رجال من زمن اللؤلؤ - (27)
حسين بن خميس وجذوة الوطنية في السنابس
المحرق - محمد حميد السلمان
ذكرنا في الحلقة السابقة أن حسين بن الحاج أحمد بن خميس واصل درب والده الذي بدأه منذ زمن في خدمة قضايا الوطن ومواطنيه والذود عن لحمة هذا الوطن مهما بلغت التضحيات. ولذا فقد فتح حسينية بن خميس لجمع أخوة التراب الوطني البحريني على أرضه ليلعبوا دوراً مفصلياً في الحركة الوطنية يشهد عليها القرآن الكريم الذي كان بها ومازال موجوداً حتى اليوم ضمن تراث المبنى الخاص بالحسينية. بل ان الموقع الذي وضع فيه ذلك القرآن ليقسم عليه الجميع في ليلة من ليالي أكتوبر/ تشرين الأول 1954 مازال ماثلاً في الحسينية إلى اليوم يشهد على صدق وقوة ومتانة الحركة الوطنية البحرينية في أوج مجدها. ومن هناك انبثق أول اتحاد وطني حديث جمع بين أخوة التراب - السنة والشيعة- في تحالف وطني رائع باسم «الهيئة التنفيذية العليا». بل جمع بينهم أكثر من ذلك، الدم والمصير المشترك على هذه الأرض الطهور.
وهنا يعود الشاهد الوحيد من سنابس على ذلك العصر ليروي الحكاية للتاريخ من جديد بوجهة نظره. يقول علي بن حسين: «إن ما حصل في مسجد الخميس قبل اجتماع السنابس لأول مرة هو الاتفاق على أن يتم تأسيس منظمة بحرينية تقوم بتمثيل الإرادة الشعبية، على أن يتم الاجتماع لاحقاً لهذا الغرض. وعندما احتار القوم في إيجاد مكان يضم جلسة التأسيس بعيداً عن عيون السلطات البريطانية، عرض الوالد حسين بن أحمد بن خميس على صديقه ورفيق دربه عبدالرحمن الباكر أن تعقد تلك الجلسة في حسينية الحاج أحمد بن خميس، التي كان الوالد يتولى إدارتها آنذاك.
لقد كان عمري حينها أحد عشر عاماً، إلا أنني مازلت أتذكر الكثير مما جرى مساء يوم 13 أكتوبر من عام 1954 فهو يوم لا يمكن محوه من الذاكرة الوطنية. لقد كان الجو ملبداً بالحمرة وهبت ريح يسمونها «الحويمر». ولما كانت السنابس لم تصلها الكهرباء آنذاك فقد عملنا أنا والوالد وأعمامي والأقارب من بيت بن خميس على تهيئة الاتاريك (مصابيح تعمل بالكيروسين)، وإحضار قوالب الثلج وصناديق المرطبات من المنامة، وأحضرنا عدداً كبيراً من الأكواب والصينيات وأباريق الشاي ودلال القهوة. وتم فرش الحسينية منذ العصر وتهيئة المكان لأكبر حدث يمر بالشعب البحريني ليحدد مستقبله السياسي. بعد صلاتي المغرب والعشاء بساعة بدأ القوم يتوافدون وامتلأت قاعة الحسينية عن بكرة أبيها، وكذلك الحوش الداخلي والخارجي. لقد خرج أهالي السنابس الأحرار إلى الشوارع يحرسونها بما كان لديهم من سلاح صدئ وقد اقسموا على الموت بألا يمس قادة الشعب مكروه وهم على قيد الحياة.
وجاء الزعيم عبدالرحمن الباكر ودخل بيتنا الملاصق للحسينية للاتفاق مع الوالد (المضيف للحفل) على البرنامج. وبعد حوالي نصف ساعة دخل الباكر قاعة الحسينية ليباشر الجميع البدء بالعمل. وكان من أهم الحضور من بين الجمع الغفير السيدعلي كمال الدين وكان معه ابنه الأخ إبراهيم كمال الدين وكان عمره أصغر مني وبعد فترة من بدء الاجتماع غلبه النعاس. وكان هناك الزعيم عبدالعزيز الشملان ومعه عبدعلي العليوات، وإبراهيم بن موسى. ولم يكن إبراهيم محمد حسن فخرو حاضراً لأنه كان مسافراً إلى لبنان، وكذلك لم يكن محسن التاجر حاضراً رغم أنه قد اختير عضواً في اللجنة الإدارية أو لجنة الثمانية كما يسمونها. ولا أذكر أنه شارك في أي من أنشطة الهيئة لاحقاً ربما لحالته الصحية أو لكبر سنه. ولقد قدمت بيدي المرطبات والشاي والقهوة للزعماء. وأذكر أنه في بداية ذلك الاجتماع التأسيسي تليت آيات من الذكر الحكيم بدأت بآية «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون» (سورة آل عمران: 103). وقد رتلها عمي المرحوم مهدي أحمد خميس، وألقى والدي قصيدة، وكذلك ألقى الشاعر عبدالرحمن المعاودة قصيدة، وجاءت كلمة عمي ختام البرنامج الترحيبي. ثم بدأ الزعيم عبدالرحمن الباكر مراسيم تشكيل الهيكل القيادي للهيئة. فقد تم انتخاب السيدعلي كمال الدين رئيساً وعبدالرحمن الباكر سكرتيراً وستة أعضاء كونوا مع الرئيس والسكرتير قيادة الهيئة وهم عبدالعزيز الشملان، عبدعلي العليوات، إبراهيم محمد حسن فخرو، إبراهيم بن موسى، عبدالله ابوديب، ومحسن التاجر. كما انتخبت قاعدة شعبية من مئة عضو، وتمت كل هذه الإجراءات بالتزكية. وبعد ذلك قام الزعماء من لجنة الثمانية وبقية أعضاء القاعدة الشعبية بالقسم على المصحف الشريف».
حسين بن خميس وسلمية الحركة الوطنية
يقول علي بن حسين تعليقاً على علاقة والده بقياديي الحركة الوطنية في الخمسينيات من القرن العشرين: «كان والدي رحمه الله على علاقة وثيقة بالسيدعلي كمال الدين، وكانت تلك العلاقة ذات جذور. فلقد كان والده السيدإبراهيم كمال الدين من صفوة أصدقاء جدي الحاج أحمد بن خميس، ولطالما كانت لهم صولات وجولات في مأتم بن خميس ليس فقط في الشئون المتعلقة بالأمور الدينية، بل وبالأمور الاجتماعية والسياسية والتعليمية. ومن هنا فقد تطورت العلاقة بين الوالد والسيدعلي كمال الدين الذي ورث من أبيه الزعامة الدينية. كما كانت هناك علاقة صداقة وقرابة مصاهرة بين الوجيه محسن التاجر والحاج عبدعلي العليوات، والحاج عبدالله أبوديب. ومن جهة أخرى فلقد كانت هناك جسور أخرى من العلاقات بين الوالد وجماعة صوت البحرين. فوالدي كان قريباً من حسن الجشي الذي كان أيضا رئيساً لنادي العروبة.
أضف إلى أولئك، المرحوم صالح الباكر الذي كان صديقاً صدوقاً للوالد وكانا على علاقة اقتصادية أيضاً. وعن طريقه تعرف على الزعيم عبدالرحمن الباكر. وكانا يتبادلان الأخبار المحلية والعالمية التي كانت شحيحة في ذلك الزمان بسبب عدم وجود التلفزيون وندرة المذياع والإذاعات.
وفي اعتقادي فلقد كان لهذه العلاقات وتقارب وجهات النظر أثرا بالغاً في احتضان فكرة تكوين ونشأة هيئة الاتحاد الوطني. كانت هناك قناعات مشتركة لدى الجميع بضرورة وجوب تغيير الوضع المتأزم آنذاك وهو في غير صالح الشعب.
وللحقيقة والتاريخ أقول إن «الهيئة التنفيذية العليا»، وهذا هو الاسم الأصلي لهيئة الاتحاد الوطني، قد تشكلت بتاريخ 13 أكتوبر 1954 في حسينية الحاج أحمد بن خميس بالسنابس.
ومازلت رغم هذه السنين الطويلة أتذكر عبارة القسم وهي «باسم الله وبعهد الله وأمان الله والخاين يخونه الله». ولكن رغم القسم على كتاب الله فإن قسماً ممن حلفوا لم يبروا بقسمهم وتلك حكاية أخرى.
وللأمانة أيضاً أذكر أن عبدالرحمن الباكر أظهر ليلة التأسيس رباطة جأش وحكمة وحنكة عالية. فقد كان رحمه الله الدينمو الذي حرك المسيرة الوطنية في الخمسينيات، ولو استمرت الهيئة لكان حال البحرين الآن غير هذا الحال.
فقد اختطت الهيئة سياسة سلمية وهي اللاعنف في مواجهة السلطة البريطانية وأعوانها منذ لحظة تأسيسها واستمرت عليها، رغم التهم التي لفقت للهيئة بافتعال الحوادث التي أعقبت مظاهرات حرب السويس في أكتوبر 1956 مما أدى لملاحقتها.
واعتقل رفاقه في الحركة:
في صبيحة 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 1956 وحوالي السادسة صباحا فوجئنا بقدوم محسن ابن الزعيم عبدعلي العليوات على دراجة هوائية من المنامة إلى سنابس. ودخل إلى مأتم بن خميس، وسألني: أين أبوك؟ فقلت له: ربما نائم بعد الصلاة قليلاً. فطلب مني أن أيقظه وأناديه من فوري. وفعلاً أيقظت والدي وعندما شاهده وسلم عليه أبلغه بما حدث من اعتقال والده وعبدالرحمن الباكر وعبدالعزيز الشملان. وصعق والدي للخبر المشئوم وردد: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وسأل محسن كيف حصل ذلك وما هي الأسباب؟ فبين له كيفية حضور الجنود الإنجليز، وعن ضبط مناشير في مقر هيئة الاتحاد الوطني الكائن في شارع المتنبي بالمنامة بقرب مأتم مدن. وقالوا إن تلك المناشير موقعة من قبل الفدائيين العرب. ولا ندري كيف حصل محسن العليوات على هذه الأخبار في عجالة. ومن ثم توجه بسؤال والدي مستفسرا عن الذي سوف يفعله الآن. فرد عليه والدي أن ليس له خيار اتخاذ قرار منفرد عن القيادة. ثم ان هناك قرارا من قبل الهيئة بتعيين قيادة سرية تتولى أمر الهيئة في حال اعتقال القادة الثمانية. وظل محسن العليوات في بيتنا لمدة أسبوع أو أكثر ينام في الحسينية يفترش الأرض قرب الباب الداخلي لها ونحن نقوم برعايته. ثم ركب دراجته ذات يوم بعد تلك المدة وغادر على عجل. وأعتقد أن السلطات كانت تريد جس النبض ومراقبة رد الفعل في السنابس تجاه اعتقال قادة الحركة الوطنية.
والشيء بالشيء يذكر، فقد اعتقلت أنا أيضاً في يونيو/ حزيران 1959، وأدخل معي في نفس الزنزانة محسن العليوات وكان معه شخص يدعى غلوم كرم لم أشعر بارتياح له. وقد ادعيا أنهما اعتقلا بتهمة كتابة شعارات وطنية على الجدران!
عموماً، لقد حزن والدي أيما حزن على فراق رفاق دربه وكنت أسمعه وهو يصلي باكيا لله داعيا أن يفرج عنهم وأن يهلك الانجليز وأعوانهم من الخونة في البلاد. فقد كانت الخيانة من الداخل هي أقسى ما واجهته الحركة الوطنية في تلك الفترة. ولذا لم نستغرب بعد فترة من رؤية بعض المشاركين في الحركة وقد تقلدوا مناصب في الدولة أو تكونت لهم علاقات اقتصادية مشبوهة مع رموز الفساد في المجتمع.
فماذا فعل حسين بن خميس في مواجهة تلك التطورات؟
التعليقات (0)