ربما أكتب الآن عن حدث فات أوانه هكذا قد يُظَن، لكني أعتقد أن الأحداث هي بشخوصها التي تضع على روحها وذاكرتها أحجيات محفورة ومؤثّرة، كما أن القرن ليس بالضرورة أن يُنظر له بحسبة رقمية كمئة عام (كما يقول محمد حسنين هيكل) بل إنه مُقَاسٌ بحجم الأحداث التي فيه ولحاظ ديناميكيتها، وبالتالي فإن الوقائع والأحداث هي أيضاً قد لا تكون بالضرورة حدثاً هاماً من دون وجود محددات تُمسك ببوصلة الحدث لتتحكم في شدته وسكونه، وصيرورتها لاحقاً نقطة في ضباب لا يخضعها لآنية أو زمان.
في انتخابات الرئاسة التاسعة التي فاز فيها الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد بـ 17 مليوناً و248 ألفاً و782 صوتاً مقابل 10 ملايين و46 ألفاً و701 صوتاً حصل عليها منافسه الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني أي بفارق سبعة ملايين صوت تقريباً !! تعتبر حدثاً غير عادي بالنسبة لتركيبة السلطة في إيران والأجواء التي حكمتها منذ فوز الإصلاحيين في مايو 1997، ثم الأهم أن عدم حصول الشيخ على الأصوات التي تؤهله للوصول إلى القصر الجمهوري يُعتبر مؤشر على تبلور مزاج جديد لدى المواطن الإيراني حيال القضايا السياسية الداخلية والخارجية، وبالتحديد نظرته للأحزاب والشخصيات، ومَعيَرة ذلك بمحددات اقتصادية أحياناً ونفسية في أحيانٍ أخرى . الرجل ارتبط اسمه تاريخياً بمناهضة نظام الشاه محمد رضا بهلوي منذ خمسة وأربعين عاماً، ثم ارتبط بشخص الإمام الخميني مع بداية ظهور حركة 15 خرداد 1963، ثم بإرهاصات الثورة الإسلامية وما كانت تُشكّله جمعية روحانيت مبارز من إطار ديني تحريضي ضد النظام الشاهنشاهي في المدن الإيرانية الرئيسية وفي الأرياف، ثم عضواً بمجلس قيادة الثورة، ثم رئيساً للبرلمان لدورتين وقائداً أعلى لعمليات الحرب مـع العراق، وعرّاباً لصفقة ماكفارلن، وما أعقبها من إطلاق سراح الرهائن الغربيين في لبنان . وبعد وفاة الإمام الخميني وانتقال آية الله السيد الخامنئي إلى مرشدية الثورة وقدوم حكومة الإعمار برئاسة رفسنجاني كانت علاقات إيران الخارجية شبه مقطوعة، ولم يكن صوتها مسموعاً في المحافل الدولية، ولا تُوجد لديها شبكة علاقات استراتيجية يُمكن توظيفها في إقامة تكتلات تُعينها على تمرير مشاريعها وخططها إقليمياً ودولياً، في هذا الوقت لمع إسم رفسنجاني كمُخلّص يحظى بشرعية سياسية وماضٍ عتيد، وعلاقة غير عادية مع المرشد الأعلى للثورة والبازار، أهّله لأن يتصدى لهذه الملفات الساخنة، فكوّن شراكة جيدة مع الأوربيين، وبالتحديد مع الترويكا الأوربية (فرنسا، بريطانيا وألمانيا) وفتح معها حواراً نقدياً في مواجهة سياسة الاحتواء المزدوج لمارتن إنديك، ثم جعل منها شريكاً اقتصادياً مهمّاً لبلاده، حتى غدت ألمانيا أهم شريك أوربي لإيران، وباتت شركتا شل البريطانية وتوتال الفرنسية أطرافاً مهمّة في عمليات التنقيب عن النفط في الحقول الجنوبية . وفي ملف علاقة إيران مع دول الخليج، سارع رفسنجاني إلى مد خيوط التقارب مع المملكة العربية السعودية حتى قٌبيل وفاة الإمام الخميني في يونيو 1989، باعتبار أن الإمام كان يُفكّر بجدية في حلحلة قضية الحجّاج الإيرانيين، فقد بادر رفسنجاني إلى إقامة علاقات تجارية عبر وسطاء تجاريين مع أطراف في العائلة المالكة السعودية واستثمار ذلك في تكسير الجليد الرابض على العلاقات بين البلدين، وحتى مع مصر التي دخلت في قطيعة مع الثورة الإسلامية منذ استضافتها للشاه محمد رضا بهلوي وقبلها تبعات اتفاقية كامب ديفيد، فقد سعى رفسنجاني إلى إيصال إشارات عبر السفير خسروشاهي إلى مسؤوليين في الحزب الوطني الحاكم، وكان ينظر إلى مصر على أنها البوابة الأهم للشمال والوسط الإفريقي، وبها يُمكن تبديد المخاوف القومية العربية تجاه سياسة إيران في المنطقة.
حكومة خاتمي
إبّان المرحلة الخاتمية كان رفسنجاني يُمثل خط إجماع بالنسبة للمحافظين وأجزاء كبيرة من الإصلاحيين باستثناء المتطرفين منهم من جبهة المشاركة ومجاهدو الثورة الإسلامية وبعض منتسبي روحانيون مبارز، رغم أنهم تحسّروا عليه في انتخابات 2005 الرئاسية، كان وجود رفسنجاني على رأس مجمع تشخيص مصلحة النظام قد سحب الكثير من فرص الاحتقان التي كانت ستحدث بين البرلمان الذي يُسيطر عليه الإصلاحيون وبين مجلس صيانة الدستور الذي يُهيمن عليه المحافظون، وبالرجوع إلى وثائق السلطة التشريعية سنرى أن رفسنجاني انتصر لأكثر من سبعين بالمائة من مشاريع الاقتراحات التي قدّمها النواب الإصلاحيون، التي كانت تصل إلى طريق مسدود بين المجلسين (الصيانة والبرلمان) خصوصاً وأن مجلس التشخيص هو المضطلع لحل تلك الخلافات حسب الدستور، لكنه في نفس الوقت كان ينحاز إلى المحافظين في مواطن كثيرة لإحداث نوع من التوازن الواجب، ثم إنه كان الوسيط ما بين اليمين التقليدي الذي هو مُؤسس فيه وبين اليمين الصناعي (كوادر البناء) الذي ينظر إلى رفسنجاني على أنه أبٌ روحيٌ له، وعندما نشب الخلاف من على المنابر والصحف ما بين عطاء الله مهاجراني وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي في حكومة خاتمي الأولى وبين آية الله محمد يزدي رئيس السلطة القضائية حينها، كان رفسنجاني يلعب دور رجل الإطفاء ورجل التسويات الصعبة ما بين الفرقاء، والأمر نفسه تكرر بعد إصدار القضاء حكمه بحبس عمدة طهران غلام حسين كرباستشي بتهمة تبديد المال العام، ولاحقاً مع الشيخ عبد الله نوري وزير الداخلية السابق . وحتى عندما تمرّد التعميريون على الأمانة العامة لمجلس التنسيق بين قوى الثورة وبدأوا يُروّجون لأنفسهم على أنه تيار فكري خالص يرى الأصولية في الفكر والتعاون في العمل والحداثة في السلوك، حاول الرجل جاهداً أن يُوقف كرة الثلج تلك، واستطاع أن يستحصل تعاطف أغلب القوى المحافظة (باستثناء ائتلاف رُوّاد إعمار إيران الإسلامية) بل وتأييد حتى جبهة الثاني من خرداد (18 تنظيماً) بالإضافة إلى مراجع الدين في الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة كموسوي أردبيلي ويوسف صانعي وجوادي آملي، لكن الأقدار شاءت غير ذلك.
رفسنجاني الذي خَسَرَ قَبلاً في انتخابات المجلس النيابي السادس أمام الإصلاحيين المتطرفين من جبهة المشاركة ومجاهدو الثورة الإسلامية، ثم خسارته الآن أمام شخصية كانت في يوم من الأيام ضمن تشكيلة حكومته الإعمارية محافظاً لأردبيل وجّبت على النظام الإسلامي أن يُعيد الاعتبار للشيخ الرئيس، حفاظاً على مكانته ولإعادة التوازن لمستجدات ومقتضيات السلطة، وهو ما حدا بالسيد الخامنئي لأن يُصدر مرسوماً يُفوّض فيه مجلس تشخيص مصلحة النظام الإسلامي الذي يرأسه رفسنجاني طبقاً للمادة 110 من الدستور بالإشراف على السلطات الثلاث بعد ما كان اختصاصاً مباشراً ضمن صلاحيات المرشد، وهو باعتقادي قرار أعاد إلى الأذهان قدرة النظام السياسي في طهران على إعادة توزيع مراكز القوى طبقاً الظروف والمقتضيات، فعندما كان الإصلاحيون يسيطرون على كافة مرافق الدولة والنظام، كانت الجيوب المحافظة تلقى دعماً من القوى غير المرئية في النظام وذلك لإعادة توظيب الأمور، ويُمكن إعادة ذات المشاهد في موضوع تفويض البرلمان من قِبَل المرشد للنظر حتى في المؤسسات الخاصة بالقائد، أو موضوع مناقشة قانون الصحافة الذي أقره المجلس الخامس.
التعليقات (0)