تشير المصادر التي تناولت حياة الإمام الحسين (عليه السلام) وثورته العظيمة إلى أسباب اختياره العراق دون غيره من أقاليم العالم الإسلامي للهجرة وانطلاق الثورة من صميم أراضيه فتقول: لقد كان العراق قلب الدولة الإسلامية النابض، بزّ سائر الأمصار في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع وقد تهافت عليه جميع الثائرين ليتخذوه منطلقاً لأهدافهم السياسية، والكوفة كانت البلد الوحيد في الأقطار الإسلامية التي تفقه قيم الأحداث ومغزى التيارات السياسية فقد ساد فيها الوعي إلى حد كبير وقد كان الكوفيون يفرضون آراءهم على حكامهم وإذا لم يحققوا غاياتهم سلّوا في وجوههم السيوف وثاروا عليهم، وكانت (الكوفة) أيضاً مهداً للشيعة وموطناً من مواطن العلويين وقد أعلنت إخلاصها لأهل البيت (عليهم السلام) في كثير من المواقف، وكانت المقرّ الرئيس لمعارضة الحكم الأموي، فقد كان الكوفيون طوال فترة حكم بني أمية لم يكفوا عن معارضتهم ويتمنون زوال دولتهم.
وربما يأتي رابع الأسباب لاختيار الإمام العراق مهجراً وهو سبب مهم جداً ويتمثل بالدعوات الملحة، والإصرار البالغ من الأغلبية الساحقة من أهل الكوفة للقدوم حتى في زمن معاوية فقد توافدت على الإمام (عليه السلام) آلاف الكتب وهي تحثه على المسير إليهم وتحمله المسؤولية أمام الله والأمة أن تأخر عن إجابتهم لاسيما بعد أن كتب إليه سفيره مسلم بن عقيل يخبره باجتماع الناس على بيعته وتطلعهم إلى قدومه.
ولعل من الأسباب كذلك أن الإمام لو نزح إلى قطر آخر غير الكوفة فأن الجيش الأموي لابد أن يلاحقه ولابد أن يستشهد فيتجه له اللوم والتقريع ويقال له لماذا لم تتجه إلى العراق البلد الذي يضم أنصارك وشيعتك وقد بعث إليك أهله آلاف الرسائل والكتب.
إذ أن هذه الأسباب وغيرها جعلت الحسين (عليه السلام) يختار أرض العراق مهجراً له ومركزاً لانطلاق ثورته العملاقة التي غيرت مجرى التأريخ وبقيت خالدة تستلهم منها الأجيال دروس التضحية والفداء من أجل المبدأ الحق.
ولما أذيع تصميم الحسين (عليه السلام) وعزمه على مغادرة الحجاز والتوجه إلى الكوفة أشفق عليه جماعة من أهل بيته وشيعته كما أظهر له الإخلاص رياء بعض ذوي الأطماع السياسية كعبد الله بن الزبير والأشدق الذي أشفق عليه بالخروج خوفاً من انهيار الحكم الأموي وقد حذروا الإمام وخافوا عليه من انقلاب أهل الكوفة عليه وغدرهم كما غدروا بأخيه من قبل كما ندد بخروجه جماعة من أذناب السلطة وعملائها وقال بمثل مقالتهم جماعة من المنحرفين عن أهل البيت (عليهم السلام)، وشجبوا إعلانه الجهاد لأن فيه تصديعاً للحكم الأموي الذي كانوا ينعمون بخيراته وصلاته.
الخروج من المدينة:
وقبل خروجه من المدينة كتب الحسين (عليه السلام) وصية جاء فيها:
وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن رد علي هذا أصبر حتى يفضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين).
وغير خافٍ مغزى السبط المقدس من هذه الوصية فإنه أراد الهتاف بغايته الكريمة من نهضته المقدسة وتعريف الملأ نفسه ونفسيته ومبدأ أمره ومنتهاه ولم يبرح يواصل هذا بأمثاله إلى حيث شهادته دحضاً لما كان الأمويون ومن لفّ لفّهم يموهون على الناس بأن الحسين خارج على خليفة الوقت يريد شق عصا المسلمين وتفريق الكلمة واستهواء الناس إلى نفسه، لنهمة الحاكمية وشره الرئاسة تبريراً لأعمالهم القاسية في استئصال آل الرسول ولم يزل (عليه السلام) مترسلاً كذلك في جميع مواقفه هو وآله وأصحابه حتى دحروا تلكم الأكذوبة ونالوا أمنيتهم في سيرهم ومصير أمرهم.
هكذا وبعد وداع حافل بالشكاية والحزن وحديث طويل ذي شجون بين الحسين وقبر جده النبي (صلى الله عليه وآله) وتعهد بتنفيذ الواجب وتحقيق النبؤة ببذل الدم الطاهر لإعادة البشرية إلى طريق الاستقامة وتوضيح مقاصد الدين الحنيف وإبقاء جذوة تعاليمه إلى يوم القيامة ولتجد كلمة حسين مني وأنا من حسين حيزها التطبيقي فيكون الدين محمدي الوجود حسيني البقاء، كان الخروج من المدينة، نحو مكة ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب ومع الحسين بنوه واخوته وبنو أخيه الحسن (عليه السلام) وأهل بيته وهو يقرأ (فخرج منها خائفاً يترقب قال ربّ نجني من القوم الظالمين) ولزم الطريق الأعظم فقيل لو تنكبت الطريق كما فعل ابن الزبير كي لا يلحقك الطلب قال لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاضٍ.
في مكة:
ودخل مكة يوم الجمعة لثلاث مضين من شعبان وهو يقرأ (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) فنزل دار العباس بن عبد المطلب واختلف إليه أهل مكة ومن بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير ملازم جانب الكعبة ويأتي إلى الحسين فيمن يأتيه وكان ثقيلاً عليه دخول الحسين مكة لكونه أجل منه وأطوع في الناس فلا يبايع له مادام الحسين فيها.
وخرج (عليه السلام) في بعض الأيام إلى زيارة قبر جدته خديجة فصلى هناك وابتهل إلى الله كثيراً.
وأول ما أقدم عليه الحسين (عليه السلام) في مضمار التهيئة والإعداد للثورة هو أنه كتب نسخة واحدة إلى رؤساء الأخماس بالبصرة يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه (فإن ألسنه قد أميتت والبدعة قد أحييت)، فإن تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد.
وقد أجابه بعضهم أن أقدم سعدت بأسعد طائر بينما سلم بعضهم رسوله إلى ابن زياد فصلبه، وبعض آخر كتب إلى الحسين (عليه السلام) قائلاً: أما بعد فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون.
ثم وافته كتب أهل الكوفة من الرجل والاثنين والثلاثة والأربعة يسألونه القدوم عليهم لأنهم بغير إمام ولم يجتمعوا مع النعمان بن بشير واليهم في جمعة ولا جماعة وتكاثرت الكتب حتى ورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب واجتمع عنده من نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب وفي كل ذلك يشددون الطلب وهو لا يجيبهم، وآخر كتاب ورد عليه من جماعة بينهم شبث بن ربعي وحجار بن أبجر، وفيه: أن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل يا ابن رسول الله فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار فأقدم إذا شئت فإنما تقدم على جند لك مجندة.
ولما أجتمع لدى الحسين (عليه السلام) ما ملأ خرجين، كتب إليهم كتاباً واحداً دفعه إلى هاني ابن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي وكانا آخر الرسل ومما جاء فيه (ما الإمام إلا العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله). ثم دفع بالكتاب إلى مسلم بن عقيل ووجهه إلى أهل الكوفة ودخل مسلم الكوفة، لخمس خلون من شوال ونزل دار المختار بن أبي عبيد الله الثقفي وكان شريفاً في قومه كريماً عالي الهمة ومن شيعة أهل البيت (عليه السلام) ووافت الناس مسلماً بالترحيب وأظهروا له الطاعة والانقياد ما زاد في سروره وابتهاجه وقرأ عليهم كتاب الحسين (عليه السلام) وأقبلوا يبايعونه حتى أحصى ديوانه ثمانية عشر ألفا وقيل خمساً وعشرين ألفاً أو أكثر فكتب مسلم إلى الحسين مع عابس الشاكري يخبره باجتماع أهل الكوفة على طاعته وانتظارهم قدومه.
فساء ذلك جماعة ممن لهم هوى في بني أمية منهم عمر بن سعد بن أبي وقاص فكتبوا إلى يزيد يخبرونه بأمر مسلم وإقبال الناس عليه وأن عامله النعمان لا طاقة له على المقاومة. فعزل يزيد النعمان بن بشير وأرسل عبيد الله بن زياد والياً على الكوفة بدلاً منه فجمع الناس في الجامع الأعظم وخطبهم وحذرهم ومناهم العطية وقال أيما عريف وجد عنده من بغية أمير المؤمنين ولم يرفعه إلينا صلب على باب داره. ثم جرى ماجرى على مسلم من تفرق الناس عنه ووقوعه بأيدي الجلاوزة وتم الإجهاز عليه وصلب بالكناسة وأنفذ رأسه إلى يزيد فنصبه في درب من دمشق.
إلى العراق:
لقد بلغ الحسين (عليه السلام) أن يزيداً أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر وأمرّه على الحاج وولاه أمر الموسم وأوصاه بالفتك بالحسين (عليه السلام) أينما وجد، فعزم (عليه السلام) على الخروج من مكة قبل إتمام الحج واقتصر على العمرة، كراهية أن تستباح به حرمة البيت.
وقبل أن يخرج قام خطيباً ومما قاله في خطبته: (خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوّفاً وأجربة سغباً).
وسار ركب الحسين (عليه السلام) باتجاه العراق وعند ما سئل عن الوجه في حمل العيال معه وهو على مثل هذا الحال قال (عليه السلام): قد شاء الله أن يراهن سبايا(البحار ج 1 ص 184).
وفي(الصفاح) لقي الفرزدق الشاعر فسأله عن خبر الناس خلفه فقال (قلوبهم معك والسيوف مع بني أمية والقضاء ينزل من السماء) وعند بعض مياه العرب، لقي عبد الله بن مطيع العدوي فقال الأخير للحسين (عليه السلام): أذكرك الله يا ابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك أنشدك الله في حرمة العرب فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلوك ولئن قتلوك لا يهابوا أحداً بعدك فأبى الحسين (عليه السلام) إلا أن يمضي.
وفي(زبالة) أخبر بقتل عبد الله بن بقطر الذي أرسله الحسين من الطريق إلى مسلم بن عقيل فقبض عليه الحصين بن نمير في القادسية وسرحه إلى عبيد الله بن زياد فأمره أن يصعد المنبر ويلعن الكذاب ابن الكذاب ولما أشرف على الناس قال: أنا رسول الحسين بن فاطمة لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة فأمر به عبيد الله فألقي من فوق القصر فتكسرت عظامه وبقي به رمق فأتاه رجل فذبحه.
وفي بطن العقبة وفيها قال لأصحابه: (ما أراني إلا مقتولاً فإني رأيت في المنام كلاباً تنهشني وأشدها علي كلب أبقع). وقال (إنهم لن يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل فرق الأمم).
ولدى نزوله قصر بني مقاتل اجتمع به عمرو بن قيس المشرفي وابن عمه فقال لهما الحسين (عليه السلام): جئتما لنصرتي قالا له: إنا كثيرو العيال وفي أيدينا بضائع للناس ولم ندر ماذا يكون ونكره أن نضيع الأمانة فقال لهما (عليه السلام) انطلقا فلا تسمعا لي واعية ولا تريا لي سوادا فإنه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا أو يغثنا كان حقاً على الله عز وجل أن يكبه على منخريه في النار. وفي الطريق إلى كربلاء إذ سمع الحسين يقول (أنا لله وأنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين) وكرره فسأله علي الأكبر عن ذلك فقال (إني خفقت برأسي فعن لي فارس وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا) فقال الأكبر: (لا أراك الله سوءاً، ألسنا على الحق؟ قال: بلى والذي إليه مرجع العباد فقال: يا أبت إذن لا نبالي أن نموت محقّين فقال (عليه السلام): جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده.
ولم يزل الحسين (عليه السلام) يتياسر حتى انتهى إلى نينوى وإذا راكب على نجيب وعليه السلاح فانتظروه وإذا هو رسول ابن زياد إلى الحر الذي لازم الحسين (عليه السلام) منذ وصوله إلى منطقة شراف امتثالاً لأمر أبن زياد.
فما وراء هذا الرسول؟ أنه يحمل كتاباً من أميره يقول فيه: جعجع بالحسين حين تقرأ كتابي ولا تنزله إلا بالعراء على غير ماء وغير حصن.
وهكذا وصل ركب الحسين إلى كربلاء فوقف الحر وأصحابه أمام الحسين (عليه السلام) ومنعوه من المسير وقالوا: أن هذا المكان قريب من الفرات، ويروى بيناهم يسيرون إذ وقف جواد الحسين ولم يتحرك كما أوقف الله ناقة النبي (صلى الله عليه وآله) عند الحديبية فعندها سأل الحسين (عليه السلام) عن الأرض قال له زهير: سر راشداً ولا تسأل عن شيء حتى يأذن الله بالفرج أن هذه الأرض تسمى الطف فقال (عليه السلام) فهل لها اسم غيره؟ قال: تعرف كربلاء فدمعت عيناه، وقال: اللهم أعوذ بك من الكرب والبلاء، ههنا محط ركابنا وسفك دمائنا ومحل قبورنا بهذا حدثني جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)
التعليقات (0)