شارك هذا الموضوع

رؤية نقدية للصحافة (الإصلاحية !!) في إيران

بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران في فبراير 1979 م استولت الحركة الإسلامية على الآلة الإعلامية بصورة شمولية، وخصوصاً على الصحف التي كانت تصدر إبّان العهد السابق (86 صحيفة كانت تصدر في العام 1978 م ) حيث تمّ العمل على استبدال إدارتها ورئاسة تحريرها وكادرها الصحفي (كصحيفة كيهان واسعة الانتشار) وأُنشِأَت صحف جديدة، وبدأ العمل في توجيهها آيدلوجياً ودُشّنت لها أرضيات جعلتها تتماهى مع تصورات وسياسات الحكم الثوري الجديد، خصوصاً وأن الوضع الداخلي كان لا يزال صفيحاً ساخناً ومعبأً بثقافة الشعار حتى الثمالة، وكانت الطبيعة الثورية والفوران الإجتماعي واستمرار الحرب العراقية الإيرانية قد فرض آنذاك نمطاً معيناً من النَفَس الصحفي المتناغم وظروف تلك الفترة الحرجة من تاريخ إيران الحديث، إلاّ أن وقوع حوادث مفصليَّة في الحياة السياسية الإيرانية قد ميَّل الحركة الصحفية نحو اتجاهات جديدة، وتتحدد تلك الحوادث في :


1.  قيام الإمام الخميني بعزل الشيخ حسين علي منتظري مُنظر التيار المُتشدد من منصب خليفة الولي الفقيه في 13/3/1988م .


2.    قبول إيران بالقرار الأممي رقم 598 والقاضي بإنهاء الحرب مع العراق في 15/8/1988م .


3.  وفاة الإمام الخميني في 3/6/1989 م وتولي الإمام الخامنئي مرشدية الثورة الإسلامية بعد أيام من تاريخ الوفاة .


4.  إستلام علي أكبر هاشمي رفسنجاني منصب رئاسة الجمهورية في 15/7/ 1989 م  بفوزٍ قارب 94.51 % من مجموع الأصوات المُقترعة .


فبوقوع تلك الحوادث وفي زمن متقارب أظهر ظروفاً اجتماعية وسياسية جديدة على الوضع الداخلي والخارجي لإيران، فسياسة التعبئة الثورية للشارع الإيراني قد خَفَّت نوعاً ما بسبب إنتهاء الحرب مع العراق، كما أن وصول رفسنجاني إلى رئاسة الجمهورية رافعاً شعار الإعمار والبناء بسياسة اتّسَمت بالبراغماتية إلى حدٍّ ما قد فرض مجموعة من الأطر والهموم الجديدة على اتجاهات البلد السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهو ما أثّر بشكل طبيعي على الحركة الصحافة والإعلامية، فقد أجيزت العديد من الصحف وبأذواق فكرية وسياسية متباينة لا تتقاطع مع النظام إلاّ في الخطوط العامّة، حتى بلغ عدد الصحف بنهاية العام 1992 م خمسمائة وعشرون صحيفة ومجلة، وارتفع العدد في السنة الأخيرة لولاية الرئيس رفسنجاني الثانية في العام 1997 إلى سبعمائة وثلاثة وأربعين صحيفة ومجلة، وكانت تُطبع ملايين النسخ في اليوم، وبلغ عدد المكتبات بنهاية ولايته الرئاسية إلى 1179 مكتبة، وتعتبر الفترة الرفسنجانية بمثابة الأرضية التي استوت عليها هياكل القوة الصحفية الإيرانية حيث امتازت بوجود حرية صحفية أوسع وبالسماح لمعارضة راديكالية اختزلت بصورة فاقعة في تيار روحانيون مبارز وتمثلاتها الحزبية الأخرى كمنظمة مجاهدين إنقلاب إسلامي وتشكيلات حزب الله المتشددة .


وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من شهر أيار مايو من العام 1997 م وصل السيد محمد روح الله الخاتمي (58 عاماً) إلى رئاسة الجمهورية بنسبة فاقت الـ 70 % من أصوات الناخبين، وبوصول الرئيس الجديد تغيّرت الكثير من أولويات الدولة، فقد صار الهمّ الأول للسياسة الداخلية الجديدة هو التنمية السياسية بدلاً من التنمية الإقتصادية التي كان ينتهجها الرئيس هاشمي رافسنجاني ولثمان سنوات خلت، لذا فقد تمّ التركيز أكثر على الثقافة والحريات العامة (السياسية والاجتماعية) وحوار الحضارات وكانت تلك الشعارات الجديدة قد شكلت أرضاً خصبةً لنمو الكلمة (المكتوبة والمقروءة والمرئية) خصوصاً وأن ميول الرئيس خاتمي الثقافية وتكوينه الفلسفي قد ساهمت بقوة في توسيع حرية التعبير أكثر وأجيزت العديد من الصحف للصدور لذا فإننا نرى أن عدد الصحف المجازة بعد أشهر من انتخابات الثالث والعشرين من أيار قد وصل إلى 800 صحيفة ومجلة، وازداد في العام 1998 إلى 879 مطبوعة، وبلغت في العام 2001 أكثر من 1064 صحيفة ومجلة تنطق باللغات المتعددة المعتمدة في جميع أنحاء إيران .


لقد كان العهد الخاتمي زاهراً للحركة الإعلامية في إيران بصورة عامة والصحفية بصورة خاصة إلاّ أنه في الجانب الآخر قد غضَّ الطرف عن العديد من تجاوزات الصحف (المحسوبة على تيار الإصلاح) اللامسؤولة التي بدأت في التأسيس لمناخات مشحونة بسياسة التسقيط لرجال الدولة وبالرموز السياسية، وبدأت في التعرض للمرتكزات الأصلية للدولة الدينية كالتشكيك بولاية الفقيه وقانونية بعض المواد الدستورية وبموقعية رجال الدين (المحورية)، وبدأت تلعب أدواراً فوضوية في لعبة الاستحقاقات الحزبية وتشجيع الإنتقام البيني للأجنحة والتيارات، بل لعبت أيضاً الدور نفسه الذي لعبته بعض الصحافة إبّان عهد الشاه محمد رضا بهلوي عندما زجّت نفسها في مهاترات وصراعات عقائدية وفقهية مع رجال الحوزة العلمية، وهو ما يعتبر أمراً خطيراً في مجتمع تسوده المحافظة الدينية، فقد نشرت إحدى الصحف الإصلاحية قبل عامين رسماً كاريكاتوريا صوّرت فيه آية الله محمد تقي مصباح يزدي منظّر التيار المحافظ وعضو مجلس الخبراء وأحد كبار فقهاء الحوزة العلمية بمدينة قم المقدسة على شكل " تنين " تخرج النار من فمه الأمر الذي دفع بطلبة العلوم الدينية إلى التظاهر والاعتصام وإيقاف دروسهم الدينية إحتجاجاً، ولم ينتهي ذلك الإعتصام إلاّ بعد أن طلب منهم المرشد ذلك، كما نشرت صحيفة " موج " الطلابية نصاً مسرحياً أشارت فيه بتهكم للإمام الثاني عشر (لدى الشيعة الإمامية) وبعدها نشرت صحيفة " نشاط " التي يرأس تحريرها ما شاء الله شمس الواعظين مقالات متتالية دعت فيها إلى إلغاء عقوبة الإعدام والقصاص من الفقه الإسلامي لأنه يتنافى وحقوق الإنسان وهو ما اعتبرته المرجعية الدينية مساساً بقدسية النصوص، أو كما حصل لصحيفة حيات نو عندما نشرت كاريتوراً يُصوِّر أحد رجال الدين في إحدى المحاكم الأمريكية وهو يُسحق بإبهام كبير للرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت وكان الرجل المسحوق في الكاريكاتور قريب الشبه لوجه الإمام الخميني الشخصية الكازيمية المقدسة لدى الإيرانيين، والغريب أن نشر ذلك الكاريكاتور (رُغمَ أنه نُشِرَ أصلاً في العام 1936م) قد صادف ذكرى نشر إحدى الصحف الإيرانية في العهد البهلوي لمقال أتُهِم فيه الإمام الخميني بالخائن وهو ما فجر الشارع الديني ضد السلطة آنذاك .


وبدأت الصحف الإصلاحية المحسوبة على الرئيس بنعت زعماء حكومة الظل (المُحافظين) المدعومة من كبار رجال الدين في الحوزة العلمية بأصحاب الفكر الطالباني أو بالتحجّر ومعاداة المدنية ودولة المؤسسات والتطور المجتمعي، وكان ذلك السلوك قد أوقع بين الرئيس خاتمي وخصومه المحافظين الذين اندفعوا بلا عنان لأن يستخدموا كل موفوراتهم المُتاحَة لبدء المعركة التنافسية بينهم وبين الرئيس وتياره بشراسة منقطعة النظير .


يضاف إلى كل ذلك فقد اتبعت بعض الصحف الإصلاحية مبدأ الإنتقائية الخبرية في صراعها مع خصومها المحافظين وهو ما أفقدها جزءاً كبيراً من نزاهتها ومصداقيتها المهنيَّة، فعندما تستجوب محكمة المطبوعات صحافياً محسوباً على تيار الإصلاح تقوم الدنيا ولا تقعد، ولكنهم يقزّمون خبر استجواب المحكمة للكثير من منافسيهم من التيار المحافظ كما حصل لحسين شريعتمداري رئيس تحرير صحيفة كيهان المحافظة والمعين فيها بأمر من مرشد الثورة الإسلامية آية الله السيد علي الخامنئي عندما استجوبته المحكمة ووجهت له 27 تهمة صحفية .


وكان ذلك التسييس الغير منطقي من الصحف الإصلاحية قد كلّف الحياة السياسية الإيرانية الكثير، فلا غرو بأن التدخل الدستوري الذي قام به المرشد لثني البرلمان عن مناقشة قانون الصحافة المُقر من قِبَل المجلس السابق (الدورة التشريعية الخامسة) وقوله بأن أي تعديل في قانون الصحافة " ليس في مصلحة نظام الحكم " ويجب أن لا تقع الصحافة في أيدي " أعداء الإسلام والثورة "  ومن قبل تحذيره الصحافة من استغلال حرية التعبير لتمرير مشاريع إيقاعية .


وكذا الحال بالنسبة للسلطة القضائية عندما أمرت بإيقاف العديد من الصحف (بسبب شكاوى تقدم بها أشخاص اعتباريون أو جهات مؤسساتية أو فقهاء دين) ضد تلك الصحف لهو مؤشر على توجّس أركان النظام مما تقوم به بعض الصحف من تحركات غير قانونية مشبوهة ضد السلم الإجتماعي والأمن القومي لهذا البلد المُعقد في تركيبته الدستورية، والذي يحاول التماهي بحذر بالغ مع نموذج الدولة الحديث من غير أن ينسلخ من أيديولوجيته الدينية والوصول إلى جمهورية النظام وإسلاميته في نفس الوقت (وهو ما تحقق فعلاً بشكل كبير) .


لقد تناست الصحافة الإيرانية (الإصلاحية) واقع الدولة الإيرانية المُؤطر دينياً وأخذت تنادي بأطروحات تنافي أصل الدولة الدينية مما حدا بروّاد وقادة الثورة الأوائل لأن يفسروا ذلك بأنه تهديدٌ مباشر للكيان السياسي للدولة وبمبادئه الفلسفية، وبالتالي فإنهم يعتقدون بأن أي إجراء يتخذونه ضد " تلك التصرفات " هو نابع من أن الدولة يجب أن تكون أمينة على حماية أصل النظام ولا يمكنها أن تكون حيادية أمام اسلاميته وإطاره المعرفي والآيدولوجي وأمنه القومي رغم ما تتيحه من ديمقراطية للناس، ويذكرني ذلك ما حصل للحزب الشيوعي الأمريكي الذي لم تستطع الحكومة الأمريكية أن تراه مشتغلاً على أرض الولايات المتحدة بفكر سياسي ماركسي لا يتفق مع رؤاها من الجذور إلى أن حلّته في سبعينيات القرن الماضي باعتباره تهديد أيدلوجي لمفهوم الدولة الرأسمالية الليبرالية .


إن الجدل الدائر حول الصحافة في إيران لم يكن أبداً بين محافظين وإصلاحيين؛ وإنما هو بين النظام وشرائح مجتمعية استأسدت سياسياً وثبَّتت أقدامها مستغلَّة الحرية والانفتاح السياسي القائم، وكسَبت في مشوارها ذاك أفواجاً من البشر اليافع مدغدغةً مشاعره بحياة مُؤمرَكة، وبأحلامٍ وبشعارات دوغمائية عسيرة التحقق في بلدٍ كإيران يعيش أوضاعاً إقتصادية صعبة جراء تداعيات الحرب مع العراق والعقوبات الأمريكية المفروضة عليها منذ بداية الثورة وإلى الآن، فهل يعي مُراهِقُوا السياسة أؤلئك منطق الأشياء والأمور كما هي لا كما يقرأونها من منظار ميتافيزيقي مُسَطَّح .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع