أمنُ الخليج .. ليس بحـاجة إلى عين تدمع
شكّل أمن الخليج اهتمام الكثير من القوى الإقليمية والدولية لما تُمثّله هذه المنطقة من عمق استراتيجي يتصل بما تتربّع عليه من ثروة هائلة، وبما تتيحه هذه المنطقة من نقطة عبور وارتكاز نحو الشرق عبر البوابة الإيرانية التي تنحدر حتى الجنوب الأدنى الواصل إلى فضاء مضيق هرمز وبحر العرب وبالتالي إلى الجنوب الشرقي لقارة آسيا، والتحكّم عبر التحالفات والتناكفات في المنافذ المؤدية إلى خطوط الاتصال البحرية في المحيط الهادي وخصوصاً مضيق هرمز الذي يمر منه 40 إلى 50 في المئة من الطاقة العالمية يومياً.
لذلك فقد كَثُر الحديث عن أمن منطقة الخليج وإذا ما كان هذا الأمن يتصل بالأنظمة الحاكمة لجيوبه السياسية أو بأمن عموم الحاضنة الجغرافية للإقليم، ثم تطور ذلك الحديث نحو أمور التباين عن العوامل والمقومات القادرة على إقامة نظام أمني مازالت تفاصيله محل جدل واسع يتعلّق باللاعبين الأساسيين والعَرضيين فيه، وتقاسم ذلك بين العمق الإقليمي والدولي، وهو ما ترجمته وتُترجمه حدة الصراع بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية الإيرانية اللتين تختلفان في الكثير من قضايا المنطقة وخصوصاً تلك المتعلقة بالأمن الخليجي وميزانه واعتماداته .
فأمن الخليج كان إبّان الحكم الشاهنشاهي محكوماً بالتوازنات التي كانت تفرضها الحرب الباردة وما أفرزته من سيرورة الشاه محمد رضا بهلوي أحد أهم حلفاء واشنطن في المنطقة وحارسها الأول والمفرزة الأميركية المحلية في كامل محيطه، ثم أمن الخليج بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران مطلع العام 1979 وما لحق به من هزات سياسية وأمنية خطيرة نتيجةً للحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) والتعبئة الإسلامية التي صاحبت تلك المرحلة . وأمام ذلك النموذجين عاشت منطقة الخليج طيلة هذه الفترة مسكونةً بالهاجس الأمني الذي بات بنظرها مُهدداً بفعل اختلاف الحجم والقوة بينها وبين العراق تارةً وبينها وبين إيران تارةً أخرى، وهو إشكال كبير تُعززه الذاكرة القريبة التي لم تلتئم جروحها بعد منذ 22 سبتمبر/ أيلول 1980 وامتداد ذلك إلى صراع طويل دام ثمانية أعوام وإلى غاية احتلال صدام حسين الكويتَ في 2 أغسطس/ آب 1990، وبالتالي بقاء الثيمات الأمنية ذاتها والتي كانت تعمل إبان النصف الثاني من القرن العشرين عبر اللجوء إلى الخارج لتجميد هذا الهاجس أو ترويضه فضلاً عن الرغبة في القضاء عليه .
ولكن ذلك الخيار بقي محل جدل واسع غير مُجمع عليه، وبات مُهدداً من خلال معضلتين رئيسيتين، الأولى : التباين بين التوجهات الرسمية للأنظمة السياسية في الخليج وبين شعوب المنطقة تجاه الولايات المتحدة الأميركية، ليتحول لاحقاً بفعل عوامل سياسية متبدلة إلى ممانعة مسلحة يقودها تنظيم «القاعدة»، والثاني: عبر المعارضة الإيرانية لهذا الوجود العسكري خوفاً من تعرضها لهجوم مباغت من قِبل الولايات المتحدة الأميركية، والتوجس من تكوين جبهة مضادة لبناء الهوية الإقليمية وخصوصاً أن الأمن مفهوم مرتبط بالهوية ولا يمكن أن يُنشأ أمن إقليمي ما لم يتم توسيع هوية إقليمية قابلة للتطبيق وهذا يتطلب مراعاة مصالح جميع اللاعبين؛ لذلك فإذا ما غُيِّب الدور الإيراني فإن الهوية الإقليمية ستكون مرتبكة ومُركّبة في آن واحد، وهو ما يدعم نظرية الأمن المزدوج (الصارم والمريح) القائم على إقامة علاقات طبيعية مع دول إقليمية مع التقليل من الاعتماد على القوة العسكرية الأميركية، وهي جوهر التطلعات الإيرانية إلى منظومة الأمن الخليجي على الأقل في الوقت الراهن وفي ظل تعاظم أزمة العراق الأمنية والسياسية، وأيضاً من خلال تمكين المؤسساتية من التغييرات التي تطرأ في المفاهيم الراسخة للدول عبر مزيد من اتفاقات التعاون .
الخليج .. هاجس الحجم والقوة
مع بداية ترنّح القوة العسكرية البريطانية خارج الحدود وخصوصاً في منطقة الخليج بُعَيْد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وما أفرزه ذلك من سيطرة أميركية بديلة تتحكّم في منسوب الصراعات الإقليمية في منطقة الخليج، بدأت واشنطن إعادة صوغ المنطقة بشكل مختلف إلى حدّ ما، فوضعت إيران (1984 وإلى غاية الآن) والعراق (1979-1982 ثم من 1991 حتى سقوط نظام صدام حسين) على قائمة الدول الراعية للإرهاب «Terrorism List» وميّلت كفّة العراق في حربه ضد إيران (1980-1988) للحد من النفوذ الإسلامي الناشئ بعد الثورة الخمينية .
بل إنها اشتبكت مع القوات الإيرانية بين عامي 1987 و1988 في معارك بحرية طاحنة وقصفت مصافي النفط في عبادان وأسقطت طائرة أيرباص الإيرانية «المدنية» وعلى متنها 290 راكباً بينهم 64 طفلاً في يوليو/ تموز 1988، وبعد انتهاء حرب الخليج الثانية صاغت واشنطن على يد السفير مارتن إنديك سياسة الاحتواء المزودج «Dule Containment» ضد كل من إيران والعراق للحد من نفوذهما عبر إرهاقهما اقتصادياً وسياسياً . وبشكل متوازٍ وفي سبيل سد الفراغ الاستراتيجي الذي خلّفه خروج العراق من معادلة الصراع الإقليمية والدولية منذ العام 1991 واحتواء النفوذ الإيراني بدأت الولايات المتحدة توثيق علاقاتها بدول الخليج عبر اتفاقات أمنية وعسكرية «Classified» فوقّعت مع البحرين في 28 يناير/ كانون الثاني 1991 اتفاقاً دفاعياً (على رغم أن وجودها في هذا البلد يرجع إلى العام 1948) وجدّدت اتفاقها مع سلطنة عُمان في العام 1990، فالكويت في 19 سبتمبر/ أيلول 1991 (جُدّد هذا الاتفاق في العام 2001 مدة عشر سنوات) فقطر في 23 يونيو/ حزيران 1992 ليتطور لاحقاً وتصبح القيادة الأميركية المركزية في الشرق الأوسط في الدوحة، ثم الإمارات في 25 يوليو 1994 عبر استخدام البوارج الأميركية لميناء جبل علي وقاعدة الضافرة . بل إن كلاً من البحرين وعُمان قد تلقتا دعماً عسكرياً مجانياً من خلال بند معدات الدفاع الفائضة الأميركية على أساس منح «EDA» فتلقت عُمان 30 دبابة والبحرين 48 دبابة من طراز «M-60A3» وأيضاً فرقاطة حربية وبطاريات للدفاع الجوي من طراز «Hawk».
وكانت الولايات المتحدة تهدف من كل هذه الإجراءات إلى تمكين سياستها في المنطقة وخصوصاً في حربها ضد ما يُسمى الإرهاب العالمي الذي تفتّقت جذوره بشكل أكثر بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001؛ لذلك فهي جاهدت لأن تشرك دول الخليج في مشروعات ما بعد 11 أيلول والتي كانت باكورتها عملية الحرية المستدامة في أفغانستان «Operation Enduring Freedom» ولاحقاً في ملف العراق وسيرورة هذا الملف الشائك كالإسفين الناتئ ضمن تعثر الكثير من مشتركات العلاقة الخليجية الأميركية وخصوصاً بين الرياض وواشنطن، عن أمور تتعلق بما آل إليه هذا البلد من محاصصات طائفية . وقد أضحت الأهداف الأميركية واضحةً للعيان في أنها لا تخرج عن إعادة صوغ الولاءات العسكرية والسياسية وإنهاء المقاومة في جنوب لبنان (حزب الله) وفي فلسطين (الفصائل المسلحة وأبرزها «حماس» والجهاد الإسلامي) وتأمين مصادر الطاقة في الخليج واحتواء ما يُسمى الإرهاب ومحاولة تحجيمه والقضاء عليه وأخيراً حسم الخلاف مع إيران إما بالمواجهة وإما القبول بتقاسم النفوذ .
أما على المستوى الاقتصادي فإن الولايات المتحدة الأميركية ومنذ أن جعلت وارداتها من النفط مقابل صادراتها في العام 1948 فإنها تولي منطقة الشرق الأوسط ومنطقة الخليج بالذات عناية استثنائية على اعتبار أنها تحوي أكثر من 60 في المئة من احتياطات النفط العالمية، ففي العام 1970 طرحت نظرية «العلاقة المتبادلة» التي تقضي بتأمين تصدير النفط إليها، وخصوصاً أن الولايات المتحدة الأميركية تنتج أكثر من 9 ملايين برميل في اليوم ولكنها تستهلك ما يربو على 16 مليون برميل في اليوم أيضاً .
وأمام هذا التراكم الأميركي للأمن في للمنطقة، أشاح ذلك عن جزء مضمر من أسرار الصراع بين الولايات المتحدة وخصومها وتحديداً الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حتى لكأنه يحمل سمات الصراع فوق/ سياسي، وعلى اعتبار التأسيس الديني الجديد للسياسة الأميركية والمتكوّن وفق التفسير النصّي للعهد القديم وفق بروتستانتية غير منضبطة تبلورت لاحقاً على شكل محافظين جدد؛ فإن الخطر في جرّ المنطقة إلى لهيب صراع ايديولوجي غير منتهي وموصول بما ترتكز عليه السياسة الأميركية من «ميتا - استراتيجيا» يبقى رهاناً خطيراً سيضر بمنطقة الخليج بشكل مباشر ويحرمها الاستقرار، وخصوصاً أنها المنطقة الأكثر اهتماماً بالنسبة إلى دول العالم، في حين يبقى المشروع السياسي الإيراني (الديني) هو الخيار الأنجع بالنسبة إلى دول الخليج لما له من مشتركات جغرافية واقتصادية وسياسية تحكمها فروض دينية هي في الأصل متماهية مع دين وأعراف هذه المنطقة برمتها منذ الفتح الإسلامي لبلاد فارس في قبالة المشروع الأميركي المتصهين، وأيضاً في قبالة المشروعات الإيرانية القومية (الشوفينية) الأخرى التي تتطلع إلى الإطاحة بالنظام الإسلامي في إيران والوصول إلى السلطة عبر الدبابة الأميركية . وهي بالمناسبة لا تقل شاهنشاهية عن النظام البهلوي، والمفترقات بينها وبين العالم العربي أوسع بكثير من المشتركات وخصوصاً إذا ما دخلت في صفقات ومساومات تحكمها المصالح مع الولايات المتحدة الأميركية فيما يخص أمن المنطقة والتوازن مع الكيان الصهيوني .
وعلى رغم أن هذا النسيج المزدوج للعلاقات الخليجية الأميركية وما أفرزه من وجود عسكري مباشر تحكّم في الأجواء الأمنية، وعلى رغم أن غالبية دول الخليج قد بنت تصوراتها الأمنية والسياسية حتى العسكرية من مرحلة الحرب الباردة فإنها وفي هذه المرحلة أحوج من أي وقت مضى لإدراكها المزاج الدولي والسلوك الاستراتيجي للقوى العظمى وأيضاً القوى الإقليمية . وهو ما يبدو أن هذه الدول بدأت استيعابه بعدم تمنّعها من إقامة علاقات ثنائية مع أطراف نديّة للولايات المتحدة الأميركية كإيران في الوقت نفسه الذي حافظت فيه على علاقاتها النوعية مع واشنطن، فهي باتت أكثر إدراكاً أنها وإيران مجتمعة تشكلان إحدى خواصر القارة القديمة بنسبة تزيد على 10 في المئة من مساحة القارة (44 مليون كيلومتر مربع) وبالتالي فهي تتشاطأ معاً وتحمل المصالح ذاتها، وخصوصاً أن الجميع يُدرك أن إيران كانت أكثر قدرة على استخدام القوة الناعمة في تحقيق أهدافها المباشرة مستفيدةً من صلتها الجيوسياسية بين الشرق والغرب وبعلاقاتها التاريخية بإقليم الخليج وثقافته.
وعليه، فإني أعتقد أن تجاوز دولة الكويت أزمة الاعتداء على أحد دبلوماسييها في طهران نهاية شهر يونيو/ حزيران الماضي وأيضاً تسويتها الجرف القاري في الخليج مع طهران قد بيّن حرص الكويت خصوصاً والخليج عموماً على سحب كل ما يؤدي إلى تعكير صفو العلاقات الثنائية، كما أن السياسة الخارجية (المسئولة) لدولة الإمارات بعدم إثارة موضوع الجزر الثلاث أثناء زيارة الرئيس محمود أحمدي نجاد الأخيرة لأبوظبي قد أرجع مثل هذه الملفات إلى الدبلوماسية النشطة والحكيمة، من دون أن يُسمح للإعلام بأن يُمارس دوراً تحريضياً بعناوين شتى، بل إن الإمارات لم تتمنّع أن تكون الشريك التجاري الأكبر لإيران (7.67 مليارات دولار في 2006) وهو ما يعني وجود أرضية جيدة لإقامة علاقات مستقرة ستكون بالتأكيد في خدمة الأمن والسلم في منطقة الخليج .
التعليقات (0)