كانت الصفاح تتـقارع والرماح تتشابك والأبطال ترتجز وتتعالى الصرخات من كل جهة وقد بلغت القلوب الحناجر وحمي الوطيس وأثير النقع وعجّ المشهد بصهيل الغيرة وغليان الدم.. إذن فهي القيامة.. قيامة كربلاء.. وكربلاء تعني الحياة الأبدية كما تعني الموت الأبدي.. فلنتابع المشهد من زاوية أخرى.. من يخرج من تلك الخيمة؟!
إنه غلام لم يبلغ الحلم يشبه الحسن (عليه السلام) كثيراً، ولعله ابنه.. نظر إليه الحسين (عليه السلام)... اعتنقه وبكى ثم أذن له، فبرز كأن وجهه شقة قمر، بيده السيف وعليه قميص وإزار وفي رجليه نعلان، جعل يمشى بين صفوف الأعداء ويضرب بسيفه، مستخفاً بالموت غير آبه بالجمع كما يفعل الرجال الصناديد ولكن انقطع شسع نعله اليسرى فأنف أن يحتفي في الميدان وهو ابن أعظم الأنبياء فوقف يشد الشسع، وبينا هو كذلك إذ شد عليه عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي فقال له حميد بن مسلم: وما تريد من هذا الغلام؟ يكفيك هؤلاء الذين تراهم احتو شوه! فقال: والله لأشدن عليه، فما ولى حتى ضرب رأسه بالسيف فوقع الغلام لوجهه فصاح يا عماه فأتاه الحسين كالليث الغضبان فضرب عمرواً بالسيف فاتقاه بالساعد فأطنها من المرفق فصاح صيحة عظيمة سمعها العسكر فحملت خيل ابن سعد لتستنقذه فاستقبلته بصدرها ووطأته بحوافرها فمات.
وانجلت الغبرة وإذا الحسين قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجليه والحسين يقول بعداً لقوم قتلوك، خصمهم يوم القيامة جدك.
ثم قال (عليه السلام): عزّ والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك ثم لا ينفعك صوت والله كثر واتره وقل ناصره ثم احتمله وكان صدره على صدره (عليه السلام) ورجلاه يخطان في الأرض فألقاه مع علي الأكبر وقتلى حوله من أهل بيته.. رفع الحسين طرفه إلى السماء وقال: اللهم أحصهم عددا ولا تغادر منهم أحداً ولا تغفر لهم أبداً صبراً يا بني عمومتي صبراً يا أهل بيتي ،لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً.
في اثر هذا المشهد الدامي، من تراجيديا كربلاء، ابتدأ مشهد آخر لكنه يختلف عن سابقه تماماً إذ يبدو أن عرساً يوشك أن يقام.. وقد وقف المحتفلون والمهنئون على أبواب جنات الخلد وفي أيديهم باقات الزهور وآنية الخضاب وألوان النثار، تعلو وجوههم الفرحة والسرور وقفوا لاستقبال عر يسهم الغالي لكي تبدأ مراسم الزفاف الملائكي العظيم، ياله من مشهد جميل.. الرسول الأعظم جالس وعن يمينه علي وفاطمة، والحسن يستأذنهم ويرحب بالجموع الغفيرة من الأنبياء والرسل والملائكة والحور العين والولدان المخلدين وهم يجلسون على الأرائك متقابلين يتبادلون الشراب القدسي والفرح يغمرهم... ويبدو في زاوية من زوايا الجنة الفسيحة سرادق كبيرُ تجلل بالبهاء قد أعدّ للعريس... وما هي إلا لحظات حتى أرتفع النداء بالصلوات الدائمة على محمد وآله الطاهرين إعلاناً عن وصول القاسم بن الحسن (عليه السلام) فهب الجميع لاستقباله وليبدأ الزفاف كأعظم ما يكون.
التعليقات (0)