كُلَّمَا أَنْبَتَ الزّمَانُ قَنَاةً .. رَكَّبَ المَرْءُ لِلقَنَاةِ سِنَانَا !
كلما تعاظم «مُقدّس» القوة والمال والنفوذ؛ قدّم شِرَارُ الإنسانية مزيداً من اللحم الآدمي ممزوجاً بمرقه القاني المهيب... وفي كل جولة من جولات الأضاحي والقرابين البشرية تلك يتفنّن الأقوياء في كيفية إبراز نَزَقِهِم وإذلالهم للآخرين، ويتفنن الضعفاء أيضاً في إبراز صورهم ومأساتهم التي لا يتحكّمون فيها (شكلاً ومضموناً) بقدر ما يكونون نتيجة حتمية لبشاعة الظلم الواقع عليهم، وبين معارك الأقوياء ضد الضعفاء، ونهب الأغنياء للفقراء، وسُخرة الإقطاعيين للبؤساء، سجّل التاريخ أبشع أنواع العداوة والحقد والتنكيل بين بني البشر .. ففي العالم الجديد مزّق الرجل الأبيض لُحمة السُكان الأصليين للأميركتين (الهنود الحمر) بحرقهم وسحلهم وتسميمهم إلى درجة الإبادة الجماعية المشاعة، وصيرورتهم أقلّية متناثرة في أرضهم التي لا يعلم أحد كيف وصلوا إليها، وفي ألمانيا استخدم النازيون الأفران لقتل اليهود كجنس منبوذ بمفهوم الرايخ الثالث وصليبه المعقوف، وفي كمبوديا قام الخمير الحمر بعد هزيمة الجنرال لون نول المدعوم من الولايات المتحدة بإرسال الطلاب والأساتذة إلى مضارب العمل ليل نهار حتى الموت لينجلي عهدهم بعد أربع سنوات لتكون الحصيلة مليوني ضحية، وفي البيرو قامت جماعة الدرب المضيء بحرق القرى، وإعدام المزارعين الفقراء شنقاً أمام عيون أطفالهم ونسائهم، وفي الجزائر كانت الجماعات الإرهابية تستخدم الفؤوس والأسِنَّة، لتمزيق الأجساد في بن طلحة وباب الواد والقبة وبراقي لا تُفرّق بين صغير أو كبير، وفي البوسنة قام صربها في مجزرة سربرنيتشا المُروّعة بفصل النساء والأطفال واغتصاب النساء أمام أطفالهن، وإعدام الرجال ونقل جثثهم إلى ثمانية وعشرين موقعاً لإخفاء معالم الجريمة، التي بلغ عدد ضحاياها عشرة آلاف قتيل، وفي العراق فالمشهد خليط من كل ذلك وأكثر، إذ تلتحم الأجساد الممزقة وأبخرتها مع رائحة البارود وصيحات الجرحى والمُسعفين الذين انتشلوا أطفالاً أحياء من تحت أذرع أمهاتهم وذويهم المتفحمة بُعيد التفجيرات الأخيرة في أحياء الصدرية والصدر والكرادة والسيدية وطويريج، وكأن الناس قد عادت إليهم جاهليتهم، وترى الشيعة تُذبح والسُنّة تُسحل، والكل ضد الكل، إلى الحدّ الذي دفع بالبعض إلى أن يخشى على الشعب العراقي بأنه سيفنى عن بكرة أبيه لا محالة .. أو تكون بغداد كما جاء الأثر ليمر المار عليها فيقول : ها هنا كانت الزوراء ! وفي كل يوم يمضي على تدنيس المحتل لبلاد الرافدين تزداد المأساة ويكبر الجرح، ويُمسي الشعاع الذي هو في آخر النفق باهتاً لا يُقدّم أدنى بارقة أمل، لتبقى أرض العراق أفضل أنموذج للكوارث الإنسانية التي كان أبطالها شواذ السياسة والفكر في الشرق والغرب. وقد تنشط الذاكرة كلما استدعينا نماذج من أزمنة العار البائسة؛ عندما كانت الأنظمة الفاشستية ترعى مباضع الظلم ضد جنس من البشر ليس له ذنب سوى أنه لم يكن مثلهم، وعلى رغم أن استدعاء تلك النماذج لا يكون بالضرورة بذات الملامح وبذات الشخوص، إلاّ أنه قد يتطاوع ومتطلبات الزمكان، فيأتي بصورة مُحسّنة لكنها إلى الأسوأ غالباً، ليبدأ المخيال البشري في إعادة إنتاج ذات المأساة بأشكال وتبريرات هي في كُنهها أشدّ سوءاً من سابقتها. وعندما كان صدام حسين يحكم العراق بالحديد والنار كان نظامه لا يعدو كونه نسخة أخرى من النظام الآبارتهايدي الديكلوركي العنصري عندما قرّر إماتة مياه أهوار الجنوب وطرد سكّانه، أو تهجير الأكراد وتلويث سمائهم بالغازات المميتة، واليوم تُكرّر الولايات المتحدة الأميركية ثقافة البانتوستان وشعار فاقدي الأرض العنصرية بتسويرها أحياء بغداد (حي الأعظمية مثالاً) بثلاثة أميال وبارتفاع اثني عشر قدماً بحجّة منع الهجمات على الأحياء السنّية ومنها، ومنع الانتحاريين وفرق الموت ومقاتلي الميليشيات من الأحزاب الطائفية مهاجمة بعضهم بعضاً .
الغريب أن هذه الحجّة إن تمّ التسويق لها فإنها ستنسحب على جميع مناطق بغداد المختلطة أصلاً كالبارودية والصدرية والوزيرية والغزالية والجادرية والزعفرانية والرستمية والطارمية والعامرية وغيرها من المناطق المختلطة، ثم الأغرب من كل ذلك هو دعوة وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بـ «مد اليد إلى السُنّة»! متناسياً ما فعله ويفعله جنوده في اللطيفية وبعقوبة والدورة من مجازر دموية ذكرها أحد العراقيين مرة بأنه كان مزكوماً من رائحة الدم عندما مرّ على أطراف مدينة الفلّوجة في يوليو/ تموز من العام 2004 بعد استباحتها من قِبل القوات الأميركية والعراقية !
ولأن المصاب جلل، والحدث جسيم، فقد كَثُر الحديث عن غرائب ما يجري هناك، فبات البعض يتحدث عن أن العراقيين باتوا يتنقلون فيما بينهم من فوق أسطح المنازل كوسيلة آمنة من الشارع الذي لا يعلم أحد ما فيه من مخاطر، بل إن البعض صار يتحدث عن أن سكان بغداد بدأوا يلجأون إلى الزوارق للتنقل بين ضفتي نهر دجلة الذي يفصل بين جانبي بغداد، الكرخ والرصافة كوسيلة آمنة أخرى تقيهم من نقاط التفتيش الحقيقية أو الوهمية والسيارات المفخخة .
العراقيون الذين تجاوروا مئات السنين لم يعهدوا ثقافة الطائفية مطلقاً، والكل يعلم حجم التداخل والمصاهرة فيما بينهم في العائلة الواحدة، بل إنهم وفي هذه الظروف القاهرة مازال الشيعة منهم يبحثون عن أرزاقهم في الأعظمية والدورة، وكذلك السُنّة يفعلون ذات الأمر في الكاظمية والصدرية، وخصوصاً أن منطقتي الأعظمية (شرق دجلة) والكاظمية (غرب دجلة) هما من أعرق المناطق البغدادية الممتهنة للتجارة تاريخياً، والأكثر من ذلك، فإن العوائل السُنيّة التي تُهجّر من مناطقها ضمن فرز طائفي بغيض تُمارسه الميليشيات تكون في عهدة سريّة لدى العوائل الشيعية في ذات المنطقة حتى يأذن الله في أمرها، وكذلك العوائل الشيعية كما حصل في المدائن قبل عام ونصف... ولأن العراقيين لم تعد تعنيهم كثيراً تلك المُسمّيات الطائفية فقد قال أبوقصي وهو صيدلي بغدادي مُعقباً على سور الأعظمية التي تُشيّده القوات الأميركية منذ العاشر من إبريل/ نيسان الجاري، بأن هذا الجدار قطع الطريق إلـى مطعم الكباب المفضل إليه ! .
التعليقات (0)