إن المنبر الحسيني يعتبر جهازاً بالغ النفاذ، عظيم التأثير في اتجاه تحميل الإنسان مسؤوليته الإلهية، وتفجير بواعث الفاعلية في ذاته وتحسيسه بالخطيئة عند تقصيره عن واجبه، وبالتالي رفعه إلى مستوى التصدي والعطاء. تعالوا نستمع ونتدبر في الكلمات الناطقة الأولى باسم (الثورة الحسينية)، الصديقة الصغرى زينب الكبرى (عليها السلام)، تعالوا نتعلم كيف نضع نقطة الفكر على حروف الواقع.. ونتحدث بصراحة ووضوح حتى يحترق حجاب التبرير ويتلاشى دخان الأعذار.
قالت (سلام الله عليها): (أما بعد: يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر! أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنّة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً تتخذون إيمانكم دخلاً بينكم). ثم قالت: (أتبكون؟ وتنتحبون؟ أي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنى ترخصون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجتكم).
ثم قالت (عليها السلام): (أفعجبتم إن مطرت السماء دماً؟ ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون، فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، وإن ربكم لبالمرصاد).
ومضى سيد الساجدين علي بن الحسين (عليهما السلام) على نهج عمّته الفاضلة في مسجد الشام ارتقى المنبر وقال فيما قال، وهو يحمّل الناس أوزار الخطيئة التي ارتكبت ويحذّرهم في التمادي في الغفلة عن الآخرة: (أيها الناس أحذركم من الدنيا وما فيها، فإنها دار زوال وانتقال، تنتقل بأهلها من حال إلى حال، قد أفنت القرون الخالية، والأمم الماضية الذين كانوا أطول منكم أعماراً وأكثر منكم آثاراً، أفنتهم أيدي الزمان، واحتوت عليهم الأفاعي والديدان.. أفنتهم الدنيا فكأنهم كانوا لها لا أهلاً ولا سكاناً، قد أكل التراب لحومهم، وأزال محاسنهم، وبدد أوصالهم وشمائلهم، وغيّر ألوانهم، وطحنتهم أيدي الزمان).
ثم قال: (أيها الناس: أعطينا ستاً، وفضلنا بسبع، أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين. وفضلنا بأن منا النبي المختار، ومنا الصديق، ومن الطيّار، ومنا أسد الله وأسد رسوله، ومنا سبطا هذه الأمة، ومنّا مهدي هذه الأمة).
ثم قال: (أنا ابن فاطمة الزهراء.. أنا ابن سيدة النساء.. أنا ابن خديجة الكبرى.. أنا ابن المقتول ظلماً.. أنا ابن محزوز الرأس من القفا.. أنا ابن العطشان حتى قضى.. أنا ابن صريع كربلاء.. أنا ابن مسلوب العمامة والرداء.. أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء.. أنا ابن من ناحت عليه الجن في الأرض، والطير في السماء.. أنا ابن من رأسه على السنان يهدى.. أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تسبى.. فلم يزل يقول: أنا، أنا، حتى ضجّ الناس بالبكاء والنحيف، وخشي يزيد أن تكون فتنة، فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام.. فلما قال المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله، التفت من فوق المنبر إلى يزيد وقال: محمد هذا جدي أم جدك يا يزيد؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت، وإن قلت إنه جدي فلم قتلت عترته؟!).
المنبر ساحة الشهادة
وكذلك المنبر الحسيني.. إنه صوت الشهادة، بل إنه ساحة الشهادة ذاتها؛ وإن الذي يشرّفه الله بالحديث عن ثار الله وابن ثأره، عن السبط الشهيد وعن واقعة عظمت وجلّت في السماوات والأرض، وعن معركة لخصت كل صراع الرسالات ضد أعداء الدين، وتمت فيها الشهادة بكل أبعادها.. بل الذي شرّفه الله بالحديث عن الدم الذي جرى ولم يتوقف ولا.. وعن الثورة التي ألهبت ولن تتوقف أبداً.. وعن ضمير كلّ الأباة.. وعن نهج كل الأحرار.. وعن روح الرسالات.. وعن ميراث النبوات.. إنه يجب أن يكون تلميذاً في مدرسة الشهادة الحسينية، وجندياً في ساحة النضال العلوي. إنه ينبغي أن يكون في مستوى استيعاب عاشوراء، روحاً لاهبة، ومسؤولية كاملة، وفكراً نيراً، وكلمة ثائرة، وعلماً غزيراً.
ليتحدث عن القرآن الكريم، وعن بصائره، وهداه حينما يتحدث عن الإمام الحسين (عليه السلام) الذي ضحى من أجل القرآن. ليقرأ علينا سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي كان الحسين منه وكان من الحسين، ويصور لنا ملامح أمير المؤمنين والد الحسين وإمامه ومقتداه، ويرفع ظلامة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وأبنائها عبر التاريخ.
إن المنبر الحسيني إعلام متناسب مع نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) ومع أهداف وقيم تلك النهضة المباركة، وعلينا أن نطور هذا المنبر في هذا الاتجاه، لأن الأمة المتخلفة قد تحرف كلّ الأحرف المضيئة عن مواقعها وتحول حتى المنبر الحسيني إلى وسيلة لتمرير الواقع الفاسد، وتبرير الكسل والجمود، وتكريس حالة التمزق والنفاق.
من هنا كانت مسؤولية المفكرين الرساليين بالغة الخطورة إذا كان عليهم أن يضيئوا بأفكارهم التطورية طريق الخطباء.. ويذكروا أبناء الأمة بالتوجه إلى أولئك الخطباء الملتزمين علماً وعملاً.. ثقافة ومسؤولية بنهج السبط الشهيد. وعلى المعاهد الدينية أن تبرمج لتربية مثل هؤلاء الخطباء، وأبرز ما ينبغي أن يتذكره الخطباء هو:
أن السبط الشهيد كان شخصاً، واصبح اليوم منهجاً، وعاشوراء كانت معركة فغدت اليوم مسيرة.. وكربلاء كانت ساحة فأضحت اليوم راية مرفوعة فوق كلّ أرض، وعلينا اليوم وكل يوم أن نبحث عمن يمثل نهج الإمام الحسين (عليه السلام)، وعن وجهة سيرته، وحامل رايته..
وإن أولى الناس به أقربهم إلى نهجه وقيمه وأهدافه. ثم ولاية هذا النهج، واتباع تلك المسيرة، والانضواء تحت رايته، إنها الغاية المثلى من وراء الشعائر الحسينية. والولاية قمة انتخاب الإنسان لمسيره ولمصيره بوعي وبصيرة. وحين يسلم المؤمن لمثل تلك القيادة الروحية التي تتصل بقيادة الأنبياء والأئمة، فإنه يكون في أعلى درجات الحرية، حيث يتجاوز شح نفسه، وجبت الشيطان، وطاغوت المال والسلطة، ويقف اقتدار واستقامة أمام كل العوامل الضاغطة. والولاية تستثير عقل البشر لمواجهة شهواته، وتبلور إرادته في مواجهة ضعفه، وعجزه، وتنمي سلطان الروح لمقاومة شهوات البدن.. والولاية روح نابضة بالتحدي، والولاية التصاق بنهج الربانيين في منهجية التفكير، وفي أخلاقيات العمل، وفي اختيار المثل من الوسائل. وتتركز الولاية في الوحدة التي ترعاها قيم الوحي، وتنظمها شرائع الدين، وتقوم عليها القيادة الربانية. إ
ذن، تعالوا نبدأ من حيث بدأ الله، ومن حيث أمر الله سبحانه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً).. وهل حبل الله غير الولاية؟! تعالوا ننظر بعيون واسعة ونفكر بعقول كبيرة، حتى نتجاوز حواجز الدم واللغة والإقليم والمصالح. تعالوا نذوب جميعاً في مسيرة الحسين (عليه السلام) وننصهر في بوتقة الولاية. تعالوا نرى أنفسنا أحق بتطبيق نهج الحسين (عليه السلام).
تعالوا نساهم وبفاعلية في بناء المستقبل البشري على أساس الإيمان والعلم والعزة.. التي هتف بها السبط الشهيد بكربلاء، حيث قال: (هيهات منا الذلة).
تعالوا نسمي باسم الله، ونصبح منذ اليوم حسينيين في كل أبعاد حياتنا.
والله هو الموفق.
التعليقات (0)