مَنْ يُسَوّي الحَاجِب لا يَقْلَعُ العَيْن
كلما أردت الحديث عن العراق أرى الدفوع لدي تتجه نحو استحضار المأساة ونعيها بدل التعليق السياسي وتحليل الوقائع ... لأن الدم بات غزيراً، والخطب عظيماً والمُصاب جلل، لذلك فإنني مُتيقن بأن الله وحده يعلم كيف هي الطريق إلى خلاص هذا البلد مما هو فيه من كرب أنسى من قبله وأتعب من بعده ... لأن الأمل في أغلب قيادات العراق السياسية ضاع وانتهى، ولم يعد أحد منهم قادراً على قول حق والنهي عن باطل، لذلك فإن الخلاص القادم لن يُعفَى من رمي غالبية تلك القيادات السياسية وتخليص العراق منهم، فهم جزء محوري ورئيسي في مشكلة العراق ومأساته، وبهم يدوم البلاء وبزوالهم ينحسر ... فمنهم من اعتصم بحبل الاحتلال طمعاً في المال والسلطة، وآخرون آوتهم مواخير الدم والقتل والتلذذ في إزهاق الأرواح من دون أدنى تفكير، بينما انصرف الباقون نحو مقاصل الأضاحي لا يدرون أين يأخذهم القدر ومتى وكيف لكنهم جميعاً متيقنون أنهم سيموتون لا محالة كقرابين لسماطي البلاء من عملاء رأوا في الاحتلال صورة مُحسّنة للتاريخ الدموي للاستعمار في بلادنا العربية والإسلامية، ومن خليط ضاعت فيه عناوين المقاومة بالجهاد بالطائفية وبالسحل، ولم يبق برزخ بينها يُعتدّ به لغربلة الصالح من الطالح .
قبل أيام ظهر رئيس كتلة التوافق العراقيّة عدنان الدليمي أمام وسائل الإعلام وقال كلاماً خطيراً يُؤسّس لمفرزة جديدة للإجهاز على ما تبقى من عروق بلاده النابضة ... فقد ناشد القادة العرب للتدخّل لإنقاذ العائلات السنيّة في بغداد من " هجمة صفويّة تريد اقتلاع أبناء السُنّة، وإعادة أمجاد إمبراطوريّة الفرس والمجوس، بعد تهجير أكثر من مليوني سنّيّ إلى سوريّة ومصر والأردن " وإذا كان الدليمي يُعَد من زعماء العراق السياسيين فعلى الدنيا السلام ! فالرجل الذي عُرِفَ عنه الهذيان، بدأ في تشخيص المأساة التي يُعاني منها البلد من كُوّة طائفية قومية من العيار الثقيل، فهو أراد النكاية بغرمائه، وبدل أن يَتّهم مُكوّناً رئيسياً من مُكونات الشعب العراقي ومسئوليته عن حمّام الدم العبيط أراد إقحام " إيران الشيعية " وخلط المذهبي بالقومي ليزيد من حجم الاصطفافات السياسية والطائفية هناك، فكيف لنا أن نُصدّق ما قاله الدليمي من هجمة " صفوية " تريد اقتلاع أبناء السنّة من العراق ؟! وما هي الآلية التي تتبعها طهران لإنجاز تلك المهمّة، فإن كان من خلال حرسها الثوري فهل استطاعت القاعدة أو الفصائل العراقية الأخرى من اعتقال جنود إيرانيين من الباسدران أو البسيج طيلة الفترة السابقة وإظهارهم على شرائط مصوّرة، خصوصاً وأنه يتكلم عن مليوني مُهجّر من أبناء السّنة ؟! وإذا كان الدليمي يقصد الميليشيات الشيعية فلماذا لم يُسمّها بالإسم فيستريح ويُريح ويُجنّب العراق والمنطقة خطر الصراع المذهبي المُوسّع ؟! وإذا كان الدليمي يتناجز بالأرقام فلن يستدر عطف أحد لأن الجميع في العراق مَوْتُورٌ ومفجوع، وإذا كان المصاب لدى السُنّة فالعزاء لدى الشيعة والعكس، وعلى رغم أنني آليتُ على نفسي أن لا أضع خماراً يصف ويشف ما يقع بين الشيعة والسُنّة في العراق إلاّ أن مقود الأمة اليوم يتناوب على ضبطه السّوي وغير السّوي، العاقل والمجنون الذي قد يحشرك في زاوية لا تغادرها إلاّ بصد جنونه، لذلك فإنني أودّ أن أشير هنا وبالأرقام إلى إحدى حقائق العراق المُرّة والتي وقعت في فترات زمنية متقاربة لمناطق شيعية، أذكرها فقط للتذكير بأن القتل والتهجير هو نصيب الجميع وليس شيئاً آخر :
(1) انفجار صهريج مملوء بالغاز أمام حسينية أهالي المسيب وسقوط أكثر من 500 قتيل وجريج .
(2) تفجير أربع سيارات مفخخة في مدينة الصدر أدت إلى قتل 202 مواطن وجرح 250 آخرين .
(3) هجوم على قرية الميرزات إحدى قرى محافظة ديالى أسفرت عن قتل العشرات وجرح المئات .
(4) العثور على عشرين جثة شمال قرية الأسيود في بعقوبة من بين ثمانين شخصاً اختطفوا من مرآب للسيارات في المقدادية شمال شرق بعقوبة .
(5) سقوط تسع قذائف هاون على قرية الذهب الأبيض من منطقة أبي غريب ببغداد .
(6) مقتل سبعة مدنيين وإصابة عشرين آخرين عندما قام انتحاري يرتدي حزاماً ناسفاً بتفجير نفسه وسط مطعم شعبي في منطقة بغداد الجديدة .
(7) اختطاف ثلاث سيارات بركابها الستة والثلاثين في مدينة سبع البور غرب بغداد «التاجي» وبالقرب من قرية المسارة وقتلهم .
(8) العثور على ثلاثة عشر جثة خلف جامع شنشل في حي الأطباء .
(9) انفجار سيارة مفخخة في السوق التجاري لمنطقة الكرادة الشرقية أوقعت عدداً من القتلى والجرحى .
(10) عمليات تهجير لمناطق الحصوة وأبو غريب والطارمية والغزالية والدورة، حيث تم تهجير أكثر من خمسة وعشرين ألف عائلة شيعية منها إلى المناطق الجنوبية في محافظات واسط والناصرية وغيرها .
بطبيعة الحال فإن الصورة الحقيقية على الأرض لحجم المأساة أكبر بكثير لسُنّة العراق وشيعته إذا ما تذكرنا أن أعداد القتلى والمفقودين والمعتقلين والنازحين طبقاً لبعثة المساعدة التابعة للأمم المتحدة في بغداد هو 34452 قتيلاً، وان أكثر من 36 ألفاً أصيبوا في العام 2006 فقط! وأن أكثر من 9 ملايين مهجّر يواجهون نقصاً محتملاً في الأغذية، وأن الكثير من القتلى يدفنون من دون علم ذويهم ومن دون تدوين في الكشوفات الرسمية، والحديث عن اكتشاف العشرات من المقابر الجماعية التي تضم الآلاف نتيجة تصاعد وتيرة العنف الطائفي . وبالتالي فلا يحق لأحد أن يستجدي عطف أحد أو يحتكر المأساة له وحده بغرض تمرير مشروعات سياسية لا تتحملها المنطقة، أو أن يُكّرر سيمفونية قديمة كانت سوقها رائجة بين العثمانيين والصفويين .
التعليقات (0)