في موسم عاشوراء، وفي غيره من المواسم، نحتاج إلى أن نتفهّم حركة الإمام الحسين (ع) فهماً واعياً منفتحاً على القضايا الأساسية كلّها، التي تماثل القضايا الّتي انطلق منها الإمام الحسين، لأنّ المسائل الّتي كان يفكّر بها الحسين (ع) لم تكن من المسائل الفريدة في الحياة، بل كانت نموذجاً لقضايا تسير في الزمن كلّه وتوجد في كلّ مكان.
لذلك لا نريد أن نتطلّع إلى كربلاء لندرس كيف كان موقف الإمام الحسين (ع)، ثم لا يكون لنا أي موقف مماثل من القضايا الّتي تكون في الدرجة نفسها من الأهمية لما ثار الإمام الحسين من أجله.
الحسين ومبايعة يزيد
لقد دعي الإمام الحسين (ع) في المدينة إلى مبايعة يزيد على خلاف قناعته، لأنّه كان لا يجد فيه الأهليّة للخلافة، وكان يجد نفسه هو المؤهّل الشرعي لأن يكون خليفة المسلمين. وأرادوا أن يفرضوا عليه الموقف ليبايع من خلال القوّة الّتي يهدّدونه بها. ولم يشأ الإمام الحسين (ع) أن يدخل أية معركة في المدينة أو مكّة، فخرج من مكة قاصداً العراق، بعد أن أرسل إليه أهل العراق رسائلهم الكثيرة.
وانطلق إلى كربلاء، وطُرِحَ عليه أن يخضع ليزيد، وأن يضع يده في يده، وأن ينـزل على حكمه ليتصرّف كما شاء. ولم تقتصر المسألة في عقدة تولي ابن زياد الكوفة من قبل يزيد، بل طلب منه هذا الأخير أن ينـزل على حكمه بالإضافة إلى نـزوله على حكم يزيد بن معاوية، وهكذا أُريد للإمام الحسين (سلام الله عليه) أن يقول لابن زياد: أُحكم عليّ بما تريد.
إن الإمام الحسين (ع) لا يمكن أن يقبل ذلك، كأي إنسان حرّ الذات يأبى أن يخضع للآخرين، والمسألة إلى جانب ذلك، أنّه (سلام الله عليه) لا يريد الخضوع للانحراف، ولا للظلم ولا للطغيان. وعلى هذا الأساس، كانت المسألة بالنسبة إليه مسألة الموقف العزيز للحق وللعدل، في مواجهة الموقف الذليل لحساب الباطل والظلم. ولهذا علّل الإمام الحسين (سلام الله عليه) رفضه لذلك في قوله: {يأبى اللَّهُ لَنا ذلكَ ورسولُه والمؤمنونَ»(1)، كأنّه يريد أن يقول: إن الإنسان عندما يتصرف أيَّ تصرف في الحياة، فلا بدّ له من أن يحصل على الشرعية في التصرّف.
فإذا أردت أن تخضع لأي شخص، فلا بدّ لك من أن تعرف هل أن خضوعك هذا شرعي يقبله الله ورسول الله في شريعته، أو أن خضوعك ليس شرعياً؟ فلا بدّ للمسلم من أن يجعل كل مواقفه في خطّ إسلامه، فلا يتحرّك إلاّ بما يريد الله له أن يتحرّك فيه، ولا يقف إلا حيث يريد الله له أن يقف.
لقد رفض الإمام الحسين (ع) الخضوع ليزيد الّذي يمثّل سلطة الانحراف عن خط الله ورسوله، ويمثّل السلطة الظالمة، وكان يزيد يحاول أن يظهر بمظهر المسلم، فهو يصلّي الجمعة والجماعة بالمسلمين، ويصوم شهر رمضان، ولكنّه يمثّل الإنسان المنحرف في فكره، وفي سلوكه، وفي عمله في جانب الحكم العام للأُمة، وفي جانب الانحرافات الشخصية في لذّاته وشهواته.
لقد تمرّد الإمام الحسين (ع) على يزيد، ورفض أن يخضع له، وصمّم أن يواجهه بكل قوّة حتّى الاستشهاد وهو المحاصر من جميع الجهات. ورغم أنّه عاش حالة العطش ومشكلة الأجواء المأساوية الّتي تحيط به من خلال النساء والأطفال، فإنّه لم يخضع، لأنّه أراد أن يبقى عزيزاً كما أراد الله أن يبقى.
بين كربلاء والواقع الإسلامي المعاصر
لننفصل عن كربلاء ولنأت للواقع الإسلامي كلّه. ففي الواقع الإسلامي في كل بلد إسلامي هناك أكثر من حكم يماثل حكم يزيد، ويفوقه طغياناً وانحرافاً وكفراً. فالمسلمون يخضعون في غالبية بلدانهم لحكم لا يطرح الإسلام حتّى بالمستوى الّذي كان يطرحه يزيد، وإنمّا يطرح غير الإسلام من خلال العناوين الجديدة للحكم الّتي جاءت بها الفلسفات الأوروبية، والّتي تعمل على أن لا تجعل للدين أيّة علاقة بحياة النّاس وواقعهم. حتّى إن الإنسان لا يسمح له أن يتحدّث عن الإسلام. وإذا تحدث عن الشريعة الإسلامية وتطبيقها، قالوا: هذا أصوليّ متطرّف، وقالوا: هذا رجعي متزمّت، وهذا سلفي يريد أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
بعض الناس لا يكلّفهم الحسينُ (ع) شيئاً، لأنّهم يكتفون من الحسين أن يبكوا عليه، ولكنهم يقتلون في كل يوم ألف حسين في العالم الإسلامي من خلال خضوعهم للكفر والكافرين.
هل إن الخضوع ليزيد بن معاوية أكثر ذلاً، أو إنّ الخضوع للذي يحكم باسم الكفر حيث يتحرّك الاستكبار العالمي، ليسحق كلّ مقدراتنا السياسيّة والاقتصادية والثقافية والاجتماعية يمثل الذل الأكبر؟
إذا كان الحسين يقول: يأبى الله أن نصافح يزيد وابن زياد، فهل يرضى الله لنا أن نقبّل اليد الأميركية، أو نقبّل اليد الّتي تعمل على أساس أن تقبّل اليد الأميركية؟
إن من يرفض خضوع الحسين (ع) ليزيد وابن زياد، لا بدّ أن يرفض خضوع أبناء الحسين وأتباعه وجنده لأمريكا ولعملاء أمريكا.
الإسلام وحركة المسؤولية
ربمّا لا نجد في الواقع الإسلامي مناسبة أخذت تأثيرها وحجمها في العقل وفي القلب وفي التقاليد وفي حركة الواقع وفي الشعارات... كما هي قضية الإمام الحسين (ع)، التي لا تزال تتفاعل في الحياة الإسلامية منذ الماضي، وحتى الحاضر، وامتداداً للمستقبل.
إنّ هناك روحاً إسلامية يشعر بها كل من سمع الحسين (ع) وعاش حركته وتعمّق بثورته، بحيث يجد حركيّة الإسلام في تلك الحركة، وفاعليته ومسؤوليته وإمكانية أن يبقى ليمدّ كلّ جيلٍ إسلامي بالجديد ممّا يمكن أن يحقّق له الأهداف الكبيرة في الحياة. فالإسلام ليس مجرد فكر نختزنه في عقولنا، وليس مجرد كلمات نردّدها على ألسنتنا، ولكنّه يمثّل بالإضافة إلى ذلك حركةً في مسؤولية الحياة. والّذي يعيش مسؤوليته هو الّذي ينسى ذاته ويفكّر أنّ علاقاته بالناس وبالأحداث، بل وحتّى علاقاته بأهله الأقربين، تتحرّك سلباً أو إيجاباً في خطّ المسؤولية.
وهذا ما عشناه في ما حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن النبي نوح (عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام) عندما قال: {ونادى نوحٌ رَبّه فقالَ رَبِّ إنّ ابني مِن أهلي وإنّ وعدكَ الحقُّ وأنتَ أحكمُ الحاكمين* قال يا نوحُ إنَّه ليسَ من أهلِكَ إنَّه عَمَلٌ غيرُ صالحٍ فلا تَسألني ما ليسَ لكَ به علمٌ إنّي أعِظُكَ أن تكونَ من الجاهَلين} (هود/45-46).
إن من كان قريباً لرسالتك فهو أقرب الناس إليك، وأبعد الناس عنك هو من كان بعيداً عن رسالتك. وهذا المعنى يجسّده الشاعر أبو فراس الحمداني:
كانت مودةُ سلمان لهم رَحِماً ولم يكن بين نوحٍ وابنه رحمُ
هكذا يعيش الإنسان المسؤول مسؤوليته، بحيث تتدخل في عمق علاقاته، وفي كلّ مواقع الحركة في الحياة، بحيث يتقدّم عندما يجد أن مصلحة مسؤوليته الرساليّة في أن يتقدّم حتّى لو كانت الأخطار تواجهه، ويتأخّر عندما يرى أنّ المصلحة هي في أن يتأخّر حتّى لو رماه الناس بالضعف والجبن.
المسؤولية في حركة الحسن والحسين (ع)
هناك من يتحدّث عن وجود فرق بين شخصية الإمام الحسن وبين شخصية الإمام الحسين (سلام الله عليهما)، فيعتبرون أن الإمام الحسن (ع) كان شخصيةً مسالمة، فيما كان العنف هو الّذي يطبع شخصية الإمام الحسين (ع).
لقد كانت المسألة تماماً كما هي مسألة رسول الله (ص) قبل الهجرة وبعدها، وكما كانت قضية الإمام علي (ع) قبل الخلافة وبعدها.
لماذا لم يأذن رسول الله (ص) للمسلمين الذين كانوا يستطيعون التحرّك بصفةٍ فردية في مكّة ليواجهوا الضغط الّذي كان يفرضه عليهم عتاة قريش؟ ربّما كان بعض المسلمين يعانون الضعف، لكنّ آخرين كانوا يملكون القوّة، وربمّا كان بعضهم مرهوب الجانب لدى أهل مكّة، ومع ذلك، لم يأذن رسول الله (ص) لهم بالقتال، لأن المرحلة تطلبت أن يفتح الإسلام طريق الدعوة إلى الله _ سبحانه وتعالى _ في العقول والقلوب في ساحة مكة، حيث كان (ص) لا يريد إثارة خلاف ليقال: إنّ محمداً وقريشاً قد اختلفا، فتضيع الرسالة.
لقد كان (ص) يريد للرسالة _ آنذاك _ أن تكون الرسالة المضطهدة، حتّى يتحرك الناس ليعيشوها من خلال طبيعة الاضطهاد الّذي تعانيه، حتّى إذا ما استطاعت أن تصل إلى آذان كل الناس الذين يأتون إلى مكة لأسباب تجارية أو ثقافية أو دينية، انطلق النبي (ص) ليواجه قريش، وليهدّد مصالحها... فكانت واقعة (بدر) وكانت كل الحروب.
لماذا؟ لأن المرحلة الثانية كانت مرحلة صنع القوة في المنطقة، باعتبار أنها لا تخضع إلاّ للقوي. فالحق وحده لا يخضعها. لقد كانت المرحلة الأُولى هي أن يسمع الناس الكلمة، وكانت المرحلة الثانية أن تخضع المنطقة للقوة الّتي تعمّق التزام الناس بها.
وهكذا، فليس هناك خطأ في أن المسلمين لم يحاربوا في مكة أو في المدينة، ولكنها كانت مرحلة تهيّئ لمرحلة أُخرى. ويتحرك في المرحلتين أسلوبان إسلاميّان: أُسلوب اللين، حيث يكون اللين هو مصلحة الإنسان في الحياة ومصلحة الرسالة في الحياة، وأسلوب العنف عندما يكون العنف في مصلحة الإنسان في الحياة ومصلحة الرسالة في الحياة.
إن العنفَ حالةٌ طبيعية يحتاجها الإنسان في بعض مواقعه، والرفق حالةٌ طبيعيةٌ كذلك يحتاجها الإنسان في مواقع أخرى. فالكون يختزن الاثنين معاً. وفي الحياة الطبيعية، نجد العواصف العاتية الّتي تدمر الأشجار، وتهدد الديار، وبعد ذلك نجد النسيم العليل الّذي ينعش الهواء والحياة. وفي ذلك كلّه، تحتاج الحياة إلى العواصف، كما تحتاج لى النسيم العليل، لأنّ لكل فصل حاجاته في طبيعة ما يحيط به، فالمسألة ليست مسألة مزاج.
إن الإمام الحسن كان عنيفاً في رسائله الّتي كان يرسلها إلى معاوية. وعندما اندفع (ع) في الحرب، اندفع بعمق، وأراد من الناس أن يتحركوا نحوها بجدّية. لكن الأُمة كانت قد تعبت من الحرب ومن آثارها، في الوقت الذي كانت تعيش الفوضى في مشاعرها وأفكارها، حتى إنها خالفت رأيه ومنعته من أن يستكمل خطّته، لأنها كانت تتحرّك في أجواء غير سليمة.
وهكذا انطلق الإمام الحسن (ع) بعسكر لا يملك أية فرصة للثبات أو للانتصار. قد يقول بعض الناس: ليس من الضروري أن ينتصر الإمام الحسن، لماذا لم ينطلق في خط الاستشهاد كما انطلق الإمام الحسين (ع)؟
لو أن الإمام الحسن (ع) انطلق بالحرب لما بقي الإمام الحسين (ع)، ولما بقيت كل تلك المعارضة، ولأصبح الجوُّ كله من خلال عنوان واحد وخط واحد.
إن صلح الإمام الحسن (ع) لم يكن حالة ضعف أو حالة هروب من الشهادة. لقد كانت القضية أن يفسح الإمام الحسن (ع) بهذا الصلح المجال للناس ليدرسوا الأُمور على الطبيعة، لتتحرك المعارضة من خلال أن هناك واقعاً يُنمّيها ويُنمّي قواعدها، مع إمكانية أن يسمح المستقبل بالحركة، وهكذا كان، إذ لم تمض سنون على ذلك إلاّ وكانت هناك قاعدة تنتقد، وتعترض، وتشير...
وكانت انطلاقة الإمام الحسين (ع) هي الصدمة الّتي أراد (ع) من خلالها أن يصدم الواقع حتّى يهزه هزةً عنيفةً من الأعماق، من أجل أن تؤثر تلك الصدمة في المستقبل عندما ينفتح الناس على قضية الحسين (ع) ليفكروا:
كيف انطلقت وكيف عاشت وكيف تحركت؟
لهذا: فإنّ أسلوب الإمام الحسن (ع) كان أُسلوب المرحلة في حركة الإسلام، وأُسلوب الإمام الحسين (ع) كان أُسلوب المرحلة أيضاً.
إذ ما قيمة أن يقف المرء ضد التيار دون الاستعداد الكافي لذلك؟
الجهاد ودفع العدوان
إن هناك من يفكّر بأنّ قصة الجهاد انتهت باستشهاد الحسين (ع)، وعلينا أن ننتظر إلى أن يأتي صاحب العصر والزمان المهدي المنتظر (عج) ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً. المسألة ليست كذلك. المسألة هي أن لك الحق في أن تدفع العدوان عن نفسك، وإذا دفعت العدوان عن نفسك فلست معتدياً: {فَمَنِ اعتَدى عليكُم فاعْتَدُوا عليهِ بمثْلِ ما اعَتدى عليكُم واتَّقوا اللَّهَ واعلَمُوا أنَّ اللَّهَ معَ المتَّقِين} (البقرة/194).
إن هناك خطة تريد أن تحيّد المسلمين والمستضعفين من غير المسلمين عن المعركة ضد الاستعمار وضد الصهيونية، بداعي أن السلام هو الّذي يخدم الناس.
نحن مع السلام، ولكن السلام الّذي لا يأكل حريتنا، ولا يضطهد عدالتنا، ولا يخنق إنسانيتنا.
بين الحبّ والموالاة
بعد مرور قرون طويلة على ثورة الإمام الحسين (ع)، ماذا يعني إثارة تلك القضية؟ إنّه يعني أنّنا لا نزال (نلتزمه)، في حين نجد بعض الناس يقولون: لا نزال (نحبّه). ولكني لا أُريد أن أتوقف عند هذه الكلمة، فعلينا أن نضيف إلى كلمة (الحب) كلمة الموالاة.
وهناك فرق بين أن تحب أهل البيت وبين أن تواليهم، وبين أن تتعصّب لأهل البيت وبين أن تلتزمهم، فالحب يمثّل حالةً عاطفيةً، فيما يفرض عليك ولاء أهل البيت أن يكون الله وليّك. من هم أولياء الله؟ إنهم ليسوا أولياءنا بأشخاصهم، ولكنّهم أولياؤنا برسالتهم، وبحبهم لله (سبحانه وتعالى)، ولذلك كانت ولايته لهم حركةً في خط ولايتنا لرسول الله (ص)، وفي خط ولايتنا لله (سبحانه وتعالى).
{إنمَّا وليُكّم اللَّهُ ورَسولُهُ والّذينَ آمنَوا الّذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ ويُؤتونَ الزَّكاةَ وهُم راكِعُون} (المائدة/55).
ومعنى أن تكون ولياً لله، أن تكون مخلصاً لله بقدر ما كان أهل البيت (ع) مخلصين له، وتتحرّك في خط الله بقدر ما كان أهل البيت (ع) متحركين في خطه.
إن الحبَّ وحده لا يكفي فيما الولاية تعني الالتزام بالموقف، والموقف فكرٌ تلتزمه وعاطفةٌ تعيشها وخطواتٌ تتحرّك فيها... أجل: فما معنى أن تحب أهل البيت (ع)، وأنت تلتزم خطّاً غير خطّهم، ونهجاً غير منهجهم، وفكراًً غير فكرهم، وهدفاً غير هدفهم...
لقد وقف أكثر المسلمين يومئذٍ بين المبادئ والعاطفة، بين الفكرة غير المستقرة وبين المال والجاه، وفضّلوا المال على الفكرة وعلى العاطفة، هذه تجربة عاشها الناس في الماضي.
وإذا أردنا إثارة مسألة الإمام الحسين (ع)، فلا نستغرب كيف قتل الإمام الحسين (ع) وكيف قُتل أخوه العباس (ع)، وكيف قتل ولده علي الأكبر، هذه مسألة يمكن لنا أن نعيشها، لكن لنحدّق بأنفسنا من خلال كربلاء، فلو كنّا في ساحة كربلاء، فهل تكون شخصيتنا شخصية عمر بن سعد أو شخصية الحر بن يزيد الرياحي؟
إن استيعاب الإجابة عن تلك التساؤلات إنما تكون من خلال الموقف.. مع من وفي أي خطّ، لو جاء الحسين (ع) وليس معه إلا القلة، وجاء عمر بن سعد ومعه الرجال والسلاح والمال، ودارت أنظارهم بين الحسين (ع) وبين خصومه، فهل يمكن القطع بالوقوف إلى جانب الإمام الحسين؟
إنَّ التزام قضية الإمام الحسين (ع) تحمّلنا مسؤولية أن نقف حيث وقف، وأن نتحرّك حيث تحرك. إنّه كان يتحرك من أجل طلب الإصلاح في أُمة جدّه، فهل نتحرّك في خط الإصلاح في أُمة جدّ الحسين (ع)؟ كان يتحرك في خط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلنتحرك في هذا الخط. الحسين كان ينفتح على الله بكل حياته، ويضحّي في سبيل الله بكلّ حياته، فهل نحن كذلك؟
يجب أن لا نعتبر العظماء الذين نقّدسهم ونتقرّب إلى الله بهم أشخاصاً انتهوا إلى صفحات التاريخ، بل يجب أن يستمروا إشراقاتٍ في كلِّ طرقنا المظلمة، {إنّما يُرِيدُ اللَّهُ ليُذهبَ عنكُم الرِّجْسَ أهلَ البيتِ ويُطَهِّرَكُم تَطهيراً} (الأحزاب/33).
وأهل البيت يحتاجون إلى أتباع أطهار يعيشون طهر أهل البيت الفكري في طهرهم الفكري، وطهر أهل البيت العاطفي في طهرهم العاطفي، ويعيشون طهر أهل البيت الحركي في طهرهم الحركي... إنه الطريق الّذي يتّبع الحق، وينتهي بالجنّة.
بالمعرفة والإرادة نصنع التاريخ
ولكن كيف نوظّف عاطفتنا نحو كربلاء باتّجاه قضايانا المعاصرة؟
حين نريد أن ننطلق في حياتنا كما أراد الله لنا أن ننطلق، فلا بدّ أن نتوازن في عاطفتنا، فنعطي العقل جرعةً من العاطفة حتى لا يبقى العقلُ جامداً، ونعطي العاطفة جرعةً من العقل حتى لا تكون العاطفة مائعةً. لهذا، فعندما نستقبل قضية الإمام الحسين (ع)، فإن عنصر المأساة يجتذبنا، على أنّ كلَّ إنسان يتأثّر بعناصر المأساة عندما يواجهها أو عندما تُذكر أمامه.
ولهذا، فمن الطبيعي لنا _ ونحن نحب أهل البيت (ع) _ أن تتحرك عواطفنا وتسيل دموعنا عندما نتذكّر مآسيهم.
إننا مسؤولون أن نكسب ما يريدنا الله أن نكسبه في حركتنا في الحياة. فلدينا عقلٌ، ولا بدّ للعقل أن يكتسب المعرفة ويتحمّل مسؤولية المعرفة، ولنا إرادةٌ، ولا بدّ لهذه الإرادة أن تتجلى في الحياة، ولنا طاقات، ولا بدّ لهذه الطاقات أن تعبّر عن نفسها في كلّ المواقف الّتي تتطلب ذلك.
إذاً فالله يسألُنا: كيف يمكن أن نكسب رضاه، وكيف يمكن أن نكسب القضايا الكبيرة الّتي يحبّها؟ ولذلك لا بد لنا أن نحرّك عقولنا، حتى لا نكون من الذين يملكون عقولاً لا يعقلون بها، وأن نحرّك أسماعنا وأبصارنا، حتى لا نكون من الذين يملكون أعيناً لا يبصرون بها وآذاناً لا يسمعون بها.
إنّ الله يريد من الإنسان اكتساب المعرفة والثقافة.
إننّا مسؤولون أن نصنع تاريخاً، وأن نُبْدِعَ حياةً، وأن نحرّك طاقةً، وأن نجسّد موقفاً في الحياة... تلك هي مسؤوليتنا.
فما علاقة كربلاء بنا وما علاقتنا بكربلاء؟
بين التاريخ والواقع
عندما نريد أن ننفتح على الحسين (ع) في عاشوراء، فإن هذا الانفتاح لا يجب أن يكون استغراقاً في التاريخ لننسى الواقع، كما يفعل كثير من الناس، فليعنون يزيد ألف مرّة وهم يحتضنون ألف يزيد. في كل يوم ألف مرة يلعنون الذين قتلوا الإمام الحسين (ع) «فلعَنَ اللَّهُ أُمةً قَتلتْكَ، وَلَعن اللَّهُ أُمةً ظَلَمتْكَ، ولَعَنَ اللَّهُ أُمّةً استحلَّتْ مِنكَ المحارمَ وانتهكَتْ حُرْمَة الإسلام»(1).
إن رفض ذلك الواقع في التاريخ يستلزم رفض الواقع المماثل الّذي نعيشه، أو الواقع الأكثر خطورةً الّذي نواجهه. إننا نواجه اليوم مشاكل كثيرة أكثر خطورةً من المشاكل الّتي واجهها الإمام الحسين (ع) في عصره، ونشهد حالة ظلم أكثر من الظلم الّذي واجهه الإمام الحسين في عصره، ولكنّنا لا نتحرّك خطوةً واحدةً في هذا الاتجاه.
إننا لا نتطلّع إلى شيء في التاريخ، ولكنّنا نتطلّع إلى واقع هذه الأجيال المسلمة الّتي تربّت على كربلاء، والّتي عاشت في مشاعرها وأحاسيسها وأفكارها أحاسيس الكربلائيين ومشاعرهم. لقد استطاعت أن تصنع لنا الثورة، لذلك كانت كلمة الإمام الخميني (رضوان الله عليه): «كلُّ ما عندَنا من عاشُوراء»، لأن عاشوراء هي الّتي ربّت كل ذلك الجيل الّذي تحرك مع الإمام الخميني في ثورته قبل انتصار الثورة، وتحرّك معه بعد انتصار الثورة، وهو الّذي خاض الحروب معه في إيران، وضد الاستكبار العالمي في لبنان وفي أفغانستان، وفي كل مجال.
إنها كربلاء، وكربلاء استطاعت أن تصنع جمهوراً للحسين (ع) يتحرّك في كل زمان ومكان، ليصنع لنا أكثر من كربلاء وأكثر من موقع في خطّ الإمام الحسين (ع)
التعليقات (0)