شارك هذا الموضوع

الدمعة الأخيرة ، بقلم السيد بدر

كان لقائنا الأول في مدينة لندن والذي كنت أنتظره لما نقل لي عنه من قبل بعض الأخوة، كان مختلفا، وجههه أسمر .. لحيته كثيفة على جبهته آثار السجود


قلت لنفسي .. إن هذا الرجل يكمن فيه شييء كبير أهداني شيئا من نظراته الثاقبة فشعرت أن هاتفا قد طرق باب قلبي واستحوذ على جزء كبير منه .. لحقها بابتسامة شقت وجهه نصفين قمريين ، فكانت حناناً أبوياً .. تجاذبنا أطراف الحديث


فتسائلت كيف لإنسان .. أثقلته الهموم في ظرف حالك، أن يسع صدره لحديث يستهدف زرع حب الله في الآخرين؟


هناك من البشر من صقلتهم الحياة وصنعهم الإرتباط بالله فيجعلون كل لحظة عبادة ودعوة إلى المحبوب لم يكن الوقت يتسع لكثير من التعاطي معه فكان في أعلى الأولويات على أجندة المهام للأسبوع القادم


خرجت وفي نفسي كثير من التساؤلات من هذا الرجل؟


قال لي زميلي .. أراك منشغل التفكيرِ


قلت بل إن فكري في أسمى لحظاته قال كيف؟


قصصت عليه .. بعد أسبوع .. سرنا معا لاكتشاف بعضا من أسرار اللغز الجديد الذي أصبح لغزنا معا. .


وصلنا إلى صاحبنا


كان يستعد لصلاته .. والتي اكتشفت فيما بعد بأنها أحلى لحظاته .. وأعذب معاني التعلق القلبي عنده، فهو يسموا عند اللقاء .. فلا تسمع له إلا توسلا من قلب قد عرف معنى العبادة .. وخضوعا يستشعر رقابة الله عز وجل على الخلائق أجمع .. صلينا خلفه


استرسل في حديث عن حب الله .. وأطنب عن آثار المعصية علي سلوك الفرد والمجتمع وأسهب في معاني الصلاة ..


وكنا نستقبل كلماته بشغف كبير مازالت عباراته تتردد في أذني كلما تذكرت تلك اللحظات


سألته هل هذه زيارتك الأولى لهذه المدينة؟


رد قائلا .. ربما تكون الأخيرة .. ما رأيك بها ، قال .. نستطيع أن نأخذ منهم الكثير كالعلم والنظام لكنهم أناس ابتعدوا عن الله كثيرا، إني لا أرى أمامي إلا وحوشا ضارية في شكل الآدميين قد تعلقوا بلذائذ الدنيا الفانية .. إنه الضياع .. والإصرار على المكوث في الظلام رغم انكشاف الحقيقة وبزوغ شمس الحق .. أنت عندما تكون قائما بين يدي الله عزوجل في حلكة الليل بينما يرقد الآخرون على نغم المعصية حينها تكون أقرب إلى الله تعالى


إن بطني يتضور جوعا ،ألا تشعر بالجوع؟


قال .. بعض الشيء


قلت ما رأيك لو دعوتك على وجبة لذيذة؟


قال .. بل أنا من يدعوك رغم أنه ليس من عادتي .. إلا أن الفضول جعلني أقبل دعوته


أخذني إلى زاوية من الغرفة أخرج بعضا من قطع الخبز اليابس "الهش" ثم قدمه إلي مع الماء وقال هكذا تقوى .. وهكذا تسموا وكان هذا طعامه في أكثر الأوقات ..


ومن باب الطرفة .. يروي الشيخ أبو تقى الدرازي أنه قدم هذه الخبزات إلى أحد المؤمنين فتناولها وقال ما هذا الطعام؟ حتى الإمام علي "ع" لم يكن يأكل هذا ولعلي كنت من السعداء أن حظيت بمشاركته في هذا الطعام فلقد كان يصوم معظم الأيام .. وهو مصداق للحديث الشريف "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لانشبع"


في إحدى الليال بعد أن هدأت العيون وخلد الآخرون إلى النوم بعد يوم مجهد تسللت خلسة متعقبا صاحبنا .. صلى الليل كعادته تحركت شفتاه بكلمات لم أسمعها استلقى على قفاه . . فقلت .. لعله سيخلد للنوم خطوت خطوات نحوه لا .. لا .. لم ينته بعد من عبادته لازالت شفتاه تلهجان بذكر الله أشعلت الأنوار .. رأيته يبكي بعد صلاته .. وقد أغرورقت عيناه بالدموع ياله من رجل .. إنها من صفات المتقين وكما قال شاعرنا يدعون ربهمُ في فك عنقهمُ من رق ذنبهم والدمع ينهملُ نحفُ الجسوم فلا يُدرى إذا ركعوا قُسِي نبلٍ همُ أم رُكعٌ نبلُ


ويروي الشيخ أبو تقى أيضا .. أنه في أحد الليال في رحاب الحرم الزينبي أصيب بحمى شديدة .. لم يكن يقوى على المشي أعانه صاحبه لبيت الخلاء .. أرجعه إلى فراشه .. فإذا به يقوم ليصلي الليل فقال .. عجيبٌ أمرُ هذا الإنسان إنه مريض لا يقوى على المشي لكنه لم يترك صلاة الليل تلك


كانت الدموع الأخيرة


حيث رحل عن مدينة لندن متوجها إلى مكان آخر .. ولم أره إلا محمولا على النعش


طوبا لك ياغريب طوبا لك من شهيد رغم العناء الذي كان يمر به والواقع المرير الذي كان سائداً آنذاك .. إلا أنه لم يتحدث عن نفسه كثيرا فقد أوقف لسانه للدعوة إلى التقوى ومحاربة المغريات يبقى صامتا يستمع إلى الآخرين ولكن وراء ذلك الصمت .. تقوى وإيمان راسخين وتعلق بالله


لا ينطق إلا إذا تطلب الأمر ذلك .. وإن فعل كان بما يرضي الله تعالى طلب السيد محمد الموسوي .. وهو أحد العلماء العاملين في الهند طلب مبلغا يسعفه على الدعوة إلى الله تعالى وقع الأختيار على أستاذنا الاسكافي مضى بعض الوقت اتصل السيد محمد الموسوي إلى الشيخ أبو تقى ..


وقال من أين أتيت بهذا الرجل؟ من أين لكم هذا الإنسان الفريد؟


أنا لم أر رجلا ذا تقوى ودين وورع مثله


نعم .. هكذا كان .. وهكذا انكشف لنا جميعا .. إحقاق متقن لمعاني التقوى .. ترفع صادق عن المغريات اسهام مستمر لبناء الإنسان .. حب في الله وتفان من أجل خدمة الآخرين وترجمة عملية للإنسان الواعي والعابد المخلص .. لقد كان أمةً في رجل ويروي الشيخ أبو تقى أنه استلم رسالة من الأستاذ أحمد يروي فيها رؤيا يقول .. رأيت في المنام رؤيا .. أني أعود إلى البلد وتكون عودتي في وقت متأخر من الليل .. أدخل على أهلي على حين غرة أطرق الباب فتخرج لي زوجتي .. وتسألني .. أين كنت كل هذا الزمن؟ فلا أستطيع الرد على سؤالها ..


قول الشيخ أبو تقى بسبب تأخر البريد في الهند وسوريا .. جأئتنا الرسالة بعد شهر من كتابتها ونحن نقرأ القرآن على روح الأستاذ أحمد فقلت .. هي الرؤيا قد تحققت ويواصل الشيخ والألم يعتصره


لقد توفي والداي وأنا في الغربة .. ولم أبكي ولكني بكيت بكاء الأطفال لفقدي الأستاذ أحمد الاسكافي.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع