لا أكتب عن الأشخاص إلاّ لِماماً. هذا إن حَدَث وأن كَتبت. في الغالب أتورّط باستمرار في تقصّي أخبار العالم وأحداثه فأكتب عنها برأي. هذه المرّة آثرت أن أسبر غوراً إنسانياً لدي. الموضوع شخصيّ بامتياز. لم تُحفّز كلماته وحروفه أواصِرُ النَّسَب، فالأنساب كُثُر. ولم تفتح شهيّة معناه طلباً في جاهٍ أو مُلْك، لأنّ صاحبه ليس من أهل السّلطة ولا الجاه. غاية الأمر ومنتهاه أن صاحب المقام عاش حبيباً بالنّسبة لي وعائلتي، وسيكون كذلك وهو في لحده.
الحاج عباس بن حسين بن أحمد بن خميس. الذي اختار الرحيل عن الخلود في غير الآخرة بسرعة لم يُرِدْها له مُحبّوه. لم تكن العلاقة معه مُحدّدة المسار. فهو في الأصل جارٌ بارٌ بجيرته. وهو في الدّم قريب النّسب ضمن عائلة كبيرة ومُركّبة. وهو في العلاقة الإنسانية نسيب للرّوح بشكل أبوي لافت. هذه باختصار توصيفات الرجل بالنسبة لي، لحظتها وقد عاش ردحاً من الزّمن لا يفصل بيتنا عن بيته أزيد من ثلاثين متراً.
لا أتذكّر مرة أنه مرّ بجانبي دون أن يُحيّيني بالسّلام. ليس أيّ سلام. فسلامه كان ممتداً، ومُسْتَرسَلاً. سؤال عن أحوالي وأحوال عائلتي الصغيرة. ثم عن آخرين ممن يلونوني نسباً. يسأل عن أشخاص عديدين. بعضهم غابَت صورتهم عن ذاكرتي شهوراً، فيكون هو صاحب الفضل في استحضارهم لي. يُتمتم بالتحايا طيلة الحديث. ويُغادر المكان وهو يوصيني على آخرين. سَلِّم .. سَلِّم ..
وربما لا يَعلم قيمة السّلام إلاّ من حُرِمَ منه وهو يهمّ في ذهابه وإيابه بين شمائل الناس ويُمنَاهُم. ولا يَعلم قيمة الخُلُق إلاّ من ابتُلي بالحُمْق والجفاء من الآخرين. وهي قِيَمٌ (لفداحتها) خوطِب بها الرّسول الكريم (ص) من السماء. "وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (آل عمران 159).
عندما كان يَخطر الحاج أبو فاضل الشارع ذاهباً إلى عمله. صباحاً أو مساءً، لم يتحوّل لقائي به إلى روتين مُمِل. كان في كلّ مرة نلتقي وكأن الحال بيننا للتّو يحصل. وهو امتياز يعجز عن تقديمه والاحتفاظ به العديدون ممن تربطهم علاقات قُربَى أو صداقات ناشئة أو ذاهبة أو ناشفة. فالأصل أن التكرار في الملاقات، يُورِث الإقلال من ابتكار الحديث وجودة النّظرات.
وقبل أن يتقدّم به المرض ويُقعده عُنوة كنت ألتقيه في محافل عامّة أو خَدَميّة. وكنت أأنسُ بالجلوس معه. أسمع جزءً من همومه. وجزءً من تاريخ حياته. وقبلها بسنوات، كنت قُدّامه في أحد بيوتات الله عندما أذيع خبر ارتحال أحد الفقهاء العِظَام، حيث كانت دموعه تنهمر بالسّرعة التي توازي حرقته على الفراق. وكان رأسه بين ركبتيه. يَبُذُّ الحاضرين في قراءة سورة الفاتحة جهاراً على المرجع الفقيد.
آخر مرة زرته في المستشفى قبل وفاته بأيام (لا أعرف عددها بالتحديد). أمسك بيدي مدّة. لم يُعْيِهِ مرضه عن السؤال ذاته. وعن نظرات حنونه، تتدفّق من تحت جفونه. جلست بجانبه مدّة، وكان آخرون موجودون أيضاً. كرّرت الزّيارة مرة أخرى بعد أيام، فأنبؤوني مَنْ هم على منضدة التمريض أن "أبا فاضل" قد تمّت إجازته من المشفى. فَرِحْتُ وحَزِنت. فَرِحْتُ لأنه أجيز من مكان المرضى، وهذا يدلّ على تحسّن عافيته. وحَزِنتُ لأنني لم أظفر بمسك يده والسلام عليه.
ربما خصّني المرحوم بذلك لروابط استثنائية، تجمَع بين عائلتي وعائلته، لكنه كان كذلك وأكثر. وهو في المُحصّلة هدية أخرى من هدايا السماء. أحتفظ في ذاكرتي بواحد من هؤلاء البشر الأسوياء الطيبين. أقول ما حصل لي معه. وماذا كان يقول. وكيف اجترح لنفسه أبوّة خاطفة، لفرد تعلّق بقفاطينه اليُتْمُ منذ الصّغر، بالضبط مثلما كان هو يعيش. إنها تجربة شخصية بامتياز. ربما حَصَلَت مع غيري بزيادة أو نقصان. لكنها تجربة آثرت أن أسطّر ما استطعت توصيفه وهو مُغَادِرٌ عنا للتّو، إلى حيث المليك المقتدر.
التعليقات (8)
الياس
تاريخ: 2010-05-28 - الوقت: 05:49 مساءًرحمه الله خادم الحسين بواسع مغفرته و رضوانه و أسكنه الجنان بجوار محمد و الآل الأخيار
منتسب للحسينية منتذ الصغر
تاريخ: 2010-05-28 - الوقت: 10:29 مساءًالله يرحم عباس( ابو حسين وابو فاضل) عند زيارتي له في المستشفى في 20/4/2010م شألني الحسينية ما سألني به وامسك بيدي بقوه وقال لي اوصيك بالحسينية تواجدوا فيها وحافظوا عليها كما تحافظون على انفسكم وسألني الدعاء وتوادعت معه / الله يرحمه انه من خدام الإمام الحسين (ع)
أهل السيف
تاريخ: 2010-05-28 - الوقت: 10:47 مساءًهو كذلك ...سلمت يمناك في سطورها .وبات يراعك جزلاً لطيفاً ..رحمة الله عليه وعلى أبيه وأجداده ..
احسنت
تاريخ: 2010-05-29 - الوقت: 08:20 صباحاًاحسنت يابو عبدالله على هالمقال وكلماتك الرائعة والمعبرة في حق الفقيد العزيز الحاج عباس خميس تغمده الله بواسع رحمته واسكنه فسيح جناته
حسن الكايد
تاريخ: 2010-05-29 - الوقت: 09:12 صباحاًرحمه الله خادم الحسين بواسع مغفرته و رضوانه و أسكنه الجنان بجوار محمد و الآل الأخيار
مقهور
تاريخ: 2010-05-30 - الوقت: 01:37 مساءًالسلام حجي عباس متواضع طيب مثل ما قال الكاتب ذكره باقي وهو بلحده اما المتكبر الشام هوى اللي يمر على الناس وخشمه فوق ونافخ صدره وعضلاته هذا هو الميت المتكبر يعاني من عقد نفسية يعني مريض يريد يسد نقصه وعقده النفسية بالتكبر ليش تتكبر لانه مثقف او كاتب او مؤلف وحقيقة المتكبر قال عنها الامام علي ( كل متكبر حقير ) ما تكبر الا لانه حقير هذا البحث درسناه بالجامعة والماتم )
yes
تاريخ: 2010-05-31 - الوقت: 06:08 مساءًThank you very much
من بيت الإسكافي
تاريخ: 2010-06-02 - الوقت: 11:22 صباحاًوكأنك ترسم الصورة التي في داخلي والله تذكرتها وأنت ياأبو عبد الله ترسمها عافاك الله ورحم الله أبو فاضل الحنون وأصبر أهله الأعزاء.