ماذا يريد منا الحسين؟! ذلك الشيخ ذي الثمانية والخمسين عاماً, المهاجر من تربة استنشق في حبات رملها عبق الرسالة النفاذ , التارك الدنيا تتمنى مكوثه بين لحظاتها, ماذا يريد ذلك المعرض عن طنطنة دنيا نتشبث بأدنى فتاتها. ونقاتل النملة فيها على قوتها, ونستل سيوف مكائدنا في أوجه من ينازعنا على قرص من أقراصها , حريصين على التعلق بآخر رمق من لحظاتها .
ماذا يريد منا ذلك المنتفض انتفاضة الإستقامة حيال الإعوجاج ونحن نصفق لكل حنية في الإعوجاج ,ونهبه ابتسامات الرضا والقبول . ونمالئ رغبات المنكر بألف عنوان, ونصافح المنعطفات السلبية لنحافظ على علاقة ترش علينا قليلاً من المال هنا وكثيراً من المصالح هناك .
ماذا يريد ذلك المحاصر رحله في الصحراء , وعندما جاءه محاصره معتذراً تائباً أجابه : إن تبت تاب الله عليك ونحن نتقصد من أساء إلينا لنكيل له صاعه صاعين ,ونتربص به دوائر السوء غير حاملين في قاموسنا أياً من مفردات العفو والتسامح والصفح والتجاوز, مثقلين ذواتنا بأقصى درجات الإنتقام والرد مقتنعين بأن الحل الأمثل لتطهر القوة , شاطبين الغفران من صفحة تعاملنا.
ماذا يريد منا ذلك المتدفق إيثاراً في بذل نفسه والسخاء بأغلى ما تمتلك يداه المعطاءتان . الباذل مهجته لسيوف استلها الحكم الجائر ليخمد نورالرسالة المحمدية ويصفو له جو الدولة الإسلامية بلا قلق ولا منغصات ونحن تشغلنا همومنا الشخصية ويستوعب أوقاتنا وتغزو أوقات عباداتنا بنفثات من السهو والتحليق في أجواء الدنيا الفانية .
ماذا يريد ذلك الشهيد الحي من عشاق رسموا بأكفهم فوق صدورهم صور الحب المتفاني في عشقه الغلاب, هؤلاء العشاق التاركين همومهم وراء ظهورهم, والحاضرين في شعائره يذيبون ساعات طويلة من أعمارهم في سبيل نيل شرف المشاركة في هذه الشعائر. هؤلاء المغرمين بذلك الدم المتفجر من وريد المعرفة المترعة بحب الله , وحب السلام, وحب الخلق, وحب مكارم الأخلاق, يتعلمون في كل يوم من أيام مواكبه ممارسة التفاني في حبه.
ماذا يريد من هؤلاء؟ وماذا يريد من غير هؤلاء؟ وماذا يريد من سكان الدنيا؟ ماذا يريد ....... أسئلة تقتحم علينا سلاسل أفكارنا أثناء تواجدنا في ذكريات الحسين, لتبقى اسئلة تبحث عن إجابة ناضجة تبل غليل المتعطشين إلى ورد المعرفة الخالص.
كان الحسين يريد تعليم المواطن فن المواطنة الإلهية , فإن كانت الأرض التي احتضنتك وضمت أجمل ذكريات طفولتك وأروع صور أيام الشباب لها فضل عليك, فإن فضل الله أعظم في ميزان الإنصاف وإن رضا الله لهو الوطن الأكبر الذي يستحق ارضاءه كل العناء فما كانت الأرض إلا ظرفاً تضم جسداً مجرداً, والروح محلقة في سماء رضا الله, هكذا كانت حركة الهجرة الحسينية ترمز وتقدم مثالاً حياً على تعدد الأدوار وبقاء الهدف, كما سبق وهاجر جده رسول الله (ص) تاركاً خلفه جاهلية تحتل أرضاً أشبعتها بأصنام الشرك.
وكما كانت يثرب يوماً ما حضناً دافئاً للرسالة, أصبحت كربلاء تلك البقعة القفر مهداً يستقبل ولادة الثورة المجددة للدين الذي استقبلته يثرب الأنصار, وأصبحت لحداً يبتلع الغطرسة المتحكمة في رقاب المسلمين لتعيد الحرية الأصيلة إلى جماجم الغافلين ولتزيل الدرن المتربع على عقول الخانعين.
كان الحسين يريد تحرير الكلمة من ربقة الضعف والعجز ليصبح الصدق ميزاناً للأعمال. لتصبح النفس شفافة شفافية الزجاج ينم ظاهرها عن باطنها . ويشطب كلمة النفاق من دفتر الحياة اليومية. وهي دعوة لنجرد الذات من تكتلات المداهنة. يعلمنا فيها فن الخروج من مستنقع المجاملات على حساب الحقيقة. ويعلمنا فن التعامل مع الألوان , فلون الحقيقة أبيض وماسواه غيرها ولايمت لها بحلقة وصل ولا يتعلق بها برابطة, الحقيقة التي تخيم بظلالها الساطعة على المبادئ الأصيلة للرسالة الإسلامية.
كان يريد صنع صور حسينية المواقف في النفوس لايهدأ لها جفن أمام انحراف يهدد المصالح العامة. كان الحسين يريد تأكيد التسامح بين الأخوة في الله , التسامح الذي يجعل النفس أكثر إشراقاً وأريحية, حين تتعود النفس على الضغط على الأعصاب وبذل العفو للمسيئين. وطبيعي جداً أن نحب الحسين كألق يأخذ بالنفوس ويمتلك الإعجاب من الأعماق ولكن من غير الطبيعي أن نمثل دور الحسين في الحياة العامة والسلوكيات فالحسين حينما عفا عمن أساء إليه وجعجع به ولا زالت مرارة الإساءة في حلقه, كانت عملية ترفع عن نزعات الذات البشرية, ومدرسة يتعلم منها المحبون لأصول السير على خطىً من أحبوا.
وهكذا يجسد لنا الحسين مواقفاً من الطراز النبيل لنمثلها وما أصعب تمثيلها . ولم يكن تجسيد هذه المواقف الرائعة لنذيب روعتها في خطب الوعظ الفارغ من حرارة الصدق, أو لنرسلها في زاوية النسيان بعد كل مجلس نحضره .
كان يريد صنع الرجال في حركة الأهداف الرسالية . فمع طوفان المغريات العارم تنسى النفس الغايات الحقة من الوجود وتنجرف في تلبية المتطلبات البشرية الزائلة . وبتلك التضحيات الجسام مثل لكل عابر ومتطلع إلى نهضته أقصى أمثلة الكمال. مثل لمحبيه ومحاربيه والواقفين على خط الحياد أسطورة في الخلق النبيل المتدفق من شريان النبوة. ذلك الخلق الذي ترتعش له أوردة الرجولة .
وبازاء ذلك الخلق الراقي يسطر بصفه جبروت الحق الذي لا ينهزم ولا ينكسر مهما تكالبت عليه الأعاصير الضالة. كان الحسين إخلاصاً خالصاً مر على النفوس البشرية ليوقظها من وهدة الوجوه الزائلة. فحري بمحبيه أن يتقمصوا تلك الروح العملاقة ولو بأقل أدوارها ولإن الحسين نسخة طبق الأصل من علي (ع) وعلي يقول : ( ولكن أعينوني بورع واجتهاد ), وتلك دعوة لنحث السير على آثار تلك الخطى الخالدة. وكل هذا لايتسنى لنا بالعيش في ظاهر الحب دون الغوص في حقيقته الفياضة.
ظاهر حب الحسين يتمثل في التعلق القلبي بحبه, والبكاء على رزئه, والمداومة على إفناء الغالي والنفيس في إحياء شعائر بينما باطن حبه, يتجسد في تطبيق أمثلة من أدواره وشخوص الذات إلى معالي الأمور كما كان, والإنصهار في لجة الإخلاص دون النظر إلى الظواهر البراقة وبالغوص في هذا الحب, أصنع نفساً حسينية الخصال تقابل كل إساءة بكريم الصفح بفضل مانهلته من روح الحسين (ع) وما لم تنطبع على ذواتنا سلوكيات من خصاله الراقية فلا نستطيع أن ندعي الإستفادة من مجالسه والتعلق بشعائره, فماذا أثرت تلك الدمعة في نفس لم تغالب كبرياءها؟ ولم تستطع أن تمسح درن الغرور وماذا يفعل حب لم يتمكن من إزالة الحقد والكراهية من أدغال نفس تغلي بطوفان الأضغان. أيشبه حبنا هذا حب الحسين؟ الذي يبكي على ذوات استلت صوارمها لتقطع جسده .
وبذلك السماح المنقطع النظير وبذلك السمو العزيز خلدت روح الحسين يقتفي أثرها أصحاب الطموح الشامخة ولنا في كل لفتة من لفتات حياته الزاخرة تساؤل وعلامة استفهام تستوقفنا. وتدعونا للتأمل في كل مغزى وتصنع إستفهاما يقول لنا ماذا يريد الحسين؟!.
التعليقات (0)