لقد كشف الإمام الشهيد عن برنامجه وخطته التي دفعته إلى الثورة والخروج، وكأنما أراد أن يسجل على الباطل بطلانه، وأن يجعل للحق كوّة يرتفع منها صوته على الدوام، وكذلك تم الأمر على أن يتعالى من هذه الكوّة الصوت. إذ زلزل دولة الظالم وحطّم سلطان الباغي وفرق العادي كل ممزق وأدال به إلى حيث المهوى السحيق.
هذا البرنامج الذي أثاره الإمام الحسين(ع) ووطّن نفسه عليه إلى النهاية، فمن فمه الطاهر الهادي، قال يخاطب الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: "أيها الأمير، إنا بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر وقاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالبيعة والخلافة".
ولم يلبث أن يعلن رأيه الصريح في فلسفة البيعة ومعنى الخلافة وصفة الخليفة، يقول: واجب الخليفة أن يستحيل القانون والشريعة في نفسه وجداناً وضميراً وعاطفة وصدىً شعورياً عميقاً، وإلا كانت خيانته أقرب إليه من نفسه، ودينه وتقاليده وعنعات الأمة جميعها، أهون عنده من عفطة عنز، "فإذا فسق الخليفة عاد على رأس الأمة شريراً، يقذف دائماً بالشر والشرر، ويرمي دائماً بالويل والثبور".
ثم ينتقل الإمام(ع) بنا إلى روح المبايعة ومعنى العهدة وفلسفة الخلافة، وهنا يلزمنا الكثير من الأناة والتفهم، لأن الإمام يجمل كل معناها في كلمة واحدة وهي: "ومثلي لا يبايع مثله".
هذا معنى البيعة في منطق الحسين(ع) وهذه فلسفتها عنده، وهي الحقيقة لمن تدبرها، ومن ثم كان لها تبعات ثقيلة الإصر لا يتحملها الكبير بسهولة.
عظمة المبدأ من أراد أن يلتمس عظمة المبدأ عند الحسين(ع)، يجده في وصيته لأخيه محمد ابن الحنفية حيث يقول: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين".
وفي تصريحه الخطير في بيت الإمارة وفي حظيرة الحكم ورواق السلطة الذي أعلن فيه رأيه بدون مبالاة ولا وجل ولا خوف، ورد على الوليد وملء قوله جأش رابط وشجاعة نادرة واعتداد بالمبدأ واستحكام في العقيدة وقد جاء في الروايات:
دعا الوليد وهو والي المدينة الحسين(ع)، ونعى له معاوية، فاسترجع، وقرأ له كتاب يزيد في أخذ البيعة، فقال الحسين(ع)، إني لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سراً حتى أبايعه جهراً فيعلم الناس ذلك، فقال الوليد: أجل، فقال الحسين(ع): تصبح وترى رأيك في ذلك، فقال الوليد: انصرف على اسم الله تعالى حتى تأتينا مع جماعة الناس؛ فقال مروان للوليد: والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً، ولكن احبس الرجل لا يخرج حتى يبايع، أو تضرب عنقه، فقال الحسين(ع) لمروان: ويلي عليك يا ابن الزرقاء، أأنت تأمر بضرب عنقي أم هو، كذبت والله ولؤمت، ثم التفت إلى الوليد، وقال: "يا أمير، إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد فاسق فاجر شارب الخمر قاتل النفس المحرمة معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالبيعة والخلافة".
فقال الوليد: ويحك، إنك أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي، والله ما أحب أن أملك الدنيا بأسرها وإني قتلت حسيناً، سبحان الله أقتل حسيناً لما أن قال لا أبايع.. والله ما أظن أحداً يلقى الله بدم الحسين إلا وهو خفيف الميزان لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم.
عظمة المضاء
والإمام الحسين(ع) يتسم بعظمة التصميم والعزم النافذ وتوطين النفس إلى النهاية، وقد جاء ذلك في قوله: "الحمد لله، وما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عُسلان الفلوات بين النواميس وكربلا، فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقربهم عينه وينجز بهم وعده، ألا فمن كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى".
وفي جوابه لابن عمر لما أشار عليه بصلح أهل الضلال، وحذره من القتل والقتال فقال: "يا أبا عبد الرحمن، أما علمت أن من هوان الدنيا على الله، أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل".
عظمة الإبـاء
أبى الإمام(ع) أن ينحني لكبرياء الظالم، فقال: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد، يا عباد الله إني عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب".
البطــولـة
ولعل أبرع تجليات بطولة الحسين(ع) كانت في هذا الموقف حيث يقول: "قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بد منه، فإن هذه السهام رسل القوم إليكم"، فاقتتلوا ساعة من النهار حملة وحملة، حتى قتل من أصحاب الحسين(ع) جماعة، فعندما ضرب الحسين(ع) يده إلى لحيته وجعل يقول: "اشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً، واشتد غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتد غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه، واشتد غضبه على قوم اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم، أما والله لا أجيبهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي".
ثم ضرب الحسين(ع) مثالاً في كيف نخدم قضايانا المقدسة، وهذا الجانب يدخل في أمس حاجاتنا، فنحن في مرحلتنا الجهادية التي نشمر فيها عن ساق، حري بنا أن نعرف أولاً كيف تخدم القضايا العامة. وهذا الدرس لن نعرفه على وجهه إلا عند الحسين(ع)، فإن جميع من يعرفنا التاريخ بهم مناشىء الرجالات في شتى الأمم، لا نجد بينهم من يجيء مع الحسين(ع) قريناً، ولن نجد في التاريخ له مثلاً ولا نظيراً، وإنما نجد إنساناً يندفع على الموت كما يندفع الطفل على الحياة بكل جوارحه واستعداداته، فهي تجتمع عند الطفل لكي تحيا، وتجتمع عند البطل لكي تموت، وفي حيوانية حياة الطفل سر الموت، وفي موت البطل سر الحياة..
...إنه أعطانا شكلاً للزعيم المكافح الذي إذا خاض معركة الحق والباطل فإنه لا يعود إلا بأن ينتصر به الحق أو بأن ينتظر، وانتصار الحق مما ليس منه بد، وإن كان للباطل صولة، وللمبطل دولة، ولكن إلى حين..
التعليقات (0)