصوى " كذلك ما أكّد عليه الرئيس جورج دبليو بوش عن عدم استبعاد أي خيار لمنع الإيرانيين من امتلاك سلاح نووي.
والتصريح المماثل لكونداليزا رايس قبل أيام، وهو ما يعني " التصريح " بإمكانية اللجوء إلى الخيار العسكري، في الجانب الآخر وفي ردة فعل عنيفة أبدت إيران ممانعة مستميتة حول الحفاظ على برنامجها النووي، بل وهدّدت بوقف تطبيق البرتوكول الإضافي الملحق بمعاهدة حظر الانتشار النووي (الذي قبلته بعد اتفاق سعد آباد) إذا أُحيل ملفها إلى مجلس الأمن، بل إن ممثلها لدى الوكالة الدولية للطاقة اعتبر ذلك " رسالة واضحة ومباشرة جدًا وعلى حكام الوكالة الدولية للطاقة وأعضائها أن يفهموها " ثم التصريحات النارية للرئيس نجاد وقادة الحرس الثوري التي جاءت مصاحبة لعمليات التعبئة العامة في القوات المسلحة الإيرانية، رغم أن زيارة رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الإسلامي الشيخ هاشمي رفسنجاني لسوريا والكويت وتصريحه بأن الخليج " لن يدعم عملي عسكري أمريكي ضد إيران " وتأكيده على سلمية المفاعل النووي الإيراني، قد خفّفت من التوتر في المنطقة . إن المعادلة التي ستفرض نفسها عندما تتعرض إيران لهجوم هو أن تقوم الأخيرة باستهداف الأساطيل البحرية الأمريكية العائمة والقواعد العسكرية - تسع قواعد جوية وقاعدتين بحريتين وقواعد برية وقاعدتين جويتين في الكويت وقاعدة جويـة في السيلية - والعراق، وقد لا تكون التهديدات الأمريكية المتكررة رادعاً لإيران لأن تُوقف برنامجها النووي بقدر دفعها أكثر نحو التفكير بجدية في اقتناء سلاح غير تقليدي، وهي كلها محاذير تفرض على الجميع توخي الحذر في أي تحرك لأن الملفات صارت أكثر تداخلاً .
تصريحات عدد من المسئولين الخليجيين مؤخراً وخصوصاً من السعودية يُعطي مؤشراً على أن دول مجلس التعاون ترمي التحرك سريعًا للمساعدة في إيجاد حل سياسي ودبلوماسي لهذه الأزمة المستعرة في أحشائها، وإبقائها في أروقة الدبلوماسية للمحافظة على السلم في المنطقة، إن دول الخليج تُدرك جيداً أن الولايات المتحدة لا تملك سوى خياري القبول بإيران كما هي أو الدخول في حرب عسكرية مباشرة معها، بينما الإيرانيون لديهم من الأوراق الكثير لتطويع مستقبل الأحداث لصالحهم فهم يملكون الورقة العراقية الرابحة اليوم، ويملكون ورقة انقسام العالم الغربي تجاه ملفهم النووي، ويملكون موقفي روسيا والصين والتحكم بأسعار النفط، لذا فإن موقف دول الخليج المتخوّف لم يُترجّم لحد الآن على أنه موقف مساند للحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضد إيران، بل إن تصريحات ولي العهد السعودي سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز في 19 إبريل الجاري في لقائه بمسؤولي الصحف المحلية بالرياض عندما قال " ليس من المصلحة أن نوضع في موقف ضد امتلاك إيران أسلحة نووية بينما إسرائيل تمتلك تلك الأسلحة " تعكس مدى التعقّل الخليجي تجاه الأزمة النووية الإيرانية، خصوصاً وأن دول الخليج وبعد احتلال العراق باتت تدفع ضريبة خسائر تفوق العشرة مليارات دولار بشكل سنوي، كما أن التقديرات كانت تشير إلى أن حركة الاستثمار الخليجية قد تتأثر بنحو 220 مليار دولار، من بينها 100 مليار في قطاع الطاقة السعودي فقط .
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن إيران ستستخدم 3200 كم من حدودها البحرية عند تعرضها لأي هجوم أمريكي أو إسرائيلي فإن ذلك يعني كارثة اقتصادية بالمطلق ستصيب دول الخليج التي تعتمد على الواردات بنسبة 80 مليار دولا سنويًّا، نصفه أو أقل تستقبله الموانئ الإماراتية لـيُعاد تصديره للسوق المجاورة، وبالتالي فإن دور دول الخليج في تسوية مثل هذا الملف سيكون ذو أثر كبير لتجنيب المنطقة ويلات نزاع عسكري جديد بالرغم من أن حظوظه لا زالت ضعيفة .
في المقابل فإن مسؤوليات إيران تجاه المنطقة تتطلب تسوية العديد من القضايا العالقة، أو تلك التي تنظرها الدول الخليجية بريبة، فحل قضية الجزر الإماراتية بات أمراً مُلحّاً، أيضاً ملاحظة ما تُبديه الدول الخليجية من مخاوف من أوضاع العراق التي تلعب إيران فيه دوراً محورياً يفوق الدور الذي يلعبه 140 ألف جندي أمريكي هناك، وما يتطلبه ذلك من مراعاة الأوضاع الصعبة التي يعيشها العرب السنة في الوسط . إيران مُطالبة أيضاً بإعطاء ضمانات تُبدد مخاوف الخليج فيما يتعلق بمصير مضيق هرمز في حالة نشوب حرب بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية .
دعوة أخيرة تخص المثقفين في المنطقة، المطلوب منهم التوقف عن الدفع بالأمور إلى الأسوء أو الوقوف موقف المُحرّض، لأن في ذلك مسؤولية جسيمة توازي مسؤولية العمل الدبلوماسي، لأن الدفوع نحو التجريم قد يُضيّق دائرة التقاطع بين الدول المتشاطئة، ويُضيّع الجهود الرامية إلى تمكين الحوار بدل الاحتراب .
التعليقات (2)
من يرسم السياسة الخارجية الإيرانية
تاريخ: 2006-05-08 - الوقت: 06:37:28بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم و رحمة الله و بركاته الأخ الكاتب محمد عبدالله تحية طيبة و بعد ، من المعروف بأن السياسة الإيرانية تتمثل في تيارين متوازيين هما التيار الإسلامي المتشدد و التيار المعتدل الإصلاحي ، و لكن كل زمام الأمور السياسية مشدودة في يد المرشد الأعلى للثورة الإسلامية ، و لن تخطو الحكومة أي خطوة سياسية إلا بأمره ، أما الحكومة تعمل على شكل محلي كتنظيم بلديات و الشؤون الداخلية فقط و لكن الشؤون السياسية و خاصة الخارجية فليس للحكومة و لا لأي احد صلاحية بأن يعارض المرشد الأعلى و ولي أمر المسلمين ، بختصار لو أن خاتمي كان في محل نجاة لكان الموقف هو ذاته لأنهما عديمي الصلاحية في رسم السياسة الخارجية . و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
محمد عبد الله محمد
تاريخ: 2006-05-11 - الوقت: 17:58:33الأخ العزيز كاتب التعليق المحترم .. قد تتفق معي على أن الخطاب والأشخاص والسياسية الخارجية والداخلية للجمهورية الإسلامية قد تغيّرت بشكل هائل بعد مجيء أحمدي نجاد، فلم تعد تسمع مصطلحات الإصلاح والنظام الإداري البيروقراطي أو الخصخصة (الداخل) أو ضرورة إنهاء إسرائيل كدولة مُصطنعة والعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية (الخارج) وبالتالي فإن الملفات لا تُحكم من قبل المرشد الأعلى بالشكل الذي وصفت لأنها تتبدل بتبدل الرؤساء والمسؤوليين . وشكراً محمد عبد الله محمد