شارك هذا الموضوع

ظاهرتا العبادة والدعاء عند الإمام زين العابدين (ع)

  التفسير المبتور للظاهرتين :


لم يكن تفسير المؤرخين لظاهرتي العبادة والدعاء للاِمام زين العابدين عليه السلام بأوفر حظاً من تفسيرهم لظاهرة البكاء المارّة الذكر.. ؛ إذ اقتصر بعضهم على تفسيرهما بكونهما حالة من الاعتزال والانكسار النفسي الذي يحلُّ عادة بالمصدومين والمفجوعين بسبب هول الصدمة أو الفجيعة التي مرّوا بها أو مرّت بهم...


ويفسرها آخرون بأنّها نوع من العزاء والسلوى والتصوّف ، حيث ينكفىء أصحابها على أنفسهم في طقوس خاصة وانزواء واعتكاف لا علاقة له بالناس والمجتمع وهمومهم وآلامهم...


وبين هذين التفسيرين المتيسّرين اللذين يمران على الاُمور بظواهرها ولا يغوصان في أعماقها ، يأتي تفسير مبتور ثالث يؤكد أنّ دعاء الامام وعبادته لم يكونا يتعديان مناقبية مثالية علوية عظيمة ، وفضيلة وكرامة من فضائل وكرامات أهل هذا البيت الطاهر ، وحيث ينظر إلى المنقبة والكرامة على أنّها أسمى ما يمكن أن يوصف بها الاِنسان المغيّر في زمن التداعيات السياسية والصراع الفكري والحضاري..


ولئن كان في هذا التفسير بعض حق ولكنه ليس الحق كلّه ، لاسيّما وإن ما ينتظر من أمثال الامام السجاد عليه السلام هو أكبر من المناقبية والفضيلة والكرامة ، وإنّما العمل والجهاد والكفاح لمواصلة مشروع تغييري يكون أهل البيت عليهم السلام أجدر الناس وأولاهم بتبنّيه وتنفيذه في ظلمة ذلك الواقع الفاسد...


نعود ونذكّر بالاَسباب والظروف التي أملت على الامام السجاد هذا النوع من السلوك في فترة كان المجتمع الاِسلامي الممزّق أحوج ما يكون إلى التأمل والمراجعة وإعادة النظر بعيداً عن ضجيج السياسة الصاخب وأزلامها المسطحين المستهترين.


فماذا ترى الامام فاعلاً وهو يعيش أجواء كابوس خانق من الظلم والتعسف والاضطهاد يحمل لواءه عبدالملك بن مروان ، وخلفه ولاة قساة غلاظ كالحجاج وخالد القسري وبشير بن مروان ، يتوّجهم طاغية جبّار مستهتر لا يتردّد أن يمسك بالقرآن الكريم ويمزّقه ويخاطبه مهدداً :



تهدّدني بجبـارٍ عنيـد * وها أنا ذاك جبار عنيدُ


إذا لاقيت ربك يوم حشرٍ * فقل ياربّ مزّقني الوليدُ



وهذا يعني أن الامام عليه السلام عاصر الفترة الاُولى من حكم يزيد الاَموي بكامل عنفها واستهتارها ، أعقبتها تسع سنين من الاضطرابات والفوضى والصراع على السلطة بين الاَمويين والزبيريين ، وما رافقها من ثورات شيعية وقتل وقتال لم تترك أحداً إلاّ وناشته رذاذة أو شظية من شظايا تلك المرحلة الفظّة وصراعاتها ودمويتها وارتجاج المقاييس والقيم في فضائها العابث الصاخب...



طريقان لا ثالث لهما :


ومن هنا كان أمام الامام عليه السلام أحد طريقين : إمّا الاحتراق بهوس تلك الصراعات والضياع في خضمّ اصطكاك سيوف رجالها المتنافسين المتصارعين على الجاه والسلطة والمال.


وإمّا الابتعاد عن ذلك الهوس السياسي والصخب الدموي لحين انجلاء الغبرة ، والنأي بعيداً عن ذلك بالانشغال ببلورة الفكر الاِسلامي المغيّر وإعداد النخبة الصالحة التي تذكّر بالصفوة المجزّرة من آل بيت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم التي لم يبقَ منها أحد سوى هذا العبد الصالح المقصي البكّاء الحزين...


اختار الامام الطريق الثاني بالتأكيد ، وراح يعدّ العدّة لاعداد المجموعة الصالحة المؤهّلة لحمل رسالة جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الاجواء العابثة الملبّدة ، وكان عليه أن يُشعر السلطة الظالمة قبل غيرها ، أنه ابتعد عن معترك الصراع السياسي ، واعتزل الحياة العامّة ، منشغلاً بعبادة ربّه ، منصرفاً عن مشاغل الدنيا ومتاعبها.. فكان ( أن ضربَ له بيتاً من الشعر خارج المدينة وتفرّغ فيه للعبادة والابتهال ) (1).



الهدف الحقيقي :


ومن ذلك المكان النائي ، ومن تلك الخيمة المتواضعة وبهذا السلوك أو المنهج استطاع الامام تحقيق الاَهداف التالية :


1 ـ إشعار الناس والمجتمع أن العمل السياسي ليس هو وحده الكفيل بتشكيل النخبة المغيّرة القادرة على قيادة المشروع الاِسلامي المغيّب من قبل السلطات الظالمة ، وخاصة في زمن ارتجاج المقاييس واهتزاز الثوابت لدى القاعدة الجماهيرية الشعبية التي يعوّل عليها تنفيذ عملية التغيير المطلوبة هذه...


2 ـ ترسيخ أو بناء مفهوم جديد للعلاقة مع الله تعالى عبر الدعاء والمناجاة ، وإملاء الفراغ الروحي الناشئ عن حالات الاِحباط وخيبة الاَمل التي خلّفتها سياسة دموية عابثة تلفّعت بشعارات الاِسلام ، ولكنّها لم تنتج إلاّ الهوس والسعار ، والركض وراء الشهوات والملذّات وزوايا المتعة والمجون ، إذ نسمعه يناجي ربه قائلاً : « الهي ، كم من نعمة انعمت بها عليّ قلّ لك عندها شكري ، وكم من بليّة ابتليتني بها قلّ لك عندها صبري ، وكم من معصيةٍ أتيتها فسترتها ولم تفضحني ، فيا من قلَّ شكري عند نعمه فلم يحرمني ، ويا من قلّ صبري عند بلائه فلم يخذلني ، ويا من رآني على المعاصي فلم يفضحني.. » (2).


وليس تعبيره باصفراره عليه السلام عند وضوئه وحين يقف بين يدي ربّه وقوله : « أتدرون بين يدي من سأقف ومن سأناجي » إلاّ إشارة دقيقة وصادقة على هذا التواصل ، أو تعبيراً متيناً عن هذا الشدّ الرسالي العظيم...


ومثل ذلك قوله وهو متعلّق بأستار الكعبة ليلاً : « إلهي نامت العيون ، وعلت النجوم ، وأنت الملك الحي القيوم ، غلقت الملوك أبوابها ، وأقامت عليها حراسها ، وبابك مفتوح للسائلين... إلى أن ينشد قائلاً :



يامن يجيب دعا المضطرِّ في الظُلم * يا كاشف الضرّ والبلوى مع السقمِ


قد نام وفـدك حول البيت قـاطبةً * وأنت وحـدك يـا قيّـوم لـم تنمِ


أدعـوك ربّ دعاءً قـد أمرت به * فـارحم بكائـي بحقّ البيت والحرمِ


إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف * فمن يجود على العاصين بالنعمِ (3)



3 ـ تذكير الناس بالله تعالى واليوم الآخر ، وإيجاد بدائل لسعادة روحية غيّبها الصراع المادي والسياسي للسلطة الحاكمة ، وخلق أجواء حميمة لعلاقات صادقة وصفاء روحي قائم على الحبّ في الله والبغض في الله...


فنجده يجسّد ذلك الشعور في دعائه لجيرانه ومواليه ، وإخوانه العارفين بحقّه فيقول : « اللهمّ صلِّ على محمد وآله.. واجعلني اللهمّ أجزي بالاِحسان مسيئهم ، وأعرض بالتجاوز عن ظالمهم ، واستعمل حسن الظن في كافّتهم ، وأتولى بالبر عامتهم ، وأغض بصري عنهم عفة ، وألين جانبي لهم تواضعاً ، وأرقّ على أهل البلاء منهم رحمة ، وأسرّ لهم بالغيب مودة ، وأحبُّ بقاء النعمة عندهم نصحاً ، وأوجب لهم ما أوجب لحامّتي وأرعى لهم ما أرعى لخاصتي » (4).


وهذا يعني أن السعادة الروحية يمكن أن تكون أعمق من السعادة المادّية ، وأن التنافس المحموم على المادّة يمكن تعويضه بسعادة روحية حميمة تقوم على العلاقات الدافئة الحبيبة بين الاِخوان المتحابين في الله والمتآخين في حبّ الله ، وبعيداً عن مخالب التنافس المادي وأنيابه وسُعاره...


4 ـ تسفيه أحلام الحكام الاَمويين والتنديد بتكالبهم وتسابقهم على ملذّات الدنيا ، عبر إشعارهم بأن السعادة والكرامة لا يتأتّيان دائماً عبر المال والجاه والسلطة ، وإنّما عبر الزهد والسموّ والترفّع على الدنيا وحطامها ، بل إنّ السعادة الروحية أركز وأمتن ، وأجلّ في نفوس أهلها من السعادة المادية المعروفة.


سأل عبدالملك يوماً الامام عليه السلام عن تواصل عبادته وكثرة انشغاله بها ، فأجابه عليه السلام قائلاً : « .. ولولا أن لاهلي عليّ حقاً ، ولسائر الناس من خاصتهم وعامتهم عليّ حقوقاً ، لا يسعني إلاّ القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى أؤديها ، لرميتُ بطرفي إلى السماء ، وبقلبي إلى الله ، ثمّ لا أردّهما حتى يقضي الله على نفسي وهو خير الحاكمين.. » مذكّراً بحديث جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حين سُئل عن كثرة عبادته وقد غفر الله له من ذنبه ما تقدّم منه وما تأخر ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ » ! وقيل : إنّ عبدالملك بكى وأبكى من كان معه...


فضلاً عن إشعار أزلام السلطة أو إيهامهم بأنّه لا يعارضهم ولا يبغي غائلة بهم ، علّهم يخففون عنه عيون الشرطة والمرتزقة والمأجورين...


ولا نرى أنفسنا مبالغين حين نقول : إنّ ( زبور آل محمد ) جاء مجموعة متماسكة من ذرى رفيعة ينتقل عبرها الداعي من عالم مادي رمادي مظلم إلى عالم معنوي مشرق نوراني شفاف ، يستلهم القارىء من كلماتها وألفاظها ومعانيها ونصوصها آفاقاً جديدة في المعرفة والعرفان ، حتى ليُخيل للمرء أنّها كتلةً نورانية مشعّة تنبعث عنها طاقة هائلة من معانٍ وإشراقات يفجّرها الامام ببيانه وبلاغته وصدق مناجاته ، ويحشدها حشداً على امتداد أدعية الصحيفة وكلماتها... وهو يقول : « إلهي اسكنتنا داراً حفرتَ لنا فيها حُفَر مكْرِها ، وعلّقتنا بأيدي المنايا في حبائل غدرها ، فإليك نلتجىء من مكائد خدعها ، وبك نعتصم من الاغترار بزخارف زينتها ، فإنّها المهلكة طلاّبها ، المُتلفة حُلاّلها ، المحشوّة بالآفات ، المشحونة بالنكبات.. إلهي فزهّدنا فيها وسلّمنا منها بتوفيقك وعصمتك ، وانزع عنا جلابيب مخالفتك ، وتولّ أمورنا بحسن كفايتك.. » .


5 ـ كان لابدّ للامام وهو يرى انتشار وباء التكالب على الدنيا وشهواتها ، وانتشار ظواهر التحللّ والميوعة والفساد ، أن يبحث عن لقاح مضاد نافع لكبح تيار الانحلال هذا ، وتعليم الناس أنّ الدنيا ليست كلّ شيء وإنّما وراءها يوم آخر غيّبته السياسة ، وأنّ ذلك اليوم هو خير وأبقى لمن ألقى السمع وهو شهيد ، فكان عليه السلام يقتنص الفرصة تلو الفرصة لتأكيد هذا المعنى في نفوس الناس.


روي عن الامام الباقر عليه السلام واصفاً عبادة أبيه أنّه قال :


« لم يذكر أبي نعمة لله إلاّ سجد ، ولا قرأ آية فيها سجدة إلاّ سجد ، ولا دفع الله عنه سوء إلاّ سجد ، ولا فرغ من صلاة إلاّ سجد ، ولا وفّق لاصلاح بين اثنين إلاّ سجد.. » (5).


ويُروى عنه عليه السلام أنّه حين كان يخرج مع الناس في بعض المنازل كان يصلّي ويسبّح في سجوده ، ويبكي حتى تبتلّ لحيته بدموع عينيه وهو يقول : « يامن تُحلُّ به عُقد المكاره ، ويا من يُفتأ به حدّ الشدائد ، ويا من يُلتمس منه المخرج إلى روح الفرج. ذلّت لقدرتك الصعاب ، وتسبّبت بلطفك الاَسباب ، وجرى بقدرتك القضاء ، ومضت على إرادتك الاَشياء ، فهي بمشيئتك دون قولك مؤتمرة ، وبإرادتك دون نهيك منزجرة ، أنت المدعو للمهمّات ، وأنت المفزع في الملمّات ، لا يندفع منها إلاّ ما دفعت ، ولا ينكشف منها إلاّ ما كشفت... » (6).


وغير ذلك من تضرّع ومناجاة وتبتّل ، كانت لها أكبر الآثار في شدّ الناس بالله تعالى وتذكيرهم بعظمته وجبروته ، وتحذيرهم من الكفر به وتجاوز حدوده... خاصة إذا كان مثالها مصداقاً عملياً للدعاء الصادق أو التبتّل الطاهر الذي لا يرجو صاحبه بدعائه وتبتّله ومناجاته إلاّ رضا الله تعالى وتحكيم دينه في دنيا الناس ، رأفةً بهم وحبّاً لهم ، وامتثالاً لقوله عزَّ من قائل : ( فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فاذن لمن شئت منهم واستغفر لهم ان الله غفور رحيم ) (7) .



مضامين دعائه عليه السلام:


وحتى دعائه عليه السلام لم يسلم هو الآخر من النقد والتجريح من قبل السفهاء والمسطّحين ، فبعد أن اعتبره بعضهم إعتزالاً سلبياً ، وانكفاءً وابتعاداً عن هموم الناس وآلامهم ، راح آخرون يؤكدون على الجانب العرفاني فيه فقط ، ناسين أو متناسين أن دعاءه عليه السلام كان في معظمه رسالة مفتوحة ، إلى الناس كل الناس ، بثّ لهم فيها شجونه وأهدافه ورسالته وعلى كلِّ الاطر والاصعدة ، وعلى طريقة ( إياك أعني واسمعي يا جارة )...


ولعلنا من قراءة سريعة لسطور وكلمات أدعيته المأثورة نكتشف سِفراً خالداً ـ سنأتي على ذكر بعض تفاصيله لاحقاً ـ من التربية والتهذيب والتصدّي والدعوة إلى الاِصلاح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة حدود الله واستحضار قيم الدين وتفعيل مضامينه وبثّ الروح في مواعظه وإرشاداته.


ولم يُخطئ من وصف ( الصحيفة السجادية ) للامام زين العابدين عليه السلام بأنّها ( زبور آل محمد ) ، ولم يُجانب الصواب كثيراً من قرأ الامام السجاد من زاوية التهجّد والعرفان وعلاقته عليه السلام مع السماء فقط ، فلعله عليه السلام أراد بتلك الاَدعية ـ كما قلنا ـ كبح الانجرار الهابط إلى وحل الاَرض وطينها ، والوقوف أمام التيار المادي الجارف الذي روّجه وعزف عليه وأشاعه الاِعلام الاَموي المتلفّع بشعارات الدين زوراً وإفكاً...


ومن قراءة سريعة في هذه « الصحيفة الخالدة » يكتشف المرء عمق العلاقة بين الامام زين العابدين وربّه ، وكيف انه غاص في أعماق النفس الانسانية ، وراح يشدّ حبلها بحبل السماء الذي قطعته السياسة الاموية ، ومزّقت أوصاله تداعياتها ، وانحطاط رجالها وتهافتهم على الدنيا وحطامها..


نعم ، استطاع الامام السجاد عليه السلام بهذا الاتجاه وبسبب الاَجواء الخانقة التي أشرنا إليها تلميحاً أن يترك لنا سفراً خالداً في المناجاة والتبتّل والابتهال ، فأعاد موازنة العقل مع القلب ، والفكر مع الروح ، واستطاع بصدقه ودموعه وشجونه ولوعته أن يرسم لنا لوحةً صادقةً عن العرفان الهادف ، والتصوف الصادق ، والاتصال المسؤول الذي يهفو إلى السماء ولا ينسى الاَرض ، ويسأل الله سعادة أهل الآخرة ، ولا ينسى شقاء أهل الدنيا ، ويطلب رضا الخالق فيما يناشد ضمائر المخلوقين..


نعم ، جاءت أدعية الامام زين العابدين عليه السلام لمواجهة موجات الرخاء والهبوط التي تعرّض لها المجتمع الاسلامي في بداية الحكم الاموي ، فقام عليه السلام بما امتلكه من بلاغة فريدة وقدرة فائقة على استخدام اللغة ، وذهنية ربانية تفتّقت عن أعذب المعاني وأروعها في تصوير صلة الانسان بخالقه وهيامه به ، وانشداده بالمبدأ والمعاد ، فأوجد من خلال الدعاء فضاءً روحياً عظيماً لابناء المجتمع الاِسلامي استطاع بواسطته تثبيت الانسان المسلم وشدّه بالسماء وخاصة حين تعصف به المغريات وتجرّه إلى الارض.


فكان عليه السلام يخطب الناس في مجلسه كل جمعة ، يعضهم ويزهّدهم في الدنيا ، وهو سيد الزاهدين ، ويُرغّبهم في الآخرة وهو أشدّ الراغبين ، ويقرع أسماعهم بتلك اللوحات الفنيّة البالغة التأثير التي مثّلت بحق العبودية الخالصة لله تعالى ، فضلاً عن كونها عملاً اجتماعياً عظيماً فرضته ضرورة المرحلة التي كان يمرّ بها ، حتى أضحت تلك الادعية تراثاً ربانياً فريداً للسالكين طريق الله ، ومصدر عطاء وهداية لكلِّ من ينشد الحق ويرغب في معرفة الله حقّ معرفته ، إضافة إلى كونها دروس أخلاق وتهذيب ، سيظل أهل الدنيا ينهلون من معينها العذب ما دام هناك صراع بين قوى الخير وقوى الشرّ ، أو بين مثابات الهدى ومعسكرات الضلال...


وهكذا نسمعه عليه السلام في فصاحته وبيانه وبلاغته ، له في كل صباح ومساء دعاء ، وله في المهمّات دعاء ، وفي الاعترافات والظلامات دعاء ، وعند المرض والعافية دعاء ، وعند الشدّة والفزع دعاء ، وعند ذكر الموت وسماع الرعد والرهبة دعاء ، وفي استقبال شهر رمضان المبارك وتوديعه دعاء ، وعند ختم القرآن ويوم عرفة وأيام الاسبوع دعاء ودعاء ، وهكذا في كل موقف وموطن وفي كلِّ نبضة قلب ورمشة جفن ، وكأنه قطعة من كيانٍ وجزءٍ من كلِّ ، لا ينقطع ولا يكلّ ولا يملّ ، حتى يقول :


« يا إلهي لو بكيت إليك حتى تسقط أشفار عيني ، وانتحبتُ حتى ينقطع صوتي ، وقمت لك حتى تنتثر قدماي ، وركعتُ لك حتى ينخلع صلبي ، وسجدتُ لك حتى تتفقأ حدقتاي ، وأكلتُ تراب الارض طول عمري ، وشربتُ ماء الرماد آخر دهري ، وذكرتك في خلال ذلك حتى يكلُّ لساني ، ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياءً منك ، ما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتي...


فارحم يا ربِّ طول تضرّعي وشدة مسكنتي وسوء موقفي ، واستعملني بالطاعة ، وارزقني حُسن الاِنابة ، وطهرني بالتوبة ، وأيّدني بالعصمة ، واستصلحني بالعافية ، وأذقني حلاوة المغفرة ، واجعلني طليق عفوك ، وعتيق رحمتك ، واكتب لي أماناً من سخطك ، وبشرني بذلك في العاجل دون الآجل ، إنّك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد ، وإنك على كلِّ شيء قدير... » .


إذن ، وباختصار شديد وبكلمات أكثر تفصيلاً يمكن القول ان الصحيفة السجادية التي تركها الامام زين العابدين عليه السلام جاءت لتشكّل مساحة منهجية رائدة وكبيرة ، بكبر القضية التي انتُدب لها أولاً ، وبحجم دوره عليه السلام في ريادة هذه القضية وتوجيهها وتعميقها في نفوس الناس ثانياً.


نعم ، جاءت هذه الصحيفة لتكون شوطاً آخر من أشواط الجهاد الذي قطع مشواره المرّ الطويل هذا الامام العظيم في تبيئة المفهوم الاِسلامي ـ كما يقولون اليوم ـ وتأصيل جذوره في الاُمّة والمجتمع بعدما انكمش دوره في دائرة القوالب المشوّهة التي صاغها الاَمويون ، وداسوا القيم العظيمة التي جاء من أجلها بل لاَجلها النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، واستشهد لاَجلها سيد الشهداء عليه السلام .


جاء الامام السجاد في صحيفته هذه ليمزج العاطفة بالوجدان ، والقلب بالعقل ، ويحمل الجميع إلى الحقيقة الاِلهية المتعالية بلا رتوش أو أصباغ أو قوالب يتماهى معها أدعياء هذه الحقيقة فيستغرقون ويُغرقون الناس معهم في مفاهيم غائمة لا مصاديق لها ، أو يغوصون في عبارات سائبة عائمة لا تستقر في قعر ولا تركن إلى حصنٍ منيع.


ونكتفي بالاِشارة ، والاِشارة فقط إلى بعض مضامين دعائه التي لم تحلّق في السماء فقط ، وإنّما نزلت إلى الاَرض تقارع الظالمين وتنتصر للمظلومين ، تستنهض الهمم وتدعو لتحكيم دين الله ، ولم تكتفِ ، بل لم تجنح إلى « التهويمات » التي يطير فيها بعض المتصوفين ممن لا علاقة لهم بالناس ، ولا وشيجة لهم مع أُمّة أو مجتمع...


وسنتناول فيما يلي ثلاثة مضامين تناولها الامام عليه السلام وسعى إلى ترسيخها في أذهان الاُمّة ، وقد تمثّلت في العقائد والاَخلاق وأخيراً المضمون العبادي الذي يعطي العبادة دورها الفعّال والحيوي في إحياء المجتمع وتزكيته ، وهذه تُعدُّ من أهم ركائز المجتمع الاِسلامي:



1 ـ المضامين العقائدية:


ولعلَّ أول ما يطالعنا في هذا السفر الخالد هو قدرة الامام زين العابدين عليه السلام الفائقة على تجسيد العلاقة بين العبد وربّه ، أو بين الخالق والمخلوق ، وباسلوب أدبي رفيع ومناجاة عذبة صادقة يصدق أن يُقال فيها ما قيل في أقوال جدّه علي بن أبي طالب عليه السلام أنّها تحت كلام الخالق وفوق كلام المخلوق فعلاً..


لنستمع قليلاً إلى بعض ما جاء في هذه الاَدعية : « الحمدُ لله الذي خلق الليل والنهار بقوته ، وميّز بينهما بقدرته ، وجعل لكلِّ واحدٍ منهما حدّاً محدوداً وأمداً ممدوداً... اللهمَّ فلك الحمدُ على ما فلقت لنا من الاِصباح ، ومتّعتنا به من ضوء النهار ، وبصّرتنا فيه من مطالب الاَقوات ، ووقيتنا فيه من طوارق الآفات... » .


ويرسم الامام لنا لوحةً اُخرى عن عظمة الخالق سبحانه ، وكيف أنّه جلَّ وعلا أكبر ، ولكنّه أكبر من كلِّ كبير ، وليس أكبر من كلِّ صغير ، وأنّه عزَّ وجلَّ أعلى ، ولكنّه أعلى من كلِّ عالٍ أو متعال وليس أعلى من كلِّ مسكين واطىء ضعيف...


فيقول عليه السلام : « الحمدُ لله الذي تجلّى للقلوب بالعظمة ، واحتجب عن الاَبصار بالعزة ، واقتدر على الاَشياء بالقدرة ، فلا الاَبصار تثبُت لرؤيته ، ولا الاَوهام تبلغ كنه عظمته. تجبّر بالعظمة والكبرياء ، وتعطّف بالعز والبر والجلال ، وتقدّس بالحُسن والجمال ، وتمجّد بالفخر والبهاء ، وتهلل بالمجد والآلاء ، واستخلص بالنور والضياء. خالق لا نظير له ، وواحد لا ندّ له ، وماجد لا ضدّ له ، وصمد لا كفو له ، وإله لا ثاني له ، وفاطر لا شريك له ورازق لا معين له ، والاَول بلا زوال ، والدائم بلا فناء ، والقائم بلا عناء والباقي بلا نهاية ، والمبدئ بلا أمد ، والصانع بلا ظهير ، والرب بلا شريك.. ليس له حدّ في مكان ، ولا غاية في زمان ، لم يزل ولا يزول ولن يزال ، كذلك أبداً هو الاِله الحي القيوم الدائم القديم.. » (8).


أما توحيد الباري جلّ وعلا فإنّ الامام عليه السلام يصبّه في قالب دعاء يوجّه من خلاله الاِنسان بهدوء وبساطة إلى وحدانية الله تبارك وتعالى من خلال استقراء ظواهر طبيعية حسيّة هي مع الاِنسان في وجوده ، يحملها معه في كلِّ آن ، ولا يستغني عنها لحظة..


فيقول في ذلك : « إلهي بدت قدرتك ولم تبدُ هيئة جلالك ، فجهلوك وقدّروك بالتقدير على غير ما أنت به ، شبهوك وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك شيء إلهي ولم يدركوك ، وظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك لو عرفوك ، وفي خلقك يا إلهي مندوحة عن أن ينالوك بل ساووك بخلقك ، فمن ثمَّ لم يعرفوك ، واتخذوا بعض آياتك ربّاً ، فبذلك وصفوك ، فتعاليت يا إلهي عمّا به المشبّهون نعتوك » (9).



2 ـ المضامين الاَخلاقية :


لاشكّ أن المتدبّر في أدعية الصحيفة السجادية سوف يجد آثاراً واضحة تتركها مجمل أدعيته عليه السلام على طبيعة سلوكه بشكل عام. فإنّه عليه السلام قد ضرب أروع الاَمثلة في الخلق الاِسلامي الرفيع ، وجسّد الشخصية الاِسلامية المثالية..


وهكذا سعى عليه السلام إلى الارتفاع بالنفس المؤمنة في مدارج الكمال عبر بلورة المفاهيم الاَخلاقية التربوية من خلال نسجهما بشكل دعاء فيه من الضراعة والخشوع لله تعالى واستمداد العون منه في شحذ النفس بالتعلق بأخلاق السماء ، والتعالي عن كل وضيع ، والارتفاع عن كلِّ دنيء.


ولقد أرسى الامام عليه السلام عبر أدعيته في مختلف مظانها مناهج التغيير الذاتي ، بمحاكاته العقل والوجدان الاِنساني وتربيتهما رسالياً ، وهذه مهمة الاَنبياء والمصلحين الاِلهيين الكبار ، فهي إلى جانب شدّ الاِنسان وربطه بالسماء ، تجعله في الاَرض بؤرة خير ورحمة ، شديد البأس في ذات الله لا يرضى بظلم ، ولا يرضخ إلى باطل ، قوي العزيمة ، وإنّك لتلمس هذا المنهج بين ثنايا دعائه عليه السلام في مكارم الاَخلاق ومرضي الاَفعال..


ففي هذا الدعاء ـ مثلاً ـ نلتقي بقوله عليه السلام وهو ينشدُّ إلى أعماق الاَرض ، بقدر انشداده إلى آفاق السماء ، ويغوص في عمق الاِنسان فيما هو غارق في عمق العرفان ، فنسمعه يقول : « وأجرِ للناس على يدي الخير ، ولا تمحقه بالمنّ ، وهب لي معالي الاَخلاق ، واعصمني من الفخر. اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد ولا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها ، ولا تُحدث لي عزّاً ظاهراً إلاّ أحدثت لي ذلّةً باطنةً عند نفسي بقدرها.. » .


فالكلمات التي يعرضها الامام السجاد عليه السلام هنا ـ كما في غيرها ـ تعبّر تعبيراً دقيقاً عن منهج سلوكي عظيم غارقٍ في الشفافية والروح من جهة ، ومستغرقٍ في الفكر والواقع من جهة اُخرى ، فكما أنّه ارتباط عاطفي شديد الصلة متين الانشداد بربِّ العزّة تبارك وتعالى ، ولكنّه من زاوية اُخرى عميق الغوص في الجانب التربوي والاَخلاقي والمعرفي الذي لايكتفي صاحبه خلاله بالعرفان المجرّد و (تهويماته) الجميلة ، بل يسحبه إلى الواقع المعاش بكلِّ تفاصيله وخيوطه ونسيجه المعقّد.


« ولا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها » وهذه أسمى وأرفع سبل تربية الذات ، ودحض الاَنا ، وتجاوز الكبر ، والاِجهاز على كل أشكال الغرور والهوى والغطرسة الذاتية.


وبكلمة اُخرى استطاع الامام السجاد عليه السلام بهذه العبارة أن يواجه بُعدين ، كلّ منهما سيف ذو حدّين : بُعد الذات التي هي ألدُّ أعداء المرء (10)من جهة ، وهي كرامته وكبرياؤه وعزّته من جهة اُخرى ، وبُعدُ الناس الذين هم ميزان العلاقة ومعيار إنسانية الاِنسان من جانبٍ ، وهم الهمج الرعاع الذين يصعب إرضاؤهم وربما يستحيل (11) من جانب آخر...


وهذا يعني أنّه لم يختفِ أو يحاول الاختفاء ، وراء النص ، كما يفعل الكثيرون ، ولم يحاول التخلّق بأخلاقٍ عالية ربما يكون شعارها النص ومضمونها المخاتلة به والتماهي معه ، وإنّما أراد أن يكون شعاره وخلقه ، نصّه ومضمونه ، متوازنين لا تطغى فيه كفّة على اُخرى ، ولا زعم على واقع ، أو واقع على ادّعاء.


وهكذا ، ومن هذا النص وغيره ، وكما يقول بعض المحللين لشخصية الامام السجّاد عليه السلام ، إنّه استطاع في الظروف العصيبة التي عاشها عليه السلام أن يوظّف كل الجهود الممكنة وفي منهج إحيائي حركي لتعميم الثقافة الاِسلامية المطلوبة ، وإشاعة التفكير الاِسلامي السليم ، أي عبر الدعوة للتفكير الصحيح من خلال الدعاء الذي ورد في هذه الصحيفة التي تنوّعت أبعاده وتعددت آفاقه ليشكل بمجموعه منهجاً كاملاً يأخذ طابع المدرسة الشاملة والثقافة الشمولية المتكاملة التي تملأ كل الفراغات وتغطي كل الثغرات في جسم المجتمع الاِسلامي والنموذج المسلم.


فهو ، من جانب ، يغوص في أعماق النفس الاِنسانية مدغدغاً أدقّ نوازعها محلحلاً بواطنها ومكنوناتها ، كابحاً لشططها وطيشها وشطحاتها « لا ترفعني... إلاّ حططتني... » وهو من جانب آخر يسعى إلى توضيح وتيسير المفاهيم الاِسلامية العامّة ، وبالتالي استيعاب حاجات الفرد المؤمن المادية والروحية ، وصولاً لاحتواء متطلبات المجتمع المسلم المادية والروحية أيضاً ، وبدون ابتسار أو تعسف أو اختزال..


وهكذا في العشرات بل المئات من المقطوعات المأثورة والبيانات الصريحة التي تعبّر عن اندكاكه بهموم الاُمّة ولوعته في مناشدة الضمائر الحيّة لمقارعة أهل الظلم والجور أياً كانوا وحيثما وجدوا.


فمما روي عنه عليه السلام قوله : « يامن اتقيتم سلطان الاَرض ، ألا تتقون سلطان السماء ؟ يامن أرهبكم عذاب الدنيا ، ألا ترهبون عذاب الآخرة ، إذ الاغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ؟ » .


« أتخشون ملكاً تعصونه مرّة ولا تخشون ملك الملوك ، وأنتم في كلِّ يوم له عاصون ؟ » .


« اللهمَّ من تهيأ وتعبأ واستعد لوفادة إلى مخلوق رجاء رفده ونوافله وطلب نيله وجائزته ، فإليك يامولاي كانت اليوم تهيئتي وتعبئتي وإعدادي واستعدادي رجاء عفوك ورفدك وطلب نيلك وجائزتك... » (12).



3 ـ المضمون العبادي :


ومما يؤكد حرص الامام على إنزال الدعاء من السماء إلى الاَرض ، وشدّه بين واجبات الاِنسان على الاَرض وتطلّعه نحو السماء ، إنّه لم ينفكّ يدعو إلى التواصل والجمع بينهما من أجل توفير الحالة الدينية المسؤولة ، وتعبئة الاُمّة لحفظ هذا التواصل وإذكاء جذوته وإبقائه في نفوس الناس...


فلا يكاد المرء يستمع إلى مواعظه إلاّ ويستشعر نكهتها التربوية والاجتماعية والسياسية ، ودورها في تهذيب النفوس وتنقيتها ، فهي من جانب تدعو إلى التسامي والترفّع ، ومن جانب آخر إلى التصدّي للظالمين والثورة عليهم ، وتؤكد كذلك على مسؤولية الاِنسان في هذه الحياة الدنيا ودوره فيها.. الاَمر الذي يعطي العبادة دورها في إحياء المجتمع والفرد من خلال فتح الاَبواب إلى مضامينها وأهدافها التي قد لا يدركها إلاّ القليل ممن تذوّق روح الشريعة الاِسلامية وأبصر أبعادها.


يقول عليه السلام وعلى سبيل المثال لا الحصر :


1 ـ « أصبحت مطلوباً بثمان : الله يطالبني بالفرائض ، والنبي بالسُنّة ، والعيال بالقوت ، والنفس بالشهوة ، والشيطان باتّباعه ، والحافظان بصدق العمل ، وملك الموت بالروح ، والقبر بالجسد.. فأنا بين هذه الخصال مطلوب... » (13) .


2 ـ « أيُّها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا ، المائلون إليها ، المفتونون بها ، المقبلون عليها ، احذروا ما حذّركم الله منها ، وازهدوا في ما زهّدكم الله فيه منها ، ولا تركنوا إلى مافي هذه الدنيا ركون من أعدّها داراً وتوهّمها قراراً... » (14).


3 ـ وقال عليه السلام واصفاً أهل الدنيا ، مصنّفاً لهم : « الناس في زماننا ستّ طبقات : أُسد وذئاب وثعالب وكلاب وخنازير وشياه : فأما الاُسد فملوك أهل الدنيا ، يحبّ كلّ واحدٍ منهم أن يَغلِب ولا يُغلَب ، وأما الذئاب فتُجّاركم يذمّون إذا اشتروا ، ويمدحون إذا باعوا ، وأما الثعالب فهؤلاء الذين يأكلون بأديانهم ، ولا يكون في قلوبهم ما يصفون بألسنتهم ، وأما الكلاب فيهرّون على الناس بألسنتهم ، فيكرمهم الناس من شرّها ، وأما الخنازير فهؤلاء المخنّثون وأشباههم لا يُدعون إلى فاحشةٍ إلاّ أجابوا... ، أما الشياه فهم المؤمنون الذين تجزّ شعورهم ، وتؤكل لحومهم ، وتُكسر عظامهم... » .


ثمّ يتساءل متوجّعاً متألماً مشفقاً على المؤمنين : « فكيف تصنع الشاة بين أسد وذئب وثعلب وكلب وخنزير... » (15).


ويقول مخاطباً أصحابه وشيعته :


4 ـ « ... أيُّها الناس ، اتقوا الله ، واعلموا أنكم إليه راجعون ، فتجد كلّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً... ويحذّركم الله نفسه... ويحك ابن آدم ، إن أجلك أسرع شيء إليك ، ويوشك أن يدركك ، فكأنك قد أوفيت أجلك ، وقد قبض الملك روحك ، وصُيّرت إلى قبرك وحيداً... فان كنت عارفاً بدينك متّبعاً للصادقين ، موالياً لاَولياء الله ، لقّنك الله حجتك ، وأنطق لسانك بالصواب ، فأحسنت الجواب ، وبُشّرت بالجنّة والرضوان من الله ، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان ، وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك ، ودُحضت حجتك ، وعييت عن الجواب وبُشرت بالنار ، واستقبلتك ملائكة العذاب بنُزُلٍ من حميم ، وتصلية جحيم.. » (16).


ولعلّ أروع مادوّنه الامام السجاد في معرفة النفس الاِنسانية وسبره أغوارها وتفريقه بين زيفها وصدقها ، وكشفه الفاصلة بين الواقع والادعاء ، والظاهر والباطن ، هو المقطوعة البليغة التالية :


5 ـ « إذا رأيتم الرجل قد حسُنَ سمتُه وهديه ، وتمادى في منطقه وتخاضع في حركاته ، فرويداً لا يغرنكم ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام فيها ، لضعف بنيته ومهانته وجبن قلبه ، فنصبَ الدين فخاً له ، فهو لا يزال يُختل الناس بظاهره ، فإنّ تمكن من حرام اقتحمه ، وإذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام فرويداً لا يغرّنّكم ، فإنّ شهوات الخلق مختلفة ، فما أكثر من يتأبّى من الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة ، فيأتي منها محرماً ، فإذا رأيتموه كذلك ، فرويداً حتى لا يغرّنّكم عقده وعقله ، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثمّ لا يرجع إلى عقل متين ، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله... فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغرنكم حتى تنظروا أيكون هواه على عقله ، أم يكون عقله على هواه ؟ وكيف محبته للرياسة الباطلة وزهده فيها ؟ فإنّ في الناس من يترك الدنيا للدنيا ، ويرى لذّة الرياسة الباطلة أفضل من رياسة الاموال والنعم المباحة المحللة ، فيترك ذلك أجمع طلباً للرياسة ، حتى إذا قيل له اتق الله أخذته العزّة بالاثم فحسبه جهنم وبئس المهاد... فهو يحلّ ما حرم الله ، ويحرم ما أحلَّ الله لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرياسة التي قد شقي من أجلها ، فاولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً أليما... » (17) .


هكذا كان الامام عليه السلام في تشخيصه لنوازع وزوايا النفس البشرية المعتمة.. وهكذا كان دعاؤه وعبادته ومواعظه.. غوص بارع في العمق ، وتضميد هادىء للجرح ، اشارة دقيقة مركّزة هنا ، واسترسال هادف هناك ، ينتزع أدقّ الاشواك ، ويداعب أغلظ الاوتار ، ويقطع الطريق على أكثر المرائين قدرةً على التمثيل والتنطّع والرياء . .






الهوامش:
1- الإمام زين العابدين - عبد الرزاق المقرّم : 42 .
2- مناقب آل أبي طالب 4 : 178 .
3- مناقب آل أبي طالب 4 : 163 عن الاصمعي اللغوي النحوي صاحب النوادر والملح ، عن الكنى والألقاب 2 : 37 ـ 40.
4- الصحيفة السجادية الجامعة : 131 دعاء رقم (65) .
5- معاني الأخبار - الصدوق : 24 .
6- الصحيفة السجادية - الإمام زين العابدين دعاء ( 7 ) .
7- سورة النور : 24 - 62 .
8- الصحيفة السجادية الجامعة : 21 و 25- الدعاء 2 و 7.
9- الصحيفة السجادية الجامعة : 22 دعاء (3).
10- كما روي في الحديث الشريف : « ألدُّ أعداء المرء نفسه التي بين جنبيه » .
11- ( رضا الناس غايةٌ لا تدرك ).
12- الصحيفة السجادية الكاملة ، دعاؤه يوم الاَضحى ويوم الجمعة.
13- أمالي ابن الشيخ : 410.
14- تحف العقول : 252.
15- الخصال للشيخ محمد بن علي الصدوق : أبواب السنة ، الحديث الاَخير فيها.
16- تحف العقول : 249 ـ 252. وأمالي الطوسي : 301. وروضة الكافي : 160. وأمالي الصدوق : 356.
17- تنبيه الخواطر : 316. والاحتجاج 2 : 175.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع