العـدالـة وعقـلانيـة الثـورة:”الطـف “ انمـوذجـاً
على مسار حركة التاريخ سعت الرسالات السماوية الى تحقيق مفهوم العدالة بين افراد المجتمعات كقيمة اخلاقية، تستمد فكرتها من العدل الالهي، والعدالة ليست مفهوما علميا، ولا أمرا قابلا للقياس والمقارنة، ولاهي موقف خاضع للتجارب العلمية، في حين انها تقييم خلقي وتاريخي للموقف الانساني تستلهم الشريعة السماوية واهدافها، وهكذا فالفعل يكتسب قيمته العدالية اي يصبح فعلا عادلا عبر ارتباطة بالشريعة، وهكذا يصبح الفعل الشرعي فعلا عادلا. واستنادا الى هذه الفكرة يمكن تقييم ثورة الامام الحسين عليه السلام بوصفها ثورة عادلة من خلال شرعيتها، وارتباطها بالاصول الالهية، اضافة الى فكرة عقلانية الثورة المستمدة تاريخيا من عوامل روحية وثقافية تؤثر تاثيرا عقلانيا في مسارات احداث حركة التاريخ في مسيرتها لتحقيق سعادة الانسان مع ملاحظة مشاركة الانسان كعامل اساس في صنع التاريخ.
إن النظر الى الثورات بإعتبارها عمليات تغيير تهدف الى تحقيق العدالة من موقف شرعي يتبنى حاجات الانسان الروحية والاجتماعية والاقتصادية، يعتمد على تقييم الثورة وفق المعيار الشرعي، وبهذا فهي لاتخضع لحسابات الربح والخسارة من مفهوم مادي في الوقت التي تتجاوب فيه مع تطلعات الانسان لتحقيق دولة العدل وهذه ترتبط من جانب آخر بالوعي، وهنا يتجلى الفرق بين الاهداف الخياليه والاسطورية للثورات المادية، بوصفها تنزع الى تحقيق اهداف مجزوءة وغير كاملة او ان تفاعلاتها قصيرة التاثير، قد لاتتجاوز المرحلة الزمنية لولادة الثورة، وهذا يكشف عن قصور ذاتي في عواملها وغاياتها، وبذا تفقد الثورة مصداقيتها واندفاعها بفقدانها لعوامل شرعيتها فتصاب بالجمود نتيجة لعدم التفاعل بين عواملها وغاياتها، فالثورة الفرنسية فقدت عنفوانها واندفاعها بعد اقل من ثلاثة عقود على ولادتها على الرغم من كل الاحلام الجسام التي بنيت عليها، وعلى الرغم من اهدافها التي جعل منها مؤرخو الغرب آخر مطامح الانسانية التي تمثلت بمقولات العدالة والمساواة والاخوة.
لقد اختفت الثورة الفرنسية ولم تعد عاملا محركا للفكر الثوري الحديث وضاعت بين مفاهيم ومقولات النظام الغربي والذي هو الاخر اثبت فشلة بعد انهيار نظرية نهاية التاريخ لفرانشيسكو فوكوياما والتي انكرت في حينها حق الانسان في التغيير المرتبط بالجانب الروحي، وافتقدت الشكل العقلاني في تعاملها مع الانسان كصانع ومؤثر في حركة التاريخ والتي تتفق الى حد كبير مع الفلسفة الماركسية في ضياع الهدف الحقيقي، وقصور العوامل، اذ كلتا المدرستين اعتمدتا على شرعية وهمية، وتبنت قيما لاتتفق مع الحس الانساني وقدمت مشروعا مشوها لاينتهي الى غاية حقيقية.
في الجانب الاخر نجد البناء الكوني لثورة الامام الحسين عليه السلام، فالجذور التاريخية للثورة تستمد شرعيتها من الشريعة الاسلامية، وفكرة الخلاص في المجتمع الاسلامي متجذرة في اصل العقيدة، وتحرك الموقف باتجاه الثورة التي لايمكن ان تتحقق تاريخيا وشرعيا في فكر أهل البيت الا من خلال القيادة الشرعية، فكان الامام الحسين بن علي عليهما السلام، والخلاص ليس تخمينا ميتافيزيقيا، او فكرا وهميا متجردا عن الاصل العقائدي، بل انه قوة تعبوية للامة في مسيرتها نحو تحقيق مثل عليا، وهنا تتحقق عقلانية الثورة بوصفها تمهيدا عميقا لذهنية الامة في مسيرتها نحو المستقبل الاكثر املا، فتكون ثورة الامام الحسين اشراقا مستقبليا لتحقيق دولة العدل، وباسم حركة التاريخ باتجاه الخط الرسالي، وهنا نجد اهمية الانسان الفرد، واهمية الامة في تجاوز العقبات بما تملك من عوامل روحية وعقلية تجعلها تتطلع باستمرار نحو مثل عليا وان تعرضت وتتعرض باستمرار الى حالات من النكوص نتيجة لانحرافه واتباعها في بعض الاحيان مثلا مزيفة، لكنها تبقى تمتلك في ذاتها قدرات داخلية من عقيدتها تدفعها نحو النهوض، فعملية التغيير تبدا من الذات لازالة كل حالات الاستغلال والاستلاب، وهي تعتمد على الانسان في ادراك التناقض بين المادي والروحي، كما ان ادراك الانسان المؤمن بان التناقض بين المصلحة الفردية والجماعية سيزول ويتلاشى عبر الايمان بان حياة الانسان كوجود وقيمة لايمكن ان تنتهي بالموت الجسدي باعتبار الجزاء الاخروي، ما يرتب ارتباط الفكر الثوري بالحياة الاخرة ارتباطا عضويا وليس ميتافيزيقيا، فيعطي للثورة قيمة عقلية عليا.
ان فكرة تحقيق الحياة الاخرة عبر العمل في الحياة الدنيا تكرس قيما ومفاهيم العمل الصالح وتقوى الله والجهاد، والتي تتجاوز بصورة جذرية الاطر الانية والنفعية الضيقة للثورة من مفهوم الفكر المادي. فثورة الامام الحسين استلهمت ديموميتها وعبقريتها وعدالتها من العقيدة السماوية لتحقيق سعادة الانسانية كل الانسانية، والفرد سيكتشف ذلك من خلال ادراك القيم الحقيقية لعدالة الثورة وعقلانيتها.
التعليقات (0)