ففي هذه الحياة علينا أن نسارع إلى النجاة عبر أداء عمل الخير وطلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى، ونتنافس مع المتنافسين إلى الفوز بنعيم الآخرة، وأن نأخذ من كتاب ربنا خير معين في ذلك، لأنه هو -لا غيره- يمثل حديث الحياة والحيوية والعطاء.
من أعظم الحقائق التي فيما لو تبصر بها الإنسان لتغيرت مجريات حياته، ولحدثت لديه النهضة العظيمة والثورة الكبرى، وهي حقيقة الموت وحقيقة الحياة؛ وهما الحقيقتان اللتان تتراوحان على الإنسان وتتجاذبانه... وهو لو استطاع معرفتهما لانطلق من الموت إلى الحياة، ولجعل الموت وسيلة نهضة، بدل أن يتبدل لديه إلى سبب إخفاق.
إن من الممكن جدا أن يصبح الموت إغناء للحياة، قبل أن يكون إلغاء لها. وفي واقعة الطف التي هي مظهر من مظاهر انعدام الحياة المادية، أصبح الموت وسيلة إغناء لا إلغاء، كما أصبح الموت فيها نقطة انطلاق وبداية، لا نقطة كبح ونهاية..
فالسيدة الصديقة زينب بن علي عليهما الصلاة والسلام قد سجلت بداية ملحمة عاشوراء عند لحظة خروجها من كربلاء، وكذلك حينما وقع نظر الإمام زين العابدين عليه السلام على تلك الأجساد الطاهرة المتناثرة فوق أرض الشهادة، حتى كادت نفسه الشريفة أن تخرج حزنا وألما.. فرمقته السيدة زينب وألقت ذلك الخطاب العظيم وأكدت بأروع صورة وأبلغ بيان بأن واقعة الطف بداية العهد المقدس بين الله عز وجل من جهة، وبين رسول الله وآل بيته الطيبين الطاهرين عليهم الصلاة والسلام من جهة أخرى، وأنه لابد من وقوع هذه الحادثة لتنطلق وتنبعث حياة الإسلام من جديد.. وعبر كلمات هذه الخطبة البليغة سجلت السيدة زينب عليها السلام مقدمة كتاب عاشوراء.
إن واقعة عاشوراء؛ هذه الواقعة العظيمة التي انعدم نظيرها في التاريخ البشري، بل وفي تاريخ الكون برمته..
هذه الواقعة بداية الوفاة والشهادة والدماء المراقة والأشلاء المتناثرة والأرواح المزهقة والقوافل الأسيرة والنساء المرملة والأطفال الميتمين، في ظاهر الأمر..
ولكنها -واقعة الطف- كانت بداية حياة الأمة، لأن قائدها وسيلة النجاة ومصباح الهدى والشفاعة الكبرى.
وبمستطاع المرء أن يطل من يوم عاشوراء على الحياة الحقيقة، إذ في هذا اليوم يهتز القلب للحقيقة الكبرى ويستيقظ الضمير وتتبلور الروح حتى تصبح شفافة معطاءة، لأن حادثة الطف الأليمة تفتح نوافذ الغيب على الإنسان؛ هذا الغيب المحجوب عنه..
وهو الأوسع بكثير من حدود المادة والشهود. ومن المعلوم للجميع أن عالم الشهود عاجز عن الحديث عن عالم الغيب الذي هو بمثابة البحر الطمطام بالنسبة للقطرة الواحدة. وقد كانت واقعة الطف عامل الوصل بين الغيب والشهود، حيث اجتمع فيها الموت والحياة..
إن الموت يعرفه الإنسان إذا عرف الحياة، وكذلك الحياة لا يعرفها إلا من عرف الموت؛ الذي هو انعدام ما من شأنه الحياة. ولذلك فإن الموت مخلوق، والله هو الذي خلق الموت والحياة وجعل الظلمات والنور.. وها نحن تتجاذبنا حقائق الموت والحياة في كل يوم. فيوم أمس -مثلا- أصبح بالنسبة لنا شيئا من العدم والغيب، بل إن كل ثانية تنقضي من عمرنا تذهب في عداد العدم، وهكذا هي اللحظات والثواني تتراكم وتتراكم حتى ينتهي أجل الإنسان، وقد قيل:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان.
ولعل من طريف ما شاهدت في حياتي، أنني رأيت في ايرلندا ديرا من الأديرة وكانت مساحته شاسعة جدا.. ومن جملة ما رأيت فيه أن الرهبان كانوا يمسكون بالمعاول ويحفرون حفرا في منطقة محددة من الدير، وحينما سألت عن سبب ذلك، قيل لي بأن كل من ينتمي إلى هذا الدير يؤمر -بعد أن يعطى قطعة من الأرض- بحفر قبره الخاص به يوميا.. فكان الراهب الطاعن بالسن يكاد يصل إلى لحده، حيث أصبحت حفرة قبره عميقة، فيما كان الراهب الشاب يأخذ شيئا قليلا من تراب قبره الحديث. وقانون الدير هذا يريد التأكيد لأعضائه بأن الموت يجب أن يكون نصب أعينهم، وأن خطى الإنسان إلى القبر هي أنفاسه..
وعلى ذلك ؛ فإننا يجب أن نفهم بأن الحياة -حياتنا- هي ما بأيدينا، وأن الموت هو ما فقدناه من لحظات حياتنا.
فخط حياتنا لن يبقى ممتدا إلى الأبد، بل له موعد سيتوقف عنده. وقد جاء في الحديث القدسي الشريف: "يابن آدم؛ إنما أنت أيام، فإذا مضى منك يوم فقد مضى بعضك..".
وإنما مثل العمر مثل الثلج على قمة الجبل في أشهر الصيف، حيث سرعان ما يذوب ويتحول إلى ماء بارد.. ونحن لا نحس بحقيقة ذوبان أعمارنا، لأن نعم الله علينا كثيرة جدا من جهة، ولأن من خصائص الدنيا أنها دار غرور، وقد كان الإمام زين العابدين سلام الله عليه، وهو قدوة المؤمنين وقائدهم إلى الورع والتقوى وفهم حقيقة الحياة، كان يجلس جلسة التجافي، حيث لا تستقر به الأرض.. وكان يكثر من الدعاء بقوله: "اللهم ارزقنا التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود". فهو كان يعلم علم اليقين بأن الحياة في واقعها مسيرة متحركة، وأنها لحظات موت متطايرة، وأن الموت محيط بالمخلوقات؛ كافة المخلوقات إحاطة مطلقة بإذن الله عز وجل. ولو عرف الناس هذه الحقيقة لكان واقعهم مغايرا لما يعيشونه من آلام وعذاب وأزمات..
الحياة الحقيقية
إن الحياة الحقيقية هي الحياة التي يمكن الاستفادة منها. فالحياة التي تملأ بالصلاة والصيام وقراءة القرآن والتفكر بما خلق الله سبحانه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبداء الخدمة الخالصة للآخرين، وأمثال هذه المفردات، هي الحياة التي يصح أن يطلق على صاحبها اسم الحي.. ولكن بعض الناس ليس إلا ميتا بين الأحياء، كما يقول الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، إذ لا فائدة للحياة وأنت لا تفعل فيها شيئا إيجابيا، أو لا تؤدي خدمة وواجبا تجاه خلق الله.
ففي هذه الحياة علينا أن نسارع إلى النجاة عبر أداء عمل الخير وطلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى، ونتنافس مع المتنافسين إلى الفوز بنعيم الآخرة، وأن نأخذ من كتاب ربنا خير معين في ذلك، لأنه هو -لا غيره- يمثل حديث الحياة والحيوية والعطاء والفاعلية..
وها هو القرآن الكريم يقول في آية كريمة علينا أن نتدبرها جيدا: (فإذا فرغت فانصب((الشرح/7) ففي وقت تذهب عادات الناس وميولهم الدنيوية البحتة إلى طلب الراحة بعد فترة العمل، نجد القرآن المجيد يحث الإنسان على إيجاد صلة وثيقة بين العمل -أي الدنيا- وبين الله وعبر العبادة النابعة من الرغبة في الاستفادة من الوقت والعمر بأفضل صورة ممكنة..
حتى أن كتاب الله تعالى لم يتطرق إلى قضية النوم بشكل جدي، بل قال في إحدى آياته واصفا المؤمنين المتقين: (كانوا قليلا من اليل ما يهجعون( (الذاريات/17) وفي آية أخرى يأمر الله النبي صلى الله عليه وآله بالقول: (قم اليل إلا قليلا( (المزمل/2) فحديث القرآن -إذن- هو حديث الحركة والحيوية، لأنه حديث الحياة.
بلى؛ إن العمر برمته قد يختصر بلحظة واحدة لا غير.. تماما كحياة الشهيد العظيم الحر بن يزيد الرياحي، هذا الرجل الذي تحولت -التحول حدث لديه بفعل يقظة الضمير وتحسس الإيمان وتذكر الجنة والنار- حياته بين لحظة وأخرى، فأصبحت المثال الأروع للتوبة والشهادة. وهكذا يجب أن نفكر في طبيعة الحياة والموت، فنستغل الحياة بلحظاتها استغلالا خيرا، لا سيما وأن عصرنا الحاضر هو عصر السرعة، وأن ديننا هو دين السرعة والعطاء، وهو الدين الذي يمنحنا القدرة على فهم حقيقة الموت والحياة.
وبهذه المناسبة تنبغي الإشارة والتأكيد على ضرورة وعي هذه المسألة من خلال التعرف على واقعة الطف وفلسفتها ومجرياتها.
ومن جملة ذلك قول الإمام الحسين عليه السلام حينما طلب من الأعداء أن يمهلوه ليلة عاشوراء: "إن الله يعلم أني أحب الصلاة وأحب قراءة القرآن". فهو لم يحب الحياة لمجرد الحياة، أو لينام في تلك الليلة، أو ليضيف ليلة أخرى إلى ليالي عمره..
بل إنه يريد أن يودع الحياة بوداع الصلاة وقراءة القرآن.. وأكثر من ذلك يمكن القول بأن من أراد التعرف على حقيقة الإمام الحسين عليه السلام وحقيقة واقعة الطف الخالدة، فله مراجعة دعاء عرفة الذي هو بحق الناطق باسم كربلاء وثورتها الحسينية التي صورت لنا الحياة والممات على شكلهما الحقيقي.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل من أيام عاشوراء سببا لأن نتنبه من غفلتنا، ونتيقظ من نومتنا، ونتوجه إلى حقيقة حياتنا، فنصوغها من جديد ونكون حسنيين قلبا وقالبا وقولا وروحا وشهادة وسلوكا.
ونسأله كذلك أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعل حياتنا زيادة لنا من كل خير، والوفاة راحة لنا من كل شهر، إنه ولي التوفيق.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
مانشيت: إن من الممكن جدا أن يصبح الموت إغناء للحياة، قبل أن يكون إلغاء لها. وفي واقعة الطف التي هي مظهر من مظاهر انعدام الحياة المادية، أصبح الموت وسيلة إغناء لا إلغاء، كما أصبح الموت فيها نقطة انطلاق وبداية، لا نقطة كبح ونهاية..
مانشيت: إن واقعة عاشوراء؛ هذه الواقعة العظيمة التي انعدم نظيرها في التاريخ البشري، بل وفي تاريخ الكون برمته.. هذه الواقعة بداية الوفاة والشهادة والدماء المراقة والأشلاء المتناثرة والأرواح المزهقة والقوافل الأسيرة والنساء المرملة والأطفال الميتمين، في ظاهر الأمر.. ولكنها -واقعة الطف- كانت بداية حياة الأمة، لأن قائدها وسيلة النجاة ومصباح الهدى والشفاعة الكبرى.
مانشيت: يجب أن نفهم بأن الحياة -حياتنا- هي ما بأيدينا، وأن الموت هو ما فقدناه من لحظات حياتنا. فخط حياتنا لن يبقى ممتدا إلى الأبد، بل له موعد سيتوقف عنده. وقد جاء في الحديث القدسي الشريف: "يابن آدم؛ إنما أنت أيام، فإذا مضى منك يوم فقد مضى بعضك..".
التعليقات (0)