قناة أخبار المضطهدين ( 8 )
يضطجع جسد السجين على فراش أشواكه لاترى ولاتزال .... يتقلب جنبان ليفرغان سيول الهم فلا تنقضي ..... العيون ملئ بمشاهد الأحبة الأبعدين .... هم في أقصى الوطن ونحن في أقصاه الثاني ، نفتح من أجفاننا أقصاها فلا يواصلها إلا السراب والأوهام .
يحتسي صور الذاكرة ببطء ..... يتزود من أطياف أحبته الغالين ... الوله مستعر في شرايين الفؤاد .
عند العاشرة من كل ليلة تنكفئ الأنوار خامدة ..... لتصبح الوجوه ذات صورة واحدة والأجسام كتل ملقاة في زوايا الأقفاص الكنكريتية .... تسترخي الهامات على وسائد المعتقل ... آماقها معلقة بالأعلى .... ومن عتمات الظلام تنبجس صور الأبناء والزوجات والأمهات ، الأب يرى ابتسامات أبناءه تضاحك عينيه ... والأبن يشاهد أحضان أمه مشرعة لتضمه بين جانحيها المهيضين ، أطياف الزوجات الثاكلات ماثلة تكسر قيود النسيان ... لاتغرق العيون في المنام إلا بعد معارك شرسة مع الأرق الكئيب .
عندما تصطك الأجفان كل مناها أن تزورها الأحلام الوادعة .... الأحلام في تلك الفضاء لا تأتي إلا لماماً .
قلوب مغلفة بصدور بدى أثر الهزال عليها .... قلوب يشغلها الخوف على أعزة يكابدون الفرقة وحضور المداهمات ... البلاد لازالت حبلى بالتوتر .... مادامت القيود موثقه على المئات لايهدأ أنين الجراح ..... الغضب الشعبي يخبو فيحسبه الجلاد تلاشى واستحال رمادا .... لكنه ما إن يثيره إلا وتترجل في وجهه فوهة الغليان .
وقلوب أحبتنا هناك بعيداً تطير تبحث عنا فلا تجد لنا أثرا ولا خبرا يوقع بالإطمئنان في خفقاتها .... في شهر التوبة والغفران عند إنقضاء نهايات السحر تشعل الأضوية في الزنازين ... تنتزع الأسرى أجسادها من أسرة أهل القبور .... تلتقط الإنتباه من سهادها وتمتد الأصابع بالضغط على الأجفان المتخدرة .... علها تفيق من رقدتها ... يمر الشرطة بعربتهم على الزنازين بالتسلسل ..... كومة من المفاتيح بأيديهم ... بنفس رقم الزنزانة يستخرجون مفتاحاً يدسونه في القفل ... يفتحونه ... ينتزعونه من الباب ، تفك الباب حصارها فتطل وجوه عيونها ذابلة النظرات .
يقدمون لكل منا صحناً من ( البلاليط البني ) وكوباً من الحليب الصناعي بالإضافة لأربعة أقراص يلاحقها سواد التنور حول كامل قطرها .
نقضي واجباً بتناول السحور .... ننتظر صلاة الفجر الوادعة ... نستقبلها بركعات تحية وترحيب ... نصف أقدامنا مؤدين صلاة الفجر في سكينة ووقار .
تنقضي ساعات النهار نصفها ، وتستعر الشمس في وسط الأفق معلنة وقت الزوال , بعد صلاة الظهر جمعا بالعصر .... تنشد أعصاب الإنتظار ... ننتظر أخوة لنا ذهبوا صباحاً بعضهم ورثته أجواء المعتقل أمراضا راح يطلب لها دواء في مستشفى القلعة .... وبعضهم شاءت الأقدار وقوعه في ذلك اليوم بيد ( اللجنة ) .... وآخرون ضحك الحظ لهم مؤقتاً .... حصلوا على زيارة من أهليهم .
ننتظر كل أولئك بعودة محملة بالأخبار ، الأخبار لازالت تحاكي حاجة في النفس للكشف عن المجهول ، نعيش في ركن ناء كما يريد ظالمينا ... لو قامت الدنيا هناك أو قعدت لانعلم ، نحن عضو من هذا الوطن يؤلمنا ما يؤلمه ، وتفرحنا رؤيته فرحاً .
ننتظرهم على أحر من حمم البركان .... يعودون وأسماعنا مسمرة لإلتقاط خطواتهم .... وأعيننا ساهمة على صور أقدامهم ... وقلوبنا تتحرق لأسرار لازالت خلف ألسنتهم ... يؤدي العائدون صلاتهم هادئة مستقرة ... وأعصابنا في إنتظارهم لاتعرف القرار .
الإنتظار يلعب بعقارب الأزمنة .... يحيلها فجة ثقيلة بعين الراغبين ، ويرسمها هشة خفيفة أسرع من البرق على الكارهين .
في نهاية الأمر يصعد أحدهم من إحدى الزنازين ينادي على أحد العائدين ... هنا يأزف وقت الإتصال بالوسيلة الرابعة .... نصعد على السرير الحديدي ، نميل جذع جسدنا لليمين حيث فتحة التهوية بين السقف والباب ، فتحة بإرتفاع 8 بوصات وطول لربما تعدى 14 بوصة ، تمتد عموديا في ارتفاعها قطع من الالمنيوم كما في فتحة المكيف .... أيدينا تدخل بين قطعتين من القطع لتوازن الجسد ... بينما الأخرى تحلق في فضاء الإعتقال .
غالبية هذه الفتحات منزوعة القطع ، أو احتفظت بقليل منها ، نثبت ما بين الحاجب وأسفل الفم في الفتحة .... بالنظر داخل الفتحة نلتقط صورة الواقف أمامنا في الزنزانة المواجهة ... وما لم تمكنا من رؤية رؤيته الفتحة السفلى تحت الباب ، أخذناه من الفتحة العليا وجوه نرى في تغضناتها صور عن أنفسنا .... الفتحة ممتدة ومتفرعة لكل الزنازين في قسمنا من ( الثلاثينات ) حيث تبدأ الزنازين من الثلاثين حتى ( الستينات ) .
كل من يتكلم في هذه الفتحة يصلك صوته .... يختلف الصوت قوة أو ضعفا بحسب بعد الزنزانة عن المسامع ....... عند كل فتحة يتعلق مندوب عن زنزانته ، يدون في رأسه حصيلة اليوم وبعد الهبوط يفرغها في آذان المتشوقين لتفاصيلها .
كل يوم عدا الخميس والجمعة نصعد نتسقط الأخبار حسنها وسيئها .... الأوضاع في الخارج تحوم أطيافها في أذهاننا ... استقرار الوضع وهدوئه يومي بإنفراج الأزمة وتأجح الحالة وتوترها كذلك تؤكد أننا في ذاكرة من هم بالخارج .
المعتقل يتعلق بأحرف الفرج حرفا حرفا ..... مرات تأتيك الأخبار متصادمة متساقطة خبر يؤكد و آخر ينفي .... للناقل دور ونفس في صناعة الخبر .... فمن يود الخلاص بالإستقرار ينحاز لأنباء الهدوء عامة . ومن يرى الإستمرار بالمطالب بأقصى الوسائل يرجح أن التوتر قائم في أنحاء الوطن .
أعجب ظاهرة حارت بها التحليلات ، فتحة التهوية تلك كانت بريداً للصوت والصورة ... وبريدا ممتازا لتمرير الضروريات من زنزانة لأخرى .... الذين سبقونا في الفضل والمعتقل اخترعوا وسائل التواصل تلك .... ألا يقولون الحاجة أم الإختراع إذا عليهم اختراع طريقة تربطهم بأشقائهم في المحنة .
ماذا صنعوا ياترى ؟ استخدموا إطارا قماشيا نزعوه من اللحاف وأوصلوه للزنزانة المقابلة لهم .... جعلوه بطريقة البكرة يذهب ويعود .... كلما استخدمنا اختراعهم قلنا لهم : شكرا على ما أسديتم لنا ! هذا ليس عجيبا بالنظرة الطبيعية ... إنما أعجب ظاهرة تقرع أفكاري للآن وجود حبل سري كالسابق يصل بين زنزانتين متجاورتين وليستا متقابلتين .... هذا يعني أن يسير الحبل مستقيما فينحرف لليمين وبعد مسافة لا بأس بها ينعطف لليمين مرة أخرى ليصل بعد مسير بسيط للزنزانة المجاورة .... كيف تسنى لهم تمديده وبنفس طريقة البكرة ؟! بهذه الوسيلة تكون 8 زنزانات متواصلة ويمكنك نقل ما بالزنزانة الأولى للثامنة عن طريق النافذات الخلفية وفتحات الهواء ( الدك ) كما تسمى هناك .
أربعة جدران تعتقلنا وأربع وسائل نفك بها جزءا من قيدنا وأربعة نحن .... ولاأجمل من مرة كنا نحن أربعة نتنعم بأربعة انتهاكات بنظر الجلاد ... واحد متسلق بالنافذة يقضي من منادمة وطرا بصوت ولاصورة .... والثاني يغمر الكوب بما تجود به قريحته بصوت ولا صورة أيضا .... والثالث افترش الأرض ومكن عينيه من أسفل البوابة يسترق المحادثة استراقا حذر الهوز ..... محادثة بصوت ونصف صورة كالأسود والأبيض ..... والرابع حاز على نصيب الأسد من الدك يواصل البوح بما استجمعته ذكرياته السابقة .... بوح بالصوت والصورة بعيدا عن أقدام الشرطة وعن عيونهم مالم يقتحموا الباب ..... البقية تأتي.
التعليقات (0)