ما أجمل الإيمان بالقضية العادلة وما أعظمه حسين ينزل من عرض القلب إلى ساحة الواقع المعاش والتطبيق العملي لقيمه ومبادئه..
كأني الآن قرب خيمة الإمام الحسين (عليه السلام) ليلة عاشوراء الفاصلة بين الحق والباطل، وقد اجتمع الأصحاب كلهم يستمعون إلى خطاب المولى وهو يعلمهم أن يوم عاشوراء هو يوم التضحية، والشهادة.. يوم الفتح الأكبر بالنسبة للمجاهدين حقاً في سبيل الله، لأنه يوم الوفادة على روح وريحان وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، فعاشوراء إذن هو البرزخ بين حياة دنيوية زائلة مريرة مع الظالمين وبين حياة هانئة سعيدة بقرب الأنبياء والصديقين والصالحين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.. وما يوم عاشوراء إلا مركبة سريعة للانتقال من هذا العالم المكتظ بالأزمات والانفعالات والنكبات التي يعانيها المؤمن على أيدي الفجار الذين أرادوا حرث الدنيا فسعوا لها سعيها فحرموا أنفسهم من جنة ونعيم.
وأصر الحسين في خطابه للأصحاب على أنهم مخيرون بين البقاء معه أو المفارقة ولا تثريب عليهم أن يتخذوا الليل جناحاً... وانطفأ آخر المصابيح كي تجد القلوب المظلمة مجالاً للذهاب، وكان (عليه السلام) قد فتح جميع الطرق التي كانت تنتهي من الخيمة إلى العافية والسلامة وكان الكبار والصغار قد جلسوا إلى جانب بعضهم البعض وظهر على الجباه حياءُ شديد، وأطبق الصمت فلم تسمع سوى الأنفاس، كسيمفونية ترافقت كلمات النبل الحسيني التي فاضت بأعذب حسن الشعر على لسان القائد العظيم:
أما بعد: فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي فجزاكم الله جميعاً عني خيراً ألا وإني لأظن يومنا على هؤلاء الأعداء غداً، وإني قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حل ليس عليكم مني ذمام وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعاً خيراً ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله فان القوم إنما يطلبونني ولو أصابوني لهو عن طلب غيري.
وهنا بالضبط.. تكسر الصمت.. وكان العباس أول من كسره قائلاً: ولم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً.
ولما سمع الحسين (عليه السلام) كلام أخيه.. ظهرت ابتسامة هادئة على شفتيه المباركتين رافقتها قطرات دمع سالت على وجهه ووجه أخيه العباس، وبعد كلام القمر الهاشمي الذي أعاد إلى الأذهان عظمة رنين صوت علي (عليه السلام) جرت الجرأة في عروق الحاضرين.
التفت الإمام إلى أولاد عقيل وقال: يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم.
فقالوا جميعهم: سبحان الله فما يقول الناس لنا؟
يقولون أنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف ولا ندرى ما صنعوا، لا والله، لا نفعل ذلك ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك.
وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: أنحن نخلي عنك ولما نعذر إلى الله في أداء حقك، أما والله حتى أطعن في صدورهم برمحي واضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ونهض زهير بن القين وقال: والله لوددت أنني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل هكذا ألف مرة، وأن الله جل وعز يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.
وتكلم بقية الأصحاب بنفس هذه اللهجة الصادقة والمفعمة بالثقة والحب والشهامة، ودعا الإمام للجميع بالخير وأشاد بهم وبموقفهم المقدس وبدأ يرسم لهم صورة الغد فقال: يا قوم إني غداً أقتل وتقتلون كلكم معي ولا يبقى منكم واحد.
على هامش هذا الحوار الغامر بالعواطف الإنسانية النبيلة، ومشهد التفاني والإخلاص الذي دار بين القائد وجنده، كان ثمة حوار آخر يدور.. ولكنه حوار داخلي بدأ بسؤال القاسم بن الحسن نفسه بعد أن امتلأ كيانه شوقاً للشهادة وحماساً لنيلها خاصة وأنه قد سمع بشارة عمه الإمام لأصحابه: ترى هل أنني سأصبح مشمولاً بهذا الوصال، أنا لست أكثر من فتىً ولم أبلغ حتى الآن سنّ التكليف والرشد، وبنبرة من الحزن والأسى.. أضاف.. من المحتمل أن لا أكون ممن قصدهم عمي بسبب صغر سني... وهنا انتفض القاسم ونهض ليجتاز الصفوف وهو في حيرة من أمره أيتكلم أم لا يتكلم ولما اقترب من الإمام الحسين (عليه السلام)، نطق بصعوبة وهيبة شديدتين: هل سأكون من القتلى؟ طرح هذا السؤال وقد ارتسمت على وجهه علامات الحب والحماس فلا مجال للتردد أو الخوف.. وكان كلامه يحمل رنيناً ونغمة تذكر بالسبط الأكبر.. أبيه (عليه السلام)، الأمر الذي جعل الحسين (عليه السلام) ينتقل بذهنه لحظة إلى مشهد الطست الذي رأى فيه قطع كبد الحسن (عليه السلام)، ومكث قليلاً وقد ران الصمت، فهل يمكن عدم الرد على سؤال القاسم؟!
من أجل ترويج مزاج الشهادة بين الأصحاب اختبر الإمام ابن أخيه بسؤاله: يا بني كيف الموت عندك؟
أجاب القاسم بلا فصل: يا عم أحلى من العسل.
وحدق الحسين بوجه القاسم الذي كان كالقمر بهاءاً وتذكر مراراً أخاه الزكي (عليه السلام). ثم ما لبث أن قال له: إي والله فداك عمّك.. إنك لأحد من يقتل من الرجال معي بعد أن تبلو بلاءاً عظيماً.
فطارت على شفتي القاسم ابتسامة عريضة وطفح وجهه بفرحة غامرة بتلك البشرى العظيمة.. تقدم ليقبل يد عمّه المباركة.. وحين اقترب من الإمام ضمه إلى صدره وامتزجت ضحكة القاسم ببكاء الحسين (عليه السلام) وبكى الأصحاب كلهم لهذا المشهد الدرامي الفريد من نوعه.
التعليقات (0)