لا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ بِالفَارِسِيَّةِ إِلاّ فِيْ جَهَنَّم
لا يكاد ينقضي يومٌ إلاّ وكانت خاتمته تهديد أميركي لإيران ... ولا تكاد تنطفئ جذوة تصعيد دبلوماسي إلاّ وعادت لغة السلاح تفرض نفسها من جديد ومن على منابر مختلفة، فالتهديد بضربة عسكرية أميركية ضد إيران هو خيار قائم منذ سنين خلت لكنه يتراجع ويتقدم طبقاً للمتغيرات الإقليمية والدولية، ولحجم المصالح المتبدلة وعلاقات الدول بعضها ببعض، وذاكرة الصراع وثقافته بين النّدّين موصولة بأحد أمرين، الأول هو أن الولايات المتحدة الأميركية قد تورطت بشكل عملي في صراعات عسكرية مع الجمهورية الإسلامية، فهي ساعدت العراق في سنوات الحرب الثماني (1980 - 1988) على قصف جزيرة خارك وجزيرة سيري والمنشآت البترولية في منطقة لارك العام 1986، كما أن القوات الأميركية قامت مباشرة وعبر قواتها المرابطة في مياه الخليج بقصف جزيرة رستم ورصيفها البترولي وحقل رسالت وإغراق عدد من القطع البحرية الإيرانية، كما أسقطت البارجة الأميركية فينينس طائرة ركاب إيرانية من نوع (إيرباص) وعليها 290 راكباً بينهم إيرانيون وإماراتيين ويوغسلافيين وباكستانيين وهنود في الثالث من يوليو من العام 1988، وبالتالي فإن تاريخاً من الدم لا يزال حاضراً في ذاكرة الصراع .
الأمر الآخر وهو أن الولايات المتحدة وطوال تاريخها السياسي الحديث وبالتحديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سعت لتثبيت عدد من مصالحها عبر السيادة العسكرية كمنطق للثقافة الهولزية المتطرفة، فهي لم تتردد في القيام بعملية عاصفة الصحراء وثعلب الصحراء في العراق وإعادة الأمل في الصومال وفي هاييتي وفي البلقان ثم إسقاط حركة «طالبان» في أفغانستان وهزيمة البعث في العراق، وبالتالي فإن غلواء القوة الفاحشة قد طغى على الخطاب السياسي الأميركي بعد ظهور النظام العالمي الجديد، وخصوصاً بعد صعود اليمين المسيحي منذ أيام رئاسة رونالد ريغان، على رغم أن الكثير من الباحثين العسكريين والاستراتيجيين يرون أن واشنطن وبسبب عوامل داخلية لم تعد قادرة على حسم معاركها العسكرية في العقدين الأخيرين بسبب اعتمادها على الضربات الجوية لتحقيق معادلة (الخسائر = صفر) وبالتالي بقاء الفرصة الميدانية مفتوحة للعدو للتحول من حال الدفاع إلى الهجوم، وإذا ما أضيف إلى هذا العامل مسألة ارتباط التصعيد بمصير عدد من الملفات الأخرى التي يرى الأميركيون أنها من أهم الملفات الداخلة ضمن مصالحهم في المنطقة وأهمها مسألة الطاقة وطرق تأمينها والملف العراقي والقضيتين الفلسطينية واللبنانية بالإضافة إلى أمن الخليج، فإن الأمر يتجلّى في خط براغماتي مستعر يحتاج إلى معالجة فورية .
الإيرانيون وفي سبيل تحاشي حصول مواجهة بينهم وبين الأميركيين يحرصون على التأكيد على خياراتهم التقليدية، ومحاولة تظهيرها بشكل دراماتيكي؛ فهم يمتلكون شبكة علاقات واسعة في عُمق القارة القديمة كالهند والصين واليابان والنمور الآسيوية ومع أقرب حلفاء واشنطن في إفريقيا وأوربا وأميركا اللاتينية، والأكثر أنهم يمتلكون منظومة تسليحية متقدمة وجديّة وخصوصاً في مجال الصواريخ بعيدة المدى ووسائل الردع العسكرية، وهي (أي إيران) تتمتع بمساحة جغرافية هائلة تزيد عن 195،648،1 كيلومتر مربع وهي البلد السابع عشر من حيث حجم المساحة في العالم الأمر الذي يؤهلها لأن تستوعب الضربة العسكرية الأولى وأخذ المبادرة مرة أخرى، وهو بالتحديد ما حصل في سبتمبر/أيلول 1981 خلال عمليات ثامن الأئمة ثم عمليات الفتح المبين في مارس/آذار 1982 عندما قام الجيش الإيراني بهجوم مضاد ضد القوات العراقية أي بعد عام واحد فقط من نشوب الحرب، يُضاف إلى ذلك فإن الإيرانيين قد عمدوا إلى توزيع مراكزهم العسكرية في أكثر من واحد وثلاثين ألف ثُكنة موزعة على ثلاثين محافظة بعضها تحت الأرض ينتظم فيها أكثر من أربعة ملايين من أفراد الباسيج بُغية تشتيت أي ضربات عسكرية محتملة. وعلى رغم كل تلك الوسائل التقليدية التي باتت واضحة؛ إلاّ أنهم أيضاً يُديرون سياستهم الخارجية بمزيد من التعقيد واستجلاب القواعد السياسية المُركّبة وتحاشي الهرمية التقليدية في التعاطي مع المحيط الخارجي، مصحوبة بفرض معادلات واقع جزئية وطارئة يتم زرعها في قوس الأزمات الملتهبة وغير المنتظمة جغرافياً، وفي مسارات متّسقة ومتزامنة سعى الإيرانيون إلى استثمار القضايا المركونة في المنطقة وتحويلها من قضايا باردة إلى قضايا ساخنة تُحقّق لهم المزيد من الأهداف بعضها آيديولوجي والآخر يضمن لهم المزيد من فرص التأزيم لمشروعات الخصم، ففي الوقت الذي أهملت فيه الدول العربية موضوع القضية الفلسطينية واللبنانية وخيارها المُسلّح دخل الإيرانيون عبر بوابة دمشق إلى حيث حزب الله والمنظمات الفلسطينية المناضلة، وعندما أعرضت الدول العربية عن الاعتراف بالعملية السياسية في العراق ما بعد صدام حسين دخل الإيرانيون بكامل ثقلهم إلى هناك وأصبحوا قوة ضاربة إلى الحدّ الذي دفع بواشنطن للتباحث معها بشأن الوضع الأمني في الداخل العراقي، وهو الأمر ذاته الذي يُمارسونه مع الدول الغربية كما يحصل الآن في أميركا اللاتينية وحصل سابقاً في البلقان، لكنهم وفي الوقت نفسه يحاولون رصد المساحات الدبلوماسية الإقليمية والعالمية لتسويق سياسة المبادأة الناعمة، وتحقيق العدالة بين الدول لحلحلة إشكال " غياب التوافق على النظام العالمي " ومن الجهة الأخرى فإن المتابع لمكنون النظام السياسي الإيراني سيرى كيف تترمّز الكثير من المفردات والشعارات لصالح الخطاب العام للدولة، فالإسلامية والديمقراطية والتقنية القومية كلها أمور تُعبّر عن أصول رئيسية خالصة قد تكون بلا مراتب قيمية أحياناً طبقاً للظروف الحاصلة، فالإسلام عنصر حيوي مهم يُمثّل كاريزما النظام وجسره الممتد نحو المفارقة؛ حيث العيش بمنظومة سياسية / دينية فضفاضة، وفي الوقت نفسه محاولة مدّها بزمن آخر سحيق يُشكّل المنهل للقيمة الدينية لديهم، مع توّسل النصوص المجرّدة أحياناً أو استجداء العوارض التاريخية في أحيان أخرى .
وفي مرتبة الديمقراطية يتم إبراز القوة الشرعية للنظام عبر ربطه باستحصال رضا الناس ومقبوليتهم، لذا فإن الحكم في إيران عادة ما يحرص على إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبلدية والمحلية والخبرائية في وقتها المُحيّن وتصويرها على أنها صورة للذات الإيرانية التي لا تتحقق إلاّ بالعمق الجماعي، والراصد لعمليات الاقتراع الإيرانية سيرى أنه ومنذ انتصار الثورة الإسلامية في العام 1979 ولغاية الآن أجريت تسع عمليات انتخاب لرئاسة الجمهورية وسبع دورات انتخاب تشريعية وأربع دورات انتخاب خبرائية ودورتين لكل من المجالس المحلية والبلدية . وفي التعاطي مع مفردة التقنية القومية، تلحظ حجم المساعي لكيفية تفريسها وتوحيدها مع وجود الكثير من القوميات الأخرى (فرس، آذريين، أكراد، بلوش، عرب) التي تضطرب ثيماتها عند الحديث عن الولاء القومي، لذا فقد كان الغطاء الأوسع لتذويب تلك الفروقات هو صهرها ضمن فضاء أوسع هو الدين، ثم العمل على إعادة موضعة لقضايا الوطن العليا كما حصل بالنسبة للملف النووي الإيراني الذي تمّ تسويقه على أنه خط أحمر يمسّ جميع القوميات في إيران، وبالتالي فإنه يمس هيبة الدولة ومكانتها .
وبطبيعة الحال فإن ذلك الفهم السياسي للخطاب الإيراني هو بالتأكيد غير منفصل عن هوية الصراع المفتوح ما بين طهران وواشنطن ووسائله التقليدية وغير التقليدية لكنه يعطي صورة أوليّة لحجم التعقيد ضمن خيار المواجهة، ولحجم الأكلاف التي سيتكبدها الجميع، ليبقى التساؤل مفتوحاً : هل ستستطيع واشنطن أن تفعل بإيران كما كان ينوي الإدميرال وليام هولزي أن يفعل باليابانيين .. القتل ثم القتل حتى تتحقق نبوءته « لا أحد يتكلّم باليابانية إلاّ في جهنم " ؟!
التعليقات (0)