العلامة حسن النمر : إن الحسين يشكل مفردة من مفردات الأيديولوجية القرآنية .
أجرت وكالة الأنباء القرآنية هذا الحوار مع سماحة العلامة الشيخ حسن النمر أبرز علماء الشيعة فی العربية السعودية و تحديدا فی مدينة الدمام حول شهر محرم الحرام . فيما يلی نص الحوار :
سماحة الشيخ .. كيف انطلقت الثورة الحسينية من القران؟ وكيف نوفق بين المنهج الحسينی والمنهج القرآنی ؟
(العلامة الشيخ حسن النمر): ثورة الإمام الحسين (ع) ونهضته لا يمكن فهمها واستيعابها بشكل صحيح دون التعرف على موقع الإمام الحسين (ع) من مشروع الإسلام نفسه. وبالرجوع للقرآن الكريم والسنة المطهرة نجد أن الحسين (ع) وأهل البيت المعصومين عموماً يشكلون مفردات من مفردات الرؤية الأيديولوجية الإسلامية، بحيث إننا لن نحظى بإسلام أصيل بدون قبول أهل البيت (ع). وهنا يمكننا أن نذكر الملامح التالية :
أولاً: أن أهل البيت (ع)، والحسين (ع) صاحب الثورة وقائدها أحدهم، هم مَن قال فيهم الله تعالى :{إِنَّمَا يرِيدُ اللهُ لِيذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيتِ وَيطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ، ليكونوا بذلك معصومين لا يقعون فی مخالفة لأوامر الله تعالى ونواهيه.
ثانياً: وبوصف الطهارة والعصمة المشار إليه يكون أهل البيت (ع) هم العارفين بحقائق القرآن والمدركين لبصائره وبيناته، لأن الله تعالى يقول عن القرآن {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِی كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْـزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ثالثاً: أن أهل البيت (ع) هم القناة الشرعية الوحيدة بعد رسول الله (ص) للوصول إلى ما أنـزله الله تعالى فی القرآن الكريم. وبدون الأخذ منهم والتلقی عنهم فسيكون المأخوذ جهلاً فی صورة علم. لأن الله تعالى :{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ، إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . ومن الواضح أنه لا فرق فی الأخذ من أهل الذكر بين أن يكون فی شكل السنة القولية أو فی شكل السنة الفعلية. وثورة الحسين (ع) جمعت بين السُّنتَين القولية والفعلية.
رابعاً: أن أهل البيت (ع) هو الذين أوجب الله تعالى مودتهم وجعلها أجر رسول الله تعالى :{قُلْ: لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْراً، إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَى. وَمَنْ يقْتَرِفْ حَسَنَةً، نَـزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً. إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} .
خامساً: أننا إذا رجعنا إلى ما ورد متوتراً عن رسول الله (ص) فی حق أهل البيت (ع) لوجدناه يؤكد أن مسيرتهم لا تنفصل عن القرآن. كما نجده فی مضمون ما ورد عنه (ص): إنی مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدی أبدا: كتاب الله وعترتی أهل بيتی. وإنهما لن يفترقا حتى يردا علیَّ الحوض) .
وإننا نعتقد جازمين أنه من دون هذه الرؤية الفكرية لمنـزلة أهل البيت (ع) فسيكون التحليل للنهضة الحسينية مبتوراً، بل سيترتب عليه الكثير من السلبيات كما وقع فيه بعض القاصرين من المسلمين سابقاً ولاحقاً.
ما هی الأسس والدوافع القرآنية التی أدت ثورة سيد الشهداء ضد الطغيان الأموی والتحريف القرآنی ؟
(العلامة الشيخ حسن النمر): بناءً على ما قدمناه فی الإجابة على السؤال السابق فإن منطلقات النهضة الحسينية هی منطلقات القرآن نفسه، وهذا هو أحد أسباب وصف الحسين (ع) بأنه وارث الأنبياء، كما نقرأ ذلك فی الزيارة المعروفة، ونقول: "السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله ! السلام عليك يا وارث نوح نبی الله ! السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله ! السلام عليك يا وارث موسى كليم الله ! السلام عليك يا وارث عيسى روح الله ! السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله ! السلام عليك يا وارث أمير المؤمنين عليه السلام ولی الله ...) . ويمكن إجمال هذه الأصول فی خمسة نذكرها فی ما يلی: الأصل الأول: القطيعة مع الظلم وإقامة القسط وهنا نقف على موقف قرآنی حاسم بقبح الظلم ونبذ الظالم فالله تعالى :{لا یُحِبُّ الظَّالِمِينَ} ، وهو سبحانه كلَّف الناس بأن لا يقبلوا وقوع الظلم عليهم، فقال تعالى : {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْیُ هُمْ ينْتَصِرُونَ} .
وما عاصره الإمام الحسين (ع) وشكل الجزء الأخير من علة نهضته هو حجم الظلم الذی شخَّصه بقوله (ع) :الظلم ألا ترون إلى الحق لا یُعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه) . فهو – إذن- لم يكن ظلماً يمكن السكوت عنه، بل إنه (ع) رآه بالمستوى الذی يليق بالمؤمن أن لا يلوث نفسه بالبقاء فی جوه، حتى قال (ع) : ليرغب المؤمن فی لقاء الله محقاًّ) ، معلِّلاً ذلك بقوله : إنی لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً) . ويدخل ذلك فی سياق ما كلَّف اللهُ الناسَ به، كما سمعه من جده رسول الله (ص)، فی قوله : أيها الناس ! إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل فی عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقاًّ على الله أن يدخله مدخله. ليضيف تشخيصه لحجم مخالفتهم بقوله (ع): ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفیء، وأحلُّوا حرام الله، وحرَّموا حلاله. وأنا أحق من غير) .
الأصل الثانی : محورية الحق؛ وفی هذا الأصل القرآنی نتعرف على أن القطيعة مع الظلم وإقامة القسط إنما يتحقق بشكل سليم إذا تمحور حول الحق الذی هو الله تعالى وما يصدر منه من أوامر ونواهٍ. فالنية السليمة وحدها لا تكفی، بل يجب أن يسعى الثائرون على الظلم أن يعرفوا الحق وأهله فالله تعالى هو الحق، قال تعالى :{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ، مَوْلاهُمُ الْحَقِّ. أَلا لَهُ الْحُكْمُ، وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} . ثم إنه أرسل رسله وأنبيائه بالحق، قال تعالى :{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً. وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} . وقد أراد الله تعالى أن يكون الإنسان خليفةً له على هذه الأرض، وينأى بنفسه عن الظلم، بالتزام خط التقوى، ولن يتيسر له ذلك بغير اعتماد الحق نهجاً فكرياًّ ومنهاجاً عملياًّ. ولهذا الحق معالم يمكن ذكرها فی محاور:
المحور الأول: حق الله تعالى؛ فإن لله تعالى حقاًّ فی هذا الكون، وفی عنق الإنسان خاصة لا يجوز له أن يقتحمها، ومن ثار عليهم الإمام الحسين (ع) لم يتورعوا عن الكفر بها قولاً وعملاً حتى قال فيهم (ع): ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن) . مع أن منطق القرآن يؤكد على {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَاسْمَعُوا، وَأَطِيعُوا، وَأَنْفِقُوا، خَیْراً لأَنْفُسِكُمْ. وَمَنْ یُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
المحور الثانی: طاعة الرسول (ص) ؛ وهذا الحق ينبثق من حق الله تعالى، فی ذلك يقول الله تعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِیُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} . وقال تعالى :{وَأَطِيعُوا اللهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وَاحْذَرُوا. فَإِنْ تَوَلَّیْتُمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} .
المحور الثالث: الإمام امتداد للنبوة؛ والإمامة كما ثبت فی محله امتدادٌ للنبوة فی الدعوة إلى الله سبحانه، قال تعالى :{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِی بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاّ الَّذِی فَطَرَنِی فَإِنَّهُ سَیَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِیَةً فِی عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ} . فقد شاء الله تعالى أن تبقى شعلة التوحيد وهداياته كلمة خالدة يحملها الصفوة من الناس، وقد اصطفى لها جماعة من الناس هم إبراهيم وآل إبراهيم كما تنص عليه الآيات الكريمة، فقال تعالى :{إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّیَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. واللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . وبدون العمل وفقاً لهذه المحاور الثلاثة فلن نصل إلى الحق الصراح. وبالتالی سنقع فی الظلم بعلم أو بغير علم، ولن يشفع لنا أن تكون النوايا حسنة.
الأصل الثالث: الدين ومعارفه؛ وإذا كنا ممن ينشد الحق ويسعى أن لا يقع فی ظلم فإنه بحاجة إلى قاعدة فكرية وتربوية تعينه على الوصول إلى الحق ومعالمه ومفرداته، والقرآن يؤكد على أنه ليس شيئاً آخر غير الدين والمعارف الدينية، لتحقيق غرضين اثنين: الأول: تمييز الحق من الباطل والثانی: ترويض النفوس لقبول الحق.
قال تعالى : {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ، يتْلُو عَليكُمْ آياتِنَا، وَيزَكِّيكُمْ، وَيعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِی أَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوا لِی وَلا تَكْفُرُونِ * يا أَيهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ! اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} . والذی رآه الإمام الحسين (ع) هو أن الدين أصبح ألعوبة بيد هؤلاء الظالمين وكان لا بد من تحريره من أسره، ولم يكن ذلك ميسوراً بغير الثورة والنهضة.
الأصل الرابع: الإنسان وكرامته؛ للإنسان فی الرؤية الدينية الصحيحة كرامة ومنـزلة لا تدانيها منـزلة شیء آخر، فقد جعله الله خليفته، فقال تعالى :{وَإِذْ قَالَ: رَبُّكَ، لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّی جَاعِلٌ فِی الأَرْضِ خَلِيفَةً!} . وحامل أمانته فقال تعالى : {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَأَبَیْنَ أَنْ یَحْمِلْنَهَا، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ. إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} .
وقد اشترط القرآن للحفاظ على هذه الكرامة أن يكون من أهل التقوى، فقال تعالى :{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ. إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ، فجعل ميزان التفاضل بين الناس يدور مدار التفاضل بينهم فی التقوى، فمن كان أتقى فهو أكرم، إذا أضفنا ذلك نتحصل على درجة عالية من الوضوح بأن ثمة ترابطاً عضوياًّ بين الكرامة والتقوى. فالدين الذی قاتل الحسين (ع) ونهض من أجله إنما هو – فی بعده التشريعی - إجراءات ربانية لحفظ كرامة الإنسان.
الأصل الخامس: الهدم البنَّاء؛ ونقف هنا على الوسيلة الصحيحة لتحقيق الغايات السامية، وهی : أولاً: الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر، قال تعالى :{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَى الْخَيرِ، وَيأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَينْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . ثانياً: الجهاد فی سبيل الله، قال تعالى :{وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِی سَبِيلِ اللهِ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ، مِنَ: الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ، وَالْوِلْدَانِ، الَّذِينَ يقُولُونَ: رَبَّنَا ! أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْیَةِ، الظَّالِمِ أَهْلُهَا. وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ ولياًّ. وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} . وهما مترتبتان، بمعنى أن علينا اعتماد الوسيلة الأولى لمقاومة الظلم، فإن لم تنجع وتنجح وجب اعتماد الثانية. وهذا ما حصل فی ثورة الحسين (ع) لأنه استنفد الوسيلة الأولى، فلم تجد نفعاً فلم يجد بدا من التصدی للعمل المسلح. هذه أصول خمسة نحيل من أراد التوسع فيها إلى بحثنا (الأصول القرآنية للنهضة الحسينية).
الشعائر الحسينية كيف تستطيع أن تقوم بدورها فی تفعيل القرآن واستمرار الحركة القرآنية الإصلاحية بين الجموع، وأيضاً كيف نستخدم هذه الشعائر فی سبيل الوحدة الإسلامية ؟
(العلامة الشيخ حسن النمر): لا مجال للتشكيك فی فاعلية الشعائر الحسينية فی توثيق عرى الارتباط والولاء فی عقول ونفوس مقيميها. غير أن هذا لا يعنی تزكية كل ما يمارس بعنوان الشعائر. لأنها على أقسام: القسم الأول: ما هو منصوص لا يسوغ لمؤمن أن يتحفظ عليها. القسم الثانی: ما ليس منصوصاً، لكنه ينسجم تماماً والمقاصد العليا للإسلام وما اعتمدت من أجله. القسم الثالث: ما ليس منصوصاً، وقد يكون مشروعاً فی نفسه، كما أنه قد يكون أفاد فی فترة، لكنه لأسباب عديدة أصبح يشكل عبئاً على المذهب والمجتمع المؤمن، ومثل هذا لا ينبغی الإصرار عليه. وكمثال على ذلك (التطبير). الذی أفتى سماحة الولی الفقيه دام ظله بحرمتها، وأيده فی ذلك مراجع وفقهاء كثيرون . نقول ذلك لأن للنهضة الحسينية بعداً إسلامياًّ عاماًّ، بل وإنسانياًّ، لا يصح معه تقليص حضورها وتحجيم مضمونها. وبقدر ما نحسن التعريف بحقيقة النهضة الحسينية، وباللغة التی يفهمها الآخرون، فسنجعل من النهضة الحسينية محطة تحرر على مستوى العالم وليس على مستوى الشيعة فحسب .
كما تعلمون أن للمنبر الحسينی دور أساسی فی إرساء المنهجية القرآنية وتفعيل الفكر المنفتح الإصلاحی، وكان واجهة للمعارف القرآنية والسنة الشريفة، بينما فی وقتنا الحالی قد ترك دوره إلی الوعظ والبكاء والمصيبة، كيف يتم استعادة المنبر الحسينی إلی وسيلة للتعقل والتفكر كما كان ؟
(العلامة الشيخ حسن النمر): لا أسلِّم تماماً بأن المنبر الحسينی تحوَّل إلى وظيفة وعظية وبكائية بحتة، وإن كان من أهم ما على المنبر القيام به هو استحضار البعد العاطفی وتعميقه بين المؤمن وآل البيت (ع) بالتذكير بما جرى عليه، لأن للبكاء وتهييج العواطف دورٌ كبيرٌ ومهمٌّ فی تفعيل القناعات العقلية والوجدانية. أجل، بعض أصحاب المنبر اقتصر على الجانب العاطفی، واستبعد إلى حد كبيرٍ الجانب التعقلی، لأسباب قد يرجع بعضها إلى الخطيب وبعضها الآخر إلى المستمعين وما يحكمهم من أعراف وتقاليد، وبعضها الآخر إلى الظروف الحاكمة على هذا الطرف وذاك. وأما كيف يمكن تحويل المنبر الحسينی إلى القيام بهذه المهمة المقدسة فلعل من أهم ما يجب الإشارة إليه هو تبنی الحوزات العلمية فی الدرجة الأولى لتربية خطباء مؤهلين لتغطية النقص الحاصل فی هذا المجال، والدفع بهم إلى عالم المنبر مع توفير الدعم الكافی لهم من الناحيتين العلمية والعملية، ليكون متوفرين على شروط المبلغ الناجح. ولعل ذلك بحاجة إلى تأسيس كليات متخصصة فی هذا الشأن تتولى تخريج خطباء أكفاء يحيطون بمختلف شؤون النهضة الحسينية، قادرين على مخاطبة الشيعة وغير الشيعة بدوافع النهضة ومعطياتها وما يمكن استلهامه منها فی هذه المنطقة وتلك. لنجعل من العمل الخطابی عملاً احترافياًّ أبعد ما يكون عن الجهود الشخصية البحتة التی يوفق فيها بعض الناس دون بعض.
كما تعلمون، طبقاً للنص القرآنی، فإن الجهاد فی سبيل الله ورفض الظلم أمر مؤكد وواجب علی كل مسلم ومسلمة، وأيضاً هذا المنهج كان أساساً لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) .. برأيكم ما هی الأسباب التی جعلت تعظيم هذه الشعيرة منحصرة بالشيعة ؟
(العلامة الشيخ حسن النمر): مما يؤسف له هو مذهبة النهضة الحسينية وحصر الاهتمام بها بطائفة من طوائف المسلمين دون بقية الطوائف، وهذا ينبع من انحسار الأصالة عن الفكر الإسلامی السائد، بسبب الحكومات الظالمة التی هيمنت على الواقع الإسلامی . لذلك أرى أن من واجبات الشيعة اليوم الانتفاض على هذا الحصار بالتعريف الدقيق والحكيم بمنـزلة آل البيت (ع) فی الفكر الإسلامی، وبالدوافع الإسلامية الأصيلة التی فرضت على الإمام الحسين (ع) النهوض والثورة على الواقع الأموی الفاسد . وأرى أن علينا – كشيعة – أن نعمل بنفس طويل، وتخطيط دقيق، بعيداً عن الارتجال والحماس العاطفی، لأننا حملة رسالة يجب علينا أن ندعو إليها على بصيرة. وهذا يتطلب فهم الواقع الإسلامی وتعقيداته الشديدة . خصوصاً وأن للنهضة الحسينية بعداً شمولياًّ يتجاوز الجانب السياسی البحت، ليشمل الروح والعقل، وهما الأساس فی أی تحرك فـ{إِنَّ اللهَ لا يغَيرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يغَيرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ونحمد الله سبحانه على أن الواقع العالمی اليوم آخذ بتقليص الحدود والسدود التی فرضها الطغاة على نشر الفكر، ولكن هذا لا يعنی أن الطريق معبَّدة تماماً .
من الدوافع التی أدت إلی ثورة الإمام الحسين(ع) تخلص من الذلة وإرساء مبدأ الحرية فی المجتمع وهذا ما اكد الله تعالی فی آية157 من سورة الأعراف ..يا حبذا تشرح لنا هذا الموضوع ؟
(العلامة الشيخ حسن النمر): تشيرون إلى قوله تعالى " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْـزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " [الأعراف : 157] . وهذه الآية بحق من جلائل الآيات التی بينت مقاصد الشريعة وأهداف البعثة، والتی توضح للمتدبر فيها ما علينا أن نجعله خطة عمل للمسلم والمؤمن فی ما ينبغی أن يحمله كهمٍّ لفهم الشريعة أولاً، ولترويجها ثانياً. فهی تؤكد أن بُعدَ التحرر والتحرير الشامل هو من أهم ما جاء النبی (ص) من أجله. والمطلوب هو تحرير الناس من الأصر والأغلال التی وضعها الناس على أنفسهم سواء فی ذلك ما كان بإيحاء من الغير، أو ما كان نابعاً من الذات . ولذلك كان من أهم ما عمل عليه النبی (ص)، وجاءت النهضة الحسينية لترسی قواعده، باعتبار الحسين (ع) وارثاً للأنبياء (ع)، هو التغيير الداخل والتحرر الداخلی، لأن الإنسان ما لم يتحرر من هواجسه وأغلاله الداخلية فلن ينفع تحريره من محتل أجنبی من خارجه. وهذا بالتحديد ما أعتقد أن علينا التركيز عليه بشكل رئيس فی إحيائنا للنهضة الحسينية، لئلا يقتصر إحياؤنا للشكل على حساب المضمون.
التعليقات (0)