جاءت زيارة مساعد وزير الخارجية الإيرانية لشئون آسيا واستراليا محسن أمين زادة لأفغانستان لتعيد تأكيد الحضور الإيراني في ترتيبات الملف الأفغاني الشائك وكذا استتباعا لمسلسل الزيارات البينية بعد سنوات عجاف عاشها البلدان إبان حكم حركة طالبان "1996 - 2001" التي سخرت بنيانها الآيديولوجي السلفي المتطرف لإدارة علاقات سياسية إقليمية الأمر الذي أفضى إلى علاقة مأزومة تتمعير بمذهبية حاقدة جرت " أو كادت تجر " المنطقة إلى صراع ديني - ديني خطير لا يعلم أين يفضي بها .
وبعد حوادث 11 سبتمبر/أيلول وحين بدأت الولايات المتحدة الأميركية تتجهز وتجير حلفاءها للحرب العالمية على الإرهاب، رفضت طهران ذلك التحالف قائلة إنها لن تساهم في أي تحرك تقوده الولايات المتحدة لأن الأخيرة " ليست صالحة وغير صادقة في القيام بتلك الحملة " كما صرح بذلك المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإمام الخامنئي وان إيران مستعدة لتقديم العون لهذا التحرك العالمي في إطار الأمم المتحدة شريطة ألا تخضع لنفوذ واشنطن وغيرها من الدول الكبرى، كما لم يفلح وفد الترويكا الذي زار طهران بعيد هجمات سبتمبر في أن يقنع القيادة الإيرانية بذلك أيضا .
وعندما قامت القوات الأميركية والبريطانية بضرب الخطوط الأمامية لحركة طالبان بعد رفضها تسليم زعماء تنظيم القاعدة أو إبعادهم " هكذا أعلن " أعلنت إيران الحياد العسكري المباشر وأغلقت حدودها مع أفغانستان باستثناء نقطة إقليم خراسان وهي أكبر إطلال جغرافي مع الحدود الأفغانية للتعامل مع قضية اللاجئين إلا أنها أبقت على دعمها اللامحدود لتحالف الشمال المعارض الذي بدأته بعد سقوط حكومة رباني وسيطرة حركة طالبان على الحكم وكان ذلك تكتيكاً منها لتفادي كل ما يهدد أمنها القومي أو يهددها بالعزل عن الترتيبات التي قد تقوم في جارتها أفغانستان .
كانت طهران تريد لذلك الحكم أن ينقشع وخصوصا أنه في جانب منه عدو طفيلي هلامي كلفها الكثير وشغلها عن قضايا عدة من بينها تأمين حدودها مع أفغانستان الممتدة على طول 850 كيلو مترا ومن ثم تسوية قضية اللاجئين الأفغان " مليونان ونصف مليون يعيشون في الأراضي الإيرانية " الذين باتوا يشكلون خطرا حقيقيا على الأمن القومي الإيراني بسبب تورط الكثير منهم في عمليات السمسرة النشطة لتجارة المخدرات، واستنزاف هائل للمال الإيراني .
كانت طهران " ومازالت " حاضرة بقوة على المسرح الأفغاني ومتابِعة بدقة لكل حيثيات قضاياه وبالخصوص للدول اللاعبة فيه، وكان تجسيرها للكثير من العلاقات المتينة مع قيادات تحالف الشمال ومع بعض الأحزاب الأخرى وأمراء القبائل والحرب هناك قد مكنها من لعب دور في تسويات ما بعد سقوط طالبان وخصوصا إتمام الاتفاق بين المجموعات الأفغانية في مؤتمر بون، حين مارست نفوذها على تحالف الشمال بغرض وضع نقط النهاية لأية خلافات تفصيلية طارئة وهو ما يعرفه المراقبون وأقر به ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في أفغانستان الأخضر الإبراهيمي.
وبعد طرح برنامج التنمية UNDP التابع للأمم المتحدة لإعمار أفغانستان قامت وزارة الخارجية الإيرانية بعقد ندوة " الإعمار والتنمية في أفغانستان " ودعت إليها وفدا أفغانيا من ثمانية أشخاص، يتقدمهم وزيرا التجارة والأشغال العامة، ونائب وزير خارجية طاجيكستان، وممثلون عن البرلمان الأوروبي وبرنامج التنمية التابع للأمم المتحدة ومنظمة التعاون الاقتصادي، وباحثون من ألمانيا وفرنسا والصين والهند وباكستان، ومن الحكومة الإيرانية ثلاثة وزراء وأربعة من نواب الوزراء، وعدد من الباحثين، فضلا عن ممثلي 50 شركة عاملة في القطاع الخاص، وهو ما مهد لها الطريق للنفاذ إلى الدخل الأفغاني والبدء في تكوين حضور إيراني فاعل إذ أوكل إليها صوغة المنظومة التعليمية الجديدة وبناء المدارس والجامعات وتعبيد الطرق وتدريب قوات الأمن وعقد الكثير من الاتفاقات التجارية الأمر الذي حدا بواشنطن لأن تحذر قرضاي من مغبة التساهل حيال نفوذ إيراني قوي بدأ في التغلغل في قضايا حساسة واستراتيجية داخل أفغانستان، وان إيران تحاول أن تتأكد من أن أفغانستان لا تزال بلدا إسلاميا وأنها لا تتوجه نحو المزيد من العلمنة، والغريب أن الرئيس حامد قرضاي " الأفغاني المولد والأميركي المنشأ والجنسية " تحفّظ على تلك النداءات الأميركية مكللا تحفظه بزيارة قام بها لطهران على رأس وفد كبير ضم ثمانية وزراء أواخر شهر فبراير/ شباط الماضي، والتي جاءت في وقت تشهد فيه العلاقات الإيرانية - الأميركية حالاً من التوتر على خلفية وصف الرئيس الأميركي جورج بوش إيران بأنها إحدى دول محور الشر، وقال في تصريحات مهمة للصحافيين " إن حضورنا هنا بمثابة زيارتك لبيت أخيك لأن إيران دولة شقيقة لنا ونريد من دول العالم كافة أن تساعدنا كما ساعدتنا إيران ولن نقبل أن يتعرض جيراننا للضرر من خلال أفغانستان، وينبغي لإخواننا الإيرانيين أن يثقوا في ذلك تماماً " كما وقع قرضاي اتفاقاً سياسيا مشتركاً لمكافحة المخدرات وتوطيد علاقات حسن الجوار، وكانت تلك رسالة واضحة منه إلى الولايات المتحدة بالنسبة إلى توازنات الوضع الإقليمي الجيوبوليتيكية .
كما أن وزير الدفاع الأفغاني الجنرال قاسم فهيم رد على تلك التصريحات بقوله " إن المساعدات الكبيرة التي قدمتها إيران واستضافتها أبناء الشعب الأفغاني ستبقى ماثلة في ذاكرة هذا الشعب " واعتبر إيران جارة يمكن الوثوق بها وشريكا مهما لأفغانستان، وإننا بحاجة إلى التعاون الشامل مع إيران من أجل إعادة إعمار أفغانستان .
وأمام كل ذلك الاهتمام الإيراني الجدي بالقضية الأفغانية يمكن معرفة الدواعي الحقيقية لذلك على النحو الآتي :
"1" يشكل نهر هِلْمَنْد ( 1,295 كم ) وروافده الكثيرة والذي ينبع من منطقة بهسود الهزارة ليصب في إيران مسألة مهمة جدا للمناطق الزراعية والتنموية للحدود الإيرانية الغربية وخصوصا فيما يخص العمل على ترميم طريق هرات - إسلام قلعة، وإيجاد جسر على نهر هِلْمَنْد وفتح ميناء جديد بالتعاون مع الهند لنقل البضائع إلى الأسواق الأفغانية من ميناء بندر عباس الإيراني بدلا عن ميناء كراتشي الباكستاني .
وكذلك العمل على بناء طريق يربط إيران بأوزبكستان وطاجيكستان عبر الشمال الأفغاني، يضاف إلى كل ذلك فإن الأرض الأفغانية لا تزال بكراً من ناحية الطبيعة الجغرافية والاقتصادية والتجارية، فالأراضي الزراعية المزروعة لا تتجاوز 22 % من مجمل الأراضي الصالحة للزراعة، كما أن أرض أفغانستان غنية بخمسين نوعا من المعادن كالحديد " بها أكبر مخزون من الحديد النادر في العالم يبلغ أكثر من مليوني طن منها 63 % حديد خالص " والنحاس والفحم والرصاص والذهب والكروم والألمنيوم والفضة والجير والرخام والياقوت، وبالتالي تصبح السوق الأفغانية مكانا خصبا لأي مشروعات اقتصادية وتنموية وخصوصا ما يتعلق بالوكالات والوساطات التجارية .
لذلك فقد جاء إعلان الحكومة الأفغانية برنامجا شاملا لإعادة إعمار البلد على ستة محاور أساسية هي التعليم والصحة والمواصلات والري والتنمية الريفية وبناء المؤسسات الحكومية فرصة تاريخية للنفوذ التجاري والسياسي الإيراني في أفغانستان إذ قامت الشركات الإيرانية بإنشاء طريـق دوغـارون هرات وتأهيل شبكه الكهرباء لمدينه هرات، كما بدأت تدريب قوات الأمن والدفاع وهو ما عرضه شمخاني على وزير الدفاع الأفغاني الجنرال قاسم فهيم .
(2) تعاني إيران كثيرا من تجارة المخدرات القادمة من حدودها الغربية عن طريق عصابات تهريب مسلحة تنشط على طول الحدود الممتدة بطول 850 كم مربعا، إذ أن خريطة الإنتاج والتوزيع مقسمة على محورين: الأول: الإنتاج وقلاعه في المثلث الذهبي الذي يتألف من لاغوس وتايلند وكمبوديا ثم المنطقة التي اشتهرت بالهلال الذهبي في باكستان وأفغانستان والمحور الثاني يتركز في التوزيع، أي نقل الإنتاج إلى مراكز الاستهلاك وأسواقه الرئيسية، وهي الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا الغربية التي يصلها 90 في المئة من المواد المخدرة، علما بأن أميركا وحدها تستهلك 80 في المئة من الإنتاج العالمي من الكوكايين ويأتيها عبر كمبوديا.
وفي أفغانستان يبلغ إنتاج الترياك والأفيون 2000 طن سنويا " بلغ إنتاج الأفيون العام 2002 أكثر من 3400 طن " وأمام تلك الخريطة الجغرافية الخطيرة لتهريب المخدرات باتت تلك التجارة تمثل تهديدا جديا للأمن القومي الإيراني ولمئات الآلاف من الشباب الإيراني الذين تورطوا في عمليات إدمان قاتلة وخصوصا في المحافظات المتاخمة للحدود مع أفغانستان "إقليم خراسان" وقامت طهران في سبيل ذلك بإنشاء هيئة أركان مسلحة مستقلة تابعة مباشرة لمكتب رئاسة الجمهورية ويرأسها وزير الداخلية وبضميمة كل من قوى الأمن الداخلي وقوات من حرس الثورة الإسلامية " الباسدران " إذ تقوم بين حين وآخر بإجراء مناورات تشارك فيها 80 في المئة من عناصر الهيئة بغرض تعطيل عمليات التهريب وقد قتل الآلاف منهم خلال مواجهات حقيقية مع عصابات التهريب التي تمتلك الكثير من الأسلحة الثقيلة كصواريخ أرض جو وراجمات صواريخ وهو ما يكلف إيران مبالغ باهظة .
لذلك فإن تحيين الحضور الإيراني الفعلي في أفغانستان سيساعد بقوة على تحريك هذا الملف لدى القادة الجدد في كابول.
(3) انتبهت إيران إلى أن المستطيل الجغراسي من طوروس إلى المحيط الهندي والذي تكون أفغانستان في خاصرته الجنوبية الشرقية هو مفتاح آسيا ويتضمن مواقع تاريخية ودينية واقتصادية واستراتيجية مهمة، وقد قال شاعر باكستان الكبير محمد إقبال: "آسيا جسد من طين وماء، أفغانستان قلبه، من صلاحه تصلح آسيا كلها، ومن فساده فساد آسيا" وهي مقولة تستحق التمعن والقراءة، وأعتقد أن الإيرانيين قرأوها جيدا وخصوصا أنهم يتطلعون إلى مد ذراعهم نحو شبه القارة الهندية صاحبة الرقعة الجغرافية الضخمة " 3,3 ملايين كم2" وثاني أكبر تعداد للسكان في العالم بعد الصين " 1,1 مليون إنسان " وثالث أكبر اقتصاد في آسيا لإيصال الغاز المسال إليها وكذا بغرض الاستقواء بها لرفض الوجود الأميركي في منطقة الخليج بسبب تخوف الهند من أن ذلك الوجود قد يقلص حرية حركتها، وأن أي صراع قد ينشب في غرب آسيا وتشترك فيه قوى دولية عدة قد ينعكس سلبا على مصالحها وهو ما يتوافق مع سياسة إيران الخارجية ومخاوفها الأمنية، كما أن طهران تطمح إلى تصيير الهند مصدرا مهما للتكنولوجيا العسكرية وتكنولوجيا المعلومات الكمبيوترية الرائجة لدى الهنود، وهو ما يحتاج إلى تأمين ممرات وطرق وأجواء يمكن الوثوق بها من قبل رؤوس الأموال وكانت الهند ساعدت إيران على إعادة برمجة الغواصات الروسية الثلاث "التي قامت إيران بشرائها من روسيا" على نظام السير في المياه الدافئة كما أن تقريب التعاون الهندي الإيراني جغرافيا سيساعد على ترتيب الملف الأفغاني بما يتوافق وأجندة دول جنوب شرق القارة الآسيوية، وهو رأيناه جليا في ندوة إعمار أفغانستان التي نظمتها الخارجية الإيرانية إذ كان الحضور الهندي واضحا وبجلاء أكثر من أية دولة أخرى .
كما أن الإيرانيين باتوا يعتمدون بشكل استراتيجي على دول جنوب شرق آسيا ككتل نشطة في السياسة الدولية، وبالتالي فإن الاعتماد عليها في التوازنات الإقليمية له ما يبرره، وخصوصا في ظل تنافر إيراني أميركي صاعد، يضاف إلى كل ذلك أن التقارب يأتي في ظل قناعة إيرانية راسخة بأن التوجه شرقا "في عمق القارة الآسيوية" هو سياسة استراتيجية لإيران فمعدلات النمو الاقتصادي المتصاعدة في الصين والهند وفي منطقة جنوب شرق القارة وتحديدا النمور الآسيوية تعطي مؤشرات جيدة لأي شراكة اقتصادية مستقبلية، وأن القارة القديمة تمتلك ما لا يمتلكه الآخرون من مساحة هائلة تصلح لأن تكون مرتعا تجاريا محوريا لإيران وهي بالإضافة إلى كل ذلك تعتبر منبعا وافرا للعمالة الرخيصة، وخصوصا أن الهند تستورد أكثر من 70 في المئة من احتياجات مصافيها التي يمكنها معالجة 3,2 ملايين برميل يوميا ويأتي ثلثا تلك الواردات من منطقة " الشرق الأوسط " .
كما أن إيران تحاول أن تلعب دورا ما عبر تلك المسالك "الأفغانية والباكستانية" والهنود يدركون ذلك جيدا، فإيران وباكستان وأفغانستان دول مسلمة ولها مصالح مشتركة وتداخل إثني وعرقي كبير، فالشيعة الباكستانيون يمثلون أكثر من 20 في المئة من السكان أي ما يعادل 28,3 مليون نسمة، وفي باكستان أكثر من 12 مليون من البلوشستان وهم من أصول إيرانية ويشكلون 8,5 في المئة من تعداد السكان، والأفغان يتكلمون الفارسية والتداخل البشتوني والطاجيكي مع حدود إيران الغربية واضح بجلاء لذلك فإن الهند تعول على إيران في لعب دور مهم في الصراع بينها وبين باكستان وكذا الأمر بالنسبة إلى دول آسيا الوسطى وروسيا .
التعليقات (0)