فِي ذِمّةِ التَّارِيْخ
التقادم أمام الأحداث والأيام هو كـ " خزان مثقوب القعر تتسرب منه الذاكرة " كما يقول ماكيز، لذلك فهو يدعو إلى الاعتماد على ذاكرة الورق لمن لا ذاكرة له . ومن يُفرِّط في هذه الحكمة لا أظنه قادراً على الإمساك بالتاريخ بشكل لائق .
في لبنان وجوه الإشكال متعددة، لكنها تضيق عند مآلاتها . فالأدوات لبنانية، والشخوص والأذرع أيضاً، لكن المانع من إكمال مشهد " اللبننة " ذاك هو الإصرار على صناعة بلد بأوصاف محددة دون اكتراث لقسماته المتممة .
الغريب في الأمر أن يصبح نقاء القضية وشدة جلائها عاملاً في تكريس كمونها وضبابيتها ! فالكيان الصهيوني وعبر مسئوليه السياسيين والأمنيين ومراكز أبحاثه يصرحون جهاراً وهمساً عن دعمهم لحكومة فؤاد السنيورة لأنها نافعة لأمنهم وحدودهم .
والولايات المتحدة تتحدث صراحة عبر بيتها الأبيض ووكالة استخباراتها وعبر مجلس الأمن عن دعمها أيضاً، وترسل وفودها السياسية والعسكرية لتصليب هذه الحكومة، إلا أن البعض لا يزال يتحدث بلغة غير مفهومة عن خطر حزب الله الطائفي وعمالته لسورية وإيران ! .
ما يزيد الأمر سوءاً هو أن تقوم الموالاة في لبنان بتكويم مجاميع الناس تحت عناوين مذهبية ثم تطوعهـم لاستساغـة مشروعـات الأمركـة، بل الأكثر مـن ذلك هـو الإيغال بهم نحو " ضرورة " المفاضلة بين حق صريح وباطل قبيح ! في تعدٍّ غير آمن على حق الفرد في أن يدرك عمقه الأمني ومستقبله السياسي بشكل سليم .
الأسف كل الأسف أن يتحول البروفيسور الأميركي نورمان جاري فنكلستين (الذي يعتبر سليلاً لأحد الناجين من الهولوكوست) إلى مدافع عن حزب الله، في حين تتصهين طبقة سياسية في لبنان وخارجه عبر تحالفها مع الأميركي ومع الراقدين على حَسَكِ الطائفية لتقيم مفرزة الجهاد ضد من يستحقون القتل .
والأسف كل الأسف أيضاً أن يظهر السياسي البريطاني جورج غالاوي ليقول إنه لولا وجود حزب الله لكان لبنان بلداً محتلاً، في حين يصر البعض على تسمية سلاح المقاومة بأنه سلاح الغدر ! (راجع تصريحات وليد جنبلاط) أو ينبري أحد ليقول إن السيد نصر الله هو سيد المرتزقة لا سيد المقاومة ! (راجع مقال بهاء أبوكروم) .
وربما استحضر الآن من دون " عجب " ما أخرجه ابن مزاحم، أنه قد برز شاب من المحازبين ضد علي بن أبي طالب (ع) فشد فلا ينثني يضرب بسيفه، ثم جعل يلعن علياً (ع) ويشتمه ويسهب في ذمه، حتى قال " فإني أقاتلكم لأن صاحبكم (الإمام علي) لا يصلي " !
وأمام إيلام التاريخ ولوثته، يُشاع اليوم أن حزب الله هو حزب طائفي وقاتل ! وأن قتاله الجيش الصهيوني هو خدمة للمشروع السوري الإيراني ! في استدارة فجَّه لجزء يسير من تاريخه القريب بحده الأدنى ولو عبر حرب المخيمات .
اليوم أصبحت حرب تموز التي كسرت الصهيوني في روحه، وأماتت لديه أزلية نشوة النصر، إلى مشروع تآمر على لبنان والمنطقة ! وتُصبح الأطراف الناعمة المتماهية مع الخطاب الامبريالي هي صاحبة المشروع الديمقراطي والتنموي والحر .
ربما سيكون ما يجري الآن في ذمة التاريخ يوماً ما، فيُستشهد به على واقع أرعن قاد أصحابه إلى ما وصل إليه آل ساسان من الضعف والهوان بعدما كان لهم من شدة الأركان، لأنهم ولَّوا كبار أعمالهم صغار رجالهم .
التعليقات (0)